طلبتُ المستقرَّ بكلّ أرضٍ
فلم أرَ لي بأرضٍ مستقرّا
-الحلاّج -

كان لسلوك المتصوفة وقعاً فاعلاً في ممارسة الافكار التسامحيّة النبيلة، فذاع صيتهم بين الاقوام والأمم، وجذب الناس من حولهم وحول فكرة التصوّف العربية الاسلامية. وكان لذلك الأثر الواضح في انتشار الاسلام في بلاد فارس والهند وافريقيا. وأصبح التصوّف هو القاسم المشترك بين هذه الشعوب فكراً وسلوكاً. والأهم من ذلك، كان لهم الدور النقدي الفاعل داخل حركة المجتمع، والبحث الدؤوب في اشكاليّة العلاقة بين الدين والدولة. حتّى بات التصوّف، في نهجه التثويري - الاصلاحي، وفي رسالته الفكريّة - الروحيّة - الثقافيّة، مذهباً إنسانيّاً شاملاً، ورؤية عربية خاصّة في الفنون الجمالية التعبيرية، وكافة الفنون الحسيّة.
وتمكّن شعراء الصوفية في هذا السياق، من إعطاء مصطلحات ( القلق، المعاناة، الغربة، الحقيقة، الوجد، الكشف، وسواها ) طاقةً تأمليّةً هائلة، قابلة للتحليق في عوالم الكشف عن المطلق، وفي وصف ما لا يوصف، وقول ما لا يقال، وفعل ما لا يفعل. واستخدموا في هذا المسعى طاقات الذات الانسانيّة، في استكناء الكامن والرمزي والشامل، الأنا والآخر، الجوّاني والبرّاني. وبحثوا في وظيفة اللاوعي، وطرحوا اسئلتهم المتعمّقة، في كل ما يتعلّق بمعنى الانسان، من تعابير ومفاهيم مستحدثة، اندمجت لاحقاً في بُنية الثقافة العربية والعالمية، والتقت بطروحاتها واستخداماتها مع غالبية علوم الفلسفة وعلم الكلام والفلكيّات، التي كانت قد ازدهرت علي يد المعتزلة، وامتدّ تأثيرها لأزمنة لاحقة، رغم حملات الإبادة التي اُلحقت بهم.
المعرفة كالمحبّة ( هكذا قال المتصوّفة )، وهي هبة الله للإنسان، الذي هو ظلّه وصورته على الارض، والله هو الحق، وما السبيل اليه سوى الرحيل الدائم في عشقه. رحلة تفتح الاسرار وتحقيق الرؤية، بإشراق القلب، وتوقه الى الاتحاد بأقصى مستويات الاحتواء، بين الجزئي والكلّي، في دائرةٍ متكاملةٍ من التجرّد وفناء الذات، الفانية اصلاً بذات الله.
وفي وسائل الكشف والفيض الصوفيّة هذه، تلتغي الفوارق بين الصفات والذوات، إرادةً وسلوكاً، في تلك اللحظة التي يمتلئ فيها القلب بالإيمان والمعرفة، وتتراءى على صفحاته ماهيّة الاشياء، وأسرار الكون. فيزداد قلب الانسان نوراً بذلك الفيض الروحاني، ويتجلّى الحق منير القلوب
في هذه المقولة، يصبح الكلّ واحد، وكل شئ متّصل بآخر، في وحدةٍ شاملة متكاملة، يفقد فيها الانسان ( عند بزوغ سلطان الحقيقة ) أوصافه البشريّة، ويصبح الوجود نهايةً، والتوحيد بداية. وان حالة الاستغراق التام في معاينة الحق، والفناء فيه وجداً وشوقاً، هي حلقة الوصل بينهما، أي بين الوجود والتوحيد.
هذا النهج، هو الاكثر عمقاً وانتشاراً في تراث التصوّف الاسلامي، والذي أسّس له الحلاّج نظرية وحدة الوجود، والتي تبنّاها ودعا اليها من بعده محي الدين بن عربي والسهروردي وابن الفارض وغيرهم.

بين الصوفي والديني

النص الصوفي، نص مفتوح الدلالة والتأويل والابتكار، مقابل التفاسير النصيّة المغلقة لذوي الاتجاه الأصولي التقليدي. وكانت مغامرة الحلاّج جليّةً في تسمية أحد كتبه ب ( الطواسين )، اي السور الصوفيّة، والطاسين تعني مجموعة من الآيات، الخصوصيّة التكوين والمنحى، وهي صياغاتٍ فكريّة اجتهادية، في تحليل مفاهيم جديدة لمعاني الحق والعدل والحريّة.
في هذا المسعى، أكّد الحلاّج فراسته المبكّرة في اختراق النص الديني من اعماقه، إدراكاً منه لواقع المتغيرات العلمية والاجتماعية والسياسية، ورأى انّ ضرورة النص، تتطوّر وتتغيّر وتتجدّد، تبعاً للضرورات الانسانية، بموازاة الواقع، الذي يتغيّر ويتطوّر على الدوام. بمعنى ان قدسيّة النص في زمنٍ ما، مرتبطة فقط بمقدار وظيفته الانسانيّة، وفي حال وجود الخلل في الواقع، يفقد النص الديني هالته القدسيّة، التي يحاول السلاطين وفقهاء الفكر الرسمي، الحفاظ على ديمومتها، وهي المفقودة اصلاً، بحكم تغيّر الأزمان والاحتياجات والمراحل. اي ان الكثير من النصوص الدينيّة، جاءت تلبيةً لظروف الرسالة الاسلاميّة، ولحاجة الناس وقتئذٍ. وقد فقدت بريقها، وأصبحت عاطلة عن العمل، بحكم المتغيرات، وحاجة المجتمعات الجديدة.
النص الديني - حسب رؤية الحلاّج - بحاجة دائمة الى إعادة قراءة وتحليل وتغيير، بما يلائم الاستجابة لأسئلة الانسان وطموحاته. وفي ترجمة هذه الرؤية، استخدم المتصوّفة رمزيّة النص الديني وإشاراته، لبناء نص لغوي مستحدث آخر، منح النص الديني الاصلي غنىً أكثر، ودلالاتٍ أشمل، متّصلة بدفق المشاعر الانسانية، ومتطلّعة الى حريّة أوسع، خالية من الحواجز والحدود والاشتراطات.
خاض الحلاّج لوحده، دون ابناء جيله، والجيل السابق له، هذه المغامرة الفكريّة النقديّة، التي كان يمكن ان يخوضها جيل بأكمله من المفكرين، واستطاع ان يميط اللثام عن فحوى النصوص الدينيّة، ووضعها في صياغاتٍ نثريّةٍ وشعريّةٍ مختلفة. ولا يجهل أحد بان ليس من دويٍّ اخترق سكون الحياة الفكريّة العربية الاسلامية وقتئذٍ، كما فعلت صرخة الحلاّج ( أنا الحق )، وكذلك اعلانه معرفته العميقة بالله.
مع دعوته، اهتزّ عرش الخلافة، وارتعدت كراسي الولاة، وعمائم فقهاء القصور، لما في اقواله وخطبه من مناداةٍ صريحة بالاصلاح الكلّي، ولما في دعوته من رفضٍ لمبدأ التمييز بين الناس، وسبل إفقارهم واضطهادهم باسم الدين وباسم قيم السلف.
في النص الصوفي هذا، تمتزج الدعوة التحريضيّة بالجدل الفكري وبالمعارف الحسيّة، برؤيةٍ روحية وفنيّة مغايرة، لم يتم تداولها من قبل، عن مفهوم الخالق والمخلوق، فيها يمتلك النص شرعيّته، من اشعاعات وبروق قيم العدل والحق والحريّة.
لقد ضعضعت النصوص الصوفيّة، كلّ ما كان يُعتقد في النصوص التراثيّة على انّه ثابت وراسخ ومقدّس وممنوع من اللمس. وفككوا تلك النصوص، الى عوالم نصوصٍ اخرى، مفتوحة، ولا متناهية في قابليتها على التأويل والاجتهاد والابتكار.
في النص الصوفي، يصبح الانسان هو الباحث والمتسائل والحائر، هو الخالق والمخلوق، المنفي والداني، العارف والجاهل، الهائم والمحب والمشتاق. وفي هذا الحنين النوراني، تسعى الصورة الى أصلها، والجنين الى رحمه، والانسان الى ربّه.
تحت يافطة هذا النبل الفكري والروحي، تصبح كل العلوم والنصوص والممكنات وقائع، يمكن تحليلها وتفكيكها الى وسائل في طريق الرحيل الدائم الى الحق والنور والعدل.
قال الحلاّج ان كل ما جاء به من معانٍ، هي سليلة معاني القرآن والحديث، وعمل في سعيه لإدراك المنظور على العديد من إشارات الآيات في هذا الصدد، كما في الآية 11 من سورة النجم ( ما كذب الفؤاد ما رأى )، وفي الآية 17 منها ( ما زاغ البصر وما طغى )، والآية 4 ( عند سدرة المنتهى )، ومن هنا قيل عن الرسول انّه كان ( قاب قوسين ).
اي ان التجربة الصوفيّة هنا، وثقت المكان، وسعت الى تجاوز حدود الغايات الايمانية، الى ما هو أبعد من الاقتراب في المعراج، اي الى تأليف الرؤية ذاتها.

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية