المجموعة التي اتُهمت بالقيام بعمليات، وبمحاولات، إرهابية في المملكة المتحدة تضم حتى الآن سبعة أطباء، تعود جذورهم إلى الأردن والعراق والهند وباكستان، ولكن يجمعهم شيء واحد. quot;غزوة الأطباءquot; هذه تشكل بلا شك تطورا جديرا بإثلاج الصدور وملئها بالحبور، يدل على نضج حركة quot;الجهاد الإسلاميquot; العالمية.

(1)
لا نفهم اندهاش واستغراب وهلع البعض في بريطانيا والغرب بسبب قيام أطباءٍ ـ كان الظنُ حتى الآن أن المفترض فيهم رعاية وعلاج المرضى ـ بأعمال جهادية؛ وكأن هناك تناقض بين العملين. هؤلاء الأطباء المجاهدون لم يَنقُضوا قسم quot;أبوقراطquot; (460ـ457 ق. م.) الشهير، مع افتراض أنهم أقسموا عليه أصلا. إنه لا ينص على حظر استخدام القنابل الحارقة أو القيام بعمليات انتحارية، بل يقول فقط: [أُقسم.. على الوفاء بهذا اليمين حسب قدرتي وحكمي على الأشياء.. وتبليغ ونشر المعارف الخاصة بهذه المهنة بإسداء المشورة وإلقاء المحاضرات وكل طريقة أخرى للتعليم إلى أولئك الذين ارتبطوا بقسم وفقا لقانون الطب ولكن ليس لأحد غيرهم. وسوف أتبع نظام التغذية الذي أعتقده وفقا لقدرتي ومدى حكمي على الأشياء ذا منفعة لمرضاي وأمتنع عن كل شيء ضار أو مؤذ لهم ولن أعطي دواء مميتا لأي شخص إذا طلب مني ذلك ولن أشير أيضا بمثل هذه المشورة.. وسأحفظ نفسي في معيشتي وفي ممارسة مهنتي على الطهارة وعفة النفس.. وأينما حللت توخيت منفعة المريض وسأمتنع عن أي فعل إرادي يستهدف الأذى أو الفساد]. هل في هذا الكلام ما يحد من حركة أطباء إسلاميين؟ لا أبوقراط ولا حتى أبو عشرة قراريط يحظر عليهم ما يفعلون من محاولات quot;قتل رحيمquot; ضد حفنة من الأفراد ـ قلت أو كثرت ـ إرضاء لرغبات الإله!
بل إن مراجعة مفصلة لـ quot;القَسَم الطبي الإسلاميquot; الذي يلتزم به معظم أطباء العالم الإسلامي الآن بدلا من quot;قسم أبوقراطquot;، أو quot;الدستور الإسلامي لأخلاقيات الطب والصحةquot;، تؤكد أن الإخوة الأطباء المتهمين لم يفعلوا شيئا يناقضه! فهو ملئ بالكلام الجميل حول علاقة الطبيب بالمريض، وبمؤسسته العلاجية وبالأبحاث وبالمجتمع.. لكن بالطبع quot;في إطار الشريعة الإسلاميةquot;.
وتحت بند quot;واجبات الطبيب نحو مجتمعهquot;، مثلا، يقول: quot;على الطبيب أن يكون عضواً حيوياً في المجتمع ويتعامل معه ويؤثر فيه ويهتم بأمورهquot;. هل هناك تعامل مع وتأثير في واهتمام بأمور مجتمع أكثر من تفجير سيارات مفخخة في قلبه، باعتبارها وسيلة حاسمة لتقويمه وإصلاحه وإخضاعه لسيادة الإله وشرعه؟

(2)
غزوة الأطباء تدل على أن العالم الإسلامي (أو بصورة أدق الشريحة الأعلى صوتا فيه) قد نجح في رد اعتباره الذاتي عن طريق توكيد التفوق في القدرة على المبادرة والابتكار، برغم مزاعم المحللين والباحثين الصهاينة من عينة بيرنارد ليويس. فبعد مرحلة تطويع التكنولوجيا، مثل تحويل طائرات ركاب إلى صورايخ حارقة، أو استخدام الأحذية أو زجاجات السوائل كقنابل، أو استخدام التليفون المحمول كمفجر قنابل، أو ـ بصورة أوسع ـ استغلال العولمة والإنترنت والفضائيات كأدوات ووسائل فاعلة؛ بعد كل هذا تأتي غزوة الأطباء في وقتها لتبين كيف يمكن تطويع quot;مهنةquot; بأكملها (وأي مهنة!) لتصبح أداة طيعة في سبيل الرسالة السامية.
ـ ونجح أيضا في توحيد حركته بنبض واحد وإيقاع متناغم. فبنفس الفترة الزمنية التي تمت فيها تلك الغزوة، وإضافة إلى القتال والاقتتال العاديين في العراق وأفغانستان وباكستان وفلسطين ولبنان الخ، قام أخوة مجاهدون بهجوم انتحاري ضد عدد من السائحين الأسبان في مأرب باليمن (علما بأن أسبانيا لم يعد لها قوات في quot;أرض الإسلامquot;)؛ ووقف محامي الدولة في مصر أمام محكمة القضاء الإداري العليا (نائبا عن وزير الداخلية، وبصورة عامة عن رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية) ـ وهو يحمل لقب quot;دكتورquot; في القانون ـ ليصرخ بأعلى صوت أنه لو حاول مسلم في مصر أن يغير دينه، فسوف quot;يقطع رقبتهquot;؛ وأُحبطت محاولة إرهابية ضد مطار كنيدي بنيويورك، بدأت محاكمة أربعة متهمين فيها؛ وقامت حكومة مقاطعة كيلانتان بشمال شرق ماليزيا بهدم كنيسة تابعة لسكان البلاد الأصليين، بتهمة كونها quot;بنيت بدون تصريحquot;؛ وهوجم دير ومدرسة تابعة له في إمارة غزة، الخ.
ـ ونجح أخيرا، وهو الأهم، في قطع خطوة هامة وحاسمة على طريق توكيد وتأجيج الصدام والصراع ضد الحضارة (الغربية)، عن طريق السعي لهدم أسسها ذاتها. فالعمليات الجهادية لم تعد فقط ترمي لإحداث خسائر بشرية أو مادية كبيرة، أو بث الانزعاج والفوضى أو تشتيت الجهود الأمنية ورفع كلفتها ـ بل بالأحرى إلى اختراق المجتمع المفتوح المبني على الحرية والثقة، لاستغلال الحرية ضده ولنزع الثقة من قلبه. فهل هناك أكثر من الشك في نوايا الطبيب المعالج، الذي فتح الغرب أبوابه له بالدراسة والعمل، بعد رفع شعار quot;من يعالجونكم سيقتلونكمquot;؟ وإذا أدت الإجراءات الأمنية إلى اتهام بعض المسلمين الأبرياء، فهل سيكون هذا غير ذريعة إضافية مطلوبة لتأجيج الغضب وتسخين الهياج وإطلاق المزيد من الاتهامات لتبرير المزيد من العمليات؟

(3)
لا نفهم تصريحات quot;خبراء الإرهابquot; في المملكة المتحدة التي يتساءلون فيها حول quot;وجود علاقة بين المتهمين وتنظيم القاعدةquot; (!) لعلهم ينسون في سذاجتهم، بل خيبتهم، أن القاعدة quot;ليس فقط تنظيما ينضم الناس إليه، بل تنظيمٌ يعيش في قلوب وعقول وأرواح المجاهدين المناصرين لهquot;؛ وهؤلاء أصبحوا بالملايين، ويتوزعون على قارات العالم.
ونلاحظ دليلا جديد على فساد نظريات quot;الخبراءquot; التي تزعم أن حل معضلة الجهاد الإسلامي المعاصر أمرٌ اجتماعي في الأساس، وأن رفع المستوى الاقتصادي والتعليمي لملايين الفقراء والمُهمَّشين في العالم الإسلامي كفيل بعلاجها على المدى الطويل. فما لا يريد أن يفهمه هؤلاء هو أن تنظيم القاعدة، كرائد أو ممثل لحركة الجهاد، كان دائما يذخر بأصحاب مؤهلات عليا، غالبا quot;علميةquot;، من الأثرياء أو المنتمين للطبقة المتوسطة.
فبالإضافة إلى الشيخ المهندس أسامة بن لادن، هل ننسى نائبه الأول الشيخ الدكتور أيمن الظواهري الذي نال في 1978 ماجستير الجراحة من جامعة القاهرة، وبدأ منذ 1979 في خدمة البشرية عن طريق الانضمام إلى تنظيم الجهاد الإسلامي في مصر وأجاد في عمله حتى أصبح زعيما له، ثم رحل في 1985 إلى السعودية ثم أفغانستان لينضم إلى تنظيم القاعدة الذي كان قد أسسه حديثا الإخوانجي الفلسطيني الشيخ عبد الله عزام (ماجستير الشريعة من الأزهر في 1969، والدكتوراه في 1973)؟ وهل ننسى كفاءة المهندس محمد عطا (خريج جامعة هامبورج التكنولوجية في 1999) قائد غزوة 11 سبتمبر؟ أو المهندس الميكانيكي خالد شيخ محمد (خريج جامعة نورث كالورينا في 1986) ومهندس الاتصالات رمزي الشيبه (خريج جامعة سوانسي بويلز في 1989) وغيرهم الكثيرون من العلماء والمؤهلين المجاهدين الأبرار؟
وها نحن نجد في غزوة الأطباء ـ لأول مرة ـ تركيزا مهنيا ميدانيا لمجموعة من دارسي وممارسي الطب على مستوى عملي يومي ممن المتفوقين الذين يعيشون في قلب الغرب.

(4)
أخيرا، وبهذه المناسبة، نخشى أن تقوم الشعوب الكافرة وقياداتها وإعلامها، بدوافع quot;الإسلاموفوبياquot;، بانتهاز فرصة الغزوة البريئة لمحاولة تشويه سمعة الجهاد الإسلامي. ولذلك نقترح أن تُعدِّل quot;القاعدةquot; اسمها إلى منظمة quot;أطباء بدون حدودquot; الإسلامية ـ على غرار اسم المنظمة (Meacute;decins Sans Frontiegrave;res) التي قام الطبيب بيرنار كوشنير (وزير خارجية فرنسا الحالي) وآخرون بإنشائها في 1971 بهدف خدمة الإنسانية، وتوسعت عملياتها لتغطي أكثر من 70 دولة، ونالت شهرة عالمية وحصلت على جائزة نوبل للسلام في 1999.
صحيح أن تنظيم القاعدة، بقياداته وتكويناته وفروعه ومنتسبيه، قد نال شهرة عالمية أكبر، بفضل مئات الغزوات والعمليات المباركة الساعية أيضا لخدمة الإنسانية بطريقته الخاصة؛ لكن لم ترتبط الشهرة بالتقدير العالمي المناسب برغم جهوده الجبارة وهذا طبعا أمر مفهوم من غرب صهيوني صليبي عنصري لا يُقدِّر ما يستحق التقدير. ولذا نتوقع أن يساعد هذا الاسم الجديد والأكثر جاذبية (cool) على quot;تحسين الصورةquot; وخدمة قضية الجهاد الإسلامي العالمية بطريقة أفضل. وإن اشتكت المنظمة الفرنسية من انتحال الاسم، فلتخبط رأسها بأقرب حائط؛ إذ لن تكون هذه أول ولا آخر مرة يتم فيها quot;اقتباسquot; أسماء أو مصطلحات معروفة ـ من الزىّ الإسلامي والفندق الإسلامي إلى الديموقراطية الإسلامية والطب الإسلامي والبنوك الإسلامية وحقوق الإنسان الإسلامي الخ.
ولسوف يساعد الاسم الجديد على توضيح وتأكيد طبيعة حركة الجهاد الإسلامي المعاصرة: quot;بلا حدودquot; ـ جغرافية أو أخلاقية