ان دور ومكانة متكلّمي الشيعة لم يأت فقط من براعتهم الاسلوبية أو من صفتهم الإماميّة البادية في نسيج نتاجاتهم الفكرية، بل من قدرتهم الفكريّة المرنة على الابداع في المساحات الاجتهادية الممكنة والتي أسّس لها إمامهم الأول عليّ بن أبي طالب في مجالات المناظرة والحوار الفكري وأمور العقائد وكذلك في البحوث المثالية عن مضامين الحق والعدل والتوحيد وسواها. لذا بات من اليسير جداً اليوم العثور على عشرات بل مئات القرائن من النصوص المتميزة المنتمية لذات نسيج قائلها إن كان عليّ أو أحد ابنائه أو اصحابه لما قدّموه من دفقٍ تاريخيٍ هائل في هذه المجالات، مقابل ان تجد مقولة هنا أو هناك تتمثل الجهة الرسميّة المتسلطة تاريخياً على سدّة الحكم أو أحد رجالها، ومن العسير جداً مقارنتها بنسيج لغوي اخر لنصوصٍ اخرى تنتمي لذات القائل إن كان قائداً او خليفةً او ما شابه.
هنا وجدنا الفارابي او ابن سينا مثلاً حين يبحثان في تراث الشيعة البلاغي يفكّكان البعد الفلسفي والانساني في تلك النصوص ولا يبحثان في بعدها المذهبي الشيعي، رغم ان ذلك لاينفي عن قائليها صفتهم الشيعية، وان مثل هذا الكلام ينطبق نسبياً على تجربة هشام بن الحكم في القرن الثاني للهجرة وعلى تجربة ابن بابويه في الرابع للهجرة وغيرهم من رجال النحو والبلاغة.
يورد ابن النديم الذين تكلّموا في مذهب الإماميّة فيقول : ( أول من تكلّم في مذهب الإمامة هو علي بن اسماعيل بن ميثم التمّار، وميثم من جلّة أصحاب عليّ، وله من الكتب كتاب الإمامة وكتاب الاستحقاق ). ويذكر السبحاني منهم ( عيسى بن روضة وحاجب المنصور )، ويقول النجاشي عن ابن ميثم التمّار بانّه كان من وجوه وكبار المتكلّمين وله عدد من المجالس وأورد بعض كتبه التي منها ( كتاب الإمامة ) و ( كتاب مجالس هشام بن الحكم ) و ( كتاب افعل ولا تفعل ) و ( كتاب الاحتجاج في إمامة عليّ ) و ( كتاب الخوارج ) و ( كتاب المجالس مع أبي حنيفة والمرجئة ).. وسواها، ويؤكّد ابن النديم حذاقته وبراعته الكلامية في الإمامة وتهذيب المذهب.
ويقول أحمد أمين ذاته عن هشام بن الحكم بأنّه ( أكبر شخصيّة شيعيّة في علم الكلام.. جدّالاً، قوي الحجّة، وقد ناظر المعتزلة وناظروه، ونُقلت له في كتب الادب مناظرات كثيرة متفرّقة تدلّ على حضور بديهته وقوّة حجّته، وقد ناظر أبا الهذيل العلاّف المعتزلي ). 1
في مذاهب المناظرات الاسلامية عموماً تجد العديد من المشتركات فيما بينهم في الاصول ولهم مفترقات حادّة تميّزهم عن بعضهم، ومع هذا فالمعتزلة هنا اقرب الى الشيعة من المذاهب الاخرى، لكنّ علم الكلام المعتزلي يتميّز بانحيازه التام الى قدرة العقل البشري والى نهجه الفكري الفلسفي في استخدام وسائل التجريب والبرهنة باعتباره وسيلة الشك أهم تلك الوسائل في الوصول الى يقين المعرفة. رغم ذلك مازال الشيعة يُتّهمون بالاعتزال بقصد الاساءة - وهي تهمة ايجابية باعتقادنا - ويصفونهم ب ( الرافضة ) إيغالاً في التشويه والخلط بين رفضهم ومعارضتهم التاريخية لنهج السلطة وخصوصاً الامويّة منها وبين مطالبهم المشروعة في البحث عن الحق والعدل والحريّة والمساواة وسواها. وفي معنى الرفض هذا يقول المقريزي ( قلّما يوجد معتزليّ إلاّ وهو رافضي ) وفي قول الذهبي ( وجد الرفض والاعتزال متصادقين متآخيين في زمانه ) وقول القاسمي الدمشقي 1331 م ( شيعة العراق على الاطلاق معتزلة، وكذلك شيعة الاقطار الهندية والفارسية والشامية، ومثلهم الشيعة الزيدية في اليمن ).
هذا الحكم الاطلاقي على انّهم معتزلة يُقصد منه ما اعتمده المعتزلة من أصول الشيعة المرويّة عن خطب واقوال الإمام عليّ وآل بيته كما أقرّوا هم بذلك خصوصاً في أصليّ العدل والتوحيد من أصولهم الخمسة. بذات الآن اُتِهِم المعتزلة بالتشيّع، وهي تهمة مسبقة الصنع لكلّ من ينحاز الى نهج الامام عليّ ولكلّ من يجد فيه مثالاً للإمامة والزهد والتقوى والمحاججة. وفي واقع الامر ان غالبية شيوخ الأشاعرة والمعتزلة والمتصوفة والحنابلة هم شيعة فيما عدا من استجاب لإغراءات السلطة وقصور الحكّام.
لايمكن إغفال ان غالبية الحركات الفكرية - الاجتماعية في التاريخ الاسلامي قد اُنشئت بقيم ومفاهيم معارضتها للسلطة، تلك السلطة التي كانت لها على الدوام مستنفرةً بردودها الحازمة في كافة النزاعات وذلك بحكم جهوزيتها التحكميّة والمالية والفقهية ايضاً في استقطاب وجلب اكبر عدد من الموالين لطموحاتها السياسية والفكرية السلفية، وبعض هذا مادعا شخص مثل أبي الحسن الاشعري لان يؤلف كتابه الشهير ( فضائح الباطنية ) تلبيةً لطلب مباشر من الخليفة المستظهر وهو عربون ولاء بين الاشاعرة ومنهج السلطة الرسمي السلفي مقابل تغييب الكثير من القوى الفكرية المعارضة لها.
بغداد والمعتزلة والزعامة :
تُجمع مصادر التاريخ على ان العصر الذهبي للمعتزلة قد ابتدأ مع خلافة المأمون لما له من ثقافة متعمّقة وولع بالفكر والادب والعلم، وكان المعتزلة هم الاقرب الى فكره وتطلعاته الفلسفية، فقرّبهم الى قصره واصبحوا ذوي نفوذٍ فيه. لكن المفكّر حسين مروّة يورد اسباباً اجتماعية واقتصادية اخرى لهذا التحالف بين السلطة العباسيّة والمعتزلة، والاّ لما استمر ستة عشر عاماً في عصري المعتصم والواثق بعد ذلك !
فتبنّت الدولة ايام المأمون فكر المعتزلة رغم اعتراض الفقهاء والشرّاح من دعاة السلفيّة، ويضيف مروّة في ربطه للتحالف بمؤشّرات الاقتصاد والمجتمع ( ان أوّل ما يلفت النظر في تلك الظروف مجيئ المأمون الى سدّة الحكم بعد الصراع الدموي بين زعامات القوى الاقطاعية وأمرائها والتي كانت تؤيّد أخاه الأمين وبين القوى الاخرى الممثلة لاقتصاد المدينة ومجتمعها التجاري - الربوي - الحرفي - بالاضافة الى حَمَلَة الافكار الحرّة من مثقفيها. ان قوى المدينة هذه هي التي ساندت المأمون في سبيل اعتلائه عرش السلطة المطلقة ). 2
فانتعشت التجارة واصبح العراق ملتقى للقوافل التجارية العالمية بعد ان اصبح مركزاً للخلافة العباسيّة. هذا الازدهار هو ما أغرى سكّان المدن الى العمل بسبب وفرة في الارباح وفي المكانة الاجتماعية المميزة لفئة التجّار التي دعمها العباسيون حتى بات ذلك النشاط التجاري السمة الابرز للعصر العباسي الاول. فنمت وتطوّرت مع هذا الازدهار مساهمات ونشاطات اهل المدن في المجالات الثقافية والسياسية والفنية على حساب فئة الاقطاع السابقة وأثرياء الريف. فتنوّع سكنة مدن العراق عموماً طبقياً وقومياً ومهنياً وكذلك صناعياً وتجارياً، واصبح نسيج مدن العراق الاجتماعي وبالاخص بغداد خليطاً من الاجناس المختلفة يتحدّثون اللغة العربية الواحدة ومنصهرين في امبراطوريّةٍ عبّاسية ويساندون خليفتها المأمون في انتهاجه مبدأ العقلانية وحريّة الانسان في اختيار أفعاله وتحكيم إرادته مقابل فئة السلفيين وقوى الاقطاع الذين كانوا يأملون تولّي الأمين سلطة الخلافة وهنا يقول مروّة عن السبب : ( لأنّ هؤلاء كانوا يأملون من ضعف شخصيّته - اي الأمين - ومن نزوعه التفرّغ الى حياة اللهو وعدم رعايته للشؤون العامة للدولة من ان يحققّوا به وعبره مطامحهم الى السلطة ). 3 ولعلّهم به يستعيدون سيطرة المعارف الدينية السلفية في المجتمع، وشطب المذهب الاعتزالي من سياسة الدولة بشكلٍ نهائي.
عموماً هذه الاسباب مجتمعة هي التي ميّزت العلاقة الاستثنائية التاريخية بين المأمون والمعتزلة وامتدادها فيما بعد الى عصري المعتصم والواثق رغم عدم امتلاكهما مزايا المأمون الثقافيّة، ولكنهما بسبب ازدهار النواحي الاقتصادية والاجتماعية عملا بنفس مذهب المعتزلة كمذهب للدولة. وتلك المرحلة الموثّقة من تاريخ بغداد لم تطّلع عليها - على مايبدو - النخب السياسية الحاكمة في العراق في الاعوام الاربعة الاخيرة، وعمل كل فريق منهم بروحية الانتقام والثأر ضد الفريق الاخر وضد المراحل السابقة جامعين حولهم المهمّشين في المجتمع وجهلة الارياف والقرى، مستجلبين معهم شعاراتٍ ماضوية غير مدنيّة، تعاملت بروح الانتقام ايضاً من الحواضر والعواصم التاريخية للعرب وللمسلمين. فشاع الفساد والنهب والشلليّة والتكفير والقتل المجّاني مقابل هجرة وتهجير سكّان بغداد المتنوّع تاريخياً، والذي كان متعطّشاً لاستعادة دور عاصمته العباسيّة بما تمتلكه اليوم من ثروات معدنية وطبيعية وحضاريّة !
وفي العودة الى عصر المتوكّل عام 232 هجرية العصر الذي تحالفت فيه كل القوى الاصولية السلفية وأصحاب النهج التأثيمي - وهي قوىً معدّة سلفاً عبر قرنين من الزمن - ضد المعتزلة وضد كل دعوة مغايرة لنهجها وصراطها الذي أعدته لنفسها وقولبته باسم ( السلف الصالح ).
ان الاسباب التي جمعت حول المعتزلة فئاتٍ واسعة من المجتمع وقوىً ومذاهب متباينة هي ذات الاسباب التي من اجلها تكالبت ضدّهم قوى التكفير والزندقة. فالتوجّه التحرري العقلاني العملي اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً هو الذي منح المعتزلة تلك الصفة التجريبية الميدانية وأجمع حولهم السواد الاعظم من الناس وكلّ من يناصر هذا المسعى وان لم يكن اعتزالياً، وهو ما لم يتوفر عند سياسي بغداد اليوم، لا في طوائفهم المذهبية ولا في احزابهم التي أدمنت التبعية والمنافع الفئوية والشخصية الضيّقة.
فاعداء المعتزلة حين توفرت الفرصة المؤاتية شطبوا بكل شراسةٍ وحقد وعدوانية افكار المعتزلة وطروحاتهم وتراثهم من مقاليد الدولة والمجتمع والمنابر الثقافية رغم قصر الفترة الزمنية التي قضاها المعتزلة - ستة عشر عاماً - في عصر الخلافة العباسية بعد المأمون مقارنة بعشرات الاعوام السابقة واللاحقة التي تمترس فيها الفكر السلفي التكفيري في عصور السلطة الاموية والعباسية متنفذاً وفاعلاً في القرارات الفقهية والتشريعية في شؤون الدولة والمجتمع. وبإزالة رجال ومفكري المعتزلة عن القصر في عهد المتوكّل اُلغيت وشطبت واُحرقت معها كل الوثائق والكتب والمراجع الثقافية والفكرية والفلسفية للمعتزلة. تلك الوثائق التي أرّخت لأهم تجربة وظاهرة فكرية عقلانية في تاريخ العرب والمسلمين. وواصل اصحاب النهج التأثيمي بمساندة القرار السلطوي بعد عصر المتوكّل تنفيذ قرار الاعدام بحق ذلك التراث الهائل والذي لم يتبق منه في المكتبات العربية سوى متفرّقات قليلة ونثار من الاوراق بعد ان ذهب ما دوّنوه بايديهم الى الإتلاف والشطب والإلغاء.
المصادر :
1-جعفر السبحاني،بحوث في الملل والنحل ص 196 ndash; 197
2-حسين مروّة النزعات الماديّة ج 1 ص 854
3-نفس المصدر ص 855
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية
التعليقات