انّ مأساة قرار الإجهاز على الأصول النظريّة لتراث الفكر المعتزلي، على تنوّعه وضخامته، وبفترةٍ قياسيّةٍ، لا يعني فقط حرمان الاجيال العربية وذوي التوجهات التحرّريّة المستنيرة من تراثهم العقلاني - التجريبي، بل يعكس بقوّة الصورة الحقيقيّة لواقع القوى السلفيّة المتحكّمة بأمور الدين والدنيا، ومصير المسلمين كرعايا تابعين ومسيّرين لسلطة الجبر، التي حكم باسمها وباسم الله رجال الحكم عبر التاريخ، كما يعكس موقف هذه القوى من كلّ تجربةٍ مذهبيّةٍ أو فكريّةٍ سعت الى تنشيط العقل العربي، الذي تحرسه على الدوام تلك القوى السلفيّة، وتحرص على ان يكون ذلك العقل عاطلاً عن العمل، وإتكاليّاً بكلّ شؤونه الى قوىً غيبيّة متوارثة ثابتة، ليسهل التحكّم به.
يبدو اذاً حجم الاستبداد والاضطهاد الذي تعرّض له المعتزلة في عصر المتوكّل طبيعيّاً، بعد تحالف كلّ القوى والتيارات الاصوليّة التقليديّة ضدّهم، ولكنّ مايفوق هذا الاضطهاد والتصفيات الجسديّة، كارثة شطب وإلغاء تراث المعتزلة الفكري، لانّ هذه الكارثة قد أصابت مأتم التجربة العقليّة والعلميّة في تاريخ العرب والمسلمين، وعرّضت المعرفة التجريبية في مجال العلوم التطبيقية و الانسانيّة الى محنة فقدانها البحوث والدراسات الميدانيّة العمليّة، التي سبق وعالجها المعتزلة نظريّاً وتطبيقيّاً، وثبّتوها في المناهج العلميّة في تلك المجالات.
حدث هذا، رغم ان كلّ ماقدّمه المعتزلة كان ينضوي تحت الإطار الديني الإسلامي العام، ولكن ضمن تصوّراتهم العقليّة لمفهوم النصوص الأصليّة. الاّ انّ شراسة الهجمة أجهزت عليهم بتكالب قوى التأثيم، التي لا تحتمل أي دعوة تغييرية في بنيتها الثقافيّة والسياسيّة، ضمن مفهومها المغلق، الضيّق، عن التراث والانسان والنصّ الديني. وامتدّت الهجمة لتشمل كافة العلوم، خصوصاً التي تدعو الى استخدام المعرفة العقليّة، والتي تدعو الى الاعتراف بطاقة وإرادة وحريّة الانسان على الابداع والاكتشاف.
مازالت أصداء هذا التعميم والتعتيم العدائي للعلم والفلسفة سارياً في مجتمعاتنا العربيّة المعاصرة، فليس هنالك مراكز متطوّرة للبحوث العلميّ التطبيقيّة، وليس من مختبرٍ علمي لعقول العرب المبدعة حتى اللحظة، فتضطر لان تبحث عنها في الدول الاوروبيّة، بعد الهجرة اليها، وبعد فقدانها الأمل في أوطانها الأصليّة من ايّة إمكانيّةٍ للإحتواء أو التشجيع أو التفهّم.
ففي الوقت الذي ناصبنا فيه العداء للفلسفة، دخلت المجتمعات الاخرى في حركة دؤوبة من النشاط العقلي لتحديث مجتمعاتها، فوضعت تصّوراتٍ واضحة عن مفهوم المعارف والحريّات، والحقوق والواجبات، عن معنى الأنا والآخر، عن الماضي والمستقبل، ومعها أصبحت المؤسسة الدينيّة ايضاً احدى المكوّنات الفاعلة في المجتمع الجديد، مجتمع منفتح ومتجدّد على كلّ احتمالات المستقبل، حتى باتت ديناميّة هذا التحديث والتطوير، صفة متغيّرة في هويّة تلك المجتمعات، فعمّ النشاط كل ميادين الحياة، والأهم من ذلك، اصبحت تلك الصفة التحديثيّة، مكوّن أساسي من تركيبة وعي الفرد في المجتمع، وبذات الآن هويّته المرنة في بحر العلوم والتجارب والمعارف المختلفة، والتي بطبيعتها لا تتوقف عند حدّ معيّن.
بينما امتدت هجمة العداء للفلسفة في مجتمعاتنا (التي ابتدأت على سبيل الواقع في عصر المتوكّل ضد المعتزلة) لكنها اليوم تشمل حتّى المتحدّث المغاير، ايّ متحدّث باللغة العربيّة الفصحى (وليس في علم الفلسفة)، في المجالس العامّة أو الخاصّة، في الندوات المرئيّة أو المسموعة، ليقمعه المحاور الآخر - المعترض، بقوله: بلا فلسفة.. أو كفى فلسفة! بقصد الإساءة وتصغير شأن المقابل. وبقدر ماتعنيه هذه التعليقات من سخرية في الاستخدام العام في مجتمعاتنا، لكنها تعكس حجم المأساة التي تحتقر فيها شعوبنا مادة الفلسفة، كعلم، وكفكرة انسانية بسيطة تحتمل الاختلاف والاجتهاد والاستنارة.
وانّ إهمال طرق تدريس هذه المادة في مدارسنا وجامعاتنا، ضمن المفهوم العلمي المتطوّر، جعلها لان تكون إحدى المواد التكميلية في مناهجنا الدراسية لاغير، وجلّ اساتذة هذه المادة، يصلحون للعمل في كلّ شئ ما عدا مادة الفلسفة، وغالبيتهم يتغيّبون عنها لاسبابٍ حزبية أو سلطويّة أو أمنية، وغالباً ما توكل السلطة مهمّة تدريسها الى أكثر منتسبيها فساداً وجهلاً.
لكنّ موجات التأثيم المتواصلة، وثقافة الاتجاه الواحد، لايمكنها ان تلغي حاجة مجتمعنا الى التأمّل العقلي في نصوص الماضي والحاضر، رغم ما تعرّض له النهج العقلاني من إبادةٍ وارهاب. لا بل قد يكون حجم المأساة هذا، هو الذي يصون ضرورة الحاجة اليه، مقارنةً بنشاط حركة الترجمة والتعريب والتقدم العلمي والتكنولوجي. حيث لم يعد ممكناً - رغم حرص القوى السلفيّة والسلطوية على الهويّة التقليديّة الاصوليّة وفق منظورها للدين وللمجتمع وللمتغيّر - الاّ انّ حركة التطوّر الحتمي لتاريخ المجتمعات، ستضع الشعوب - بطريقةٍ أو باخرى - في مواجهة بعضها البعض، بحكم التنوّع، وخصوصيّة تجاربها التي يغني بعضها البعض الآخر، أو قد يُتمّمه، وليس من بديلٍ تعبيري في مثل هذه المقارنة سوى الوعي، كشكل من أشكال النظر العقلي المنطقي في مسار حركة التطور التاريخي للمجتمعات عموماً.
صحيح انّ سلطة الخلافة هي التي شجّعت تعدّد المذاهب في القرن الثاني للهجرة تلبيةً لاحتياجاتها، ولطموحاتها في الحفاظ على السلطة، بمواجهة خصومها بفرقاء آخرين، يلهجون بنهجها وبمستوياتٍ متفاوتة، يبعد عنها وعن عرش السلطة خطر التهديد. وصحيح ايضاً ان السلطة وفقهائها وقفوا بالمرصاد للحركة العقليّة في الاسلام، للحيلولة دون تطوّرها، فلاحقت المعتزلة بالعنف الفكري والجسدي، وأدخلت الفكر العربي بكارثةٍ بنيويّة مرتبطة بعلم الفلسفة ذاته، الاّ ان الحاجة اليه باتت تشكّل خللاً عضويّاً في نمو وتطور مجتمعاتنا. وقد ألحقت بنا هذه الانتكاسة شللاً بادياً في نهج الاتجاه العقلي التحليلي الفلسفي، وأبعد العرب عن دورهم ومساهمتهم الحضارية في التاريخ منذ عدّة قرون مضت.
لا يمكننا إغفال تأثير التبصّر التجريبي الذي دوّنه المعتزلة في القرن التاسع الميلادي، وحاجتنا اليه، وبذات الآن بروز سلطة القوى التأثيميّة التي كشّرت عن أنيابها بشكلٍ سافر منذئذٍ، اي منذ خلافة المتوكّل عام 232 للهجرة ndash; 847 ميلادي، فأعلنت هي ومعها السلطة عداءهما لكلّ من يقول بالجدل الفكري والمناظرة والنظر العقلي، وأظهرت في المقابل سيادة مبدأ الجبر، والعمل بمقولة (السلف الصالح) ومذهب السنّة والجماعة، الذي سرعان ما بات جماعات، وسادت في المجتمع العربي ثقافة الاتجاه الواحد، والترشيد والوعظ والأثم، على حساب ثقافة التنوّع والاختلاف والحوار، والتي أصبحت من الممنوعات والمحرّمات والخروقات.
واُدخل المجتمع العربي في قوالب ومقولات متكلّسة، عن التراث والحاضر وكذلك المستقبل، وعن الأنا والآخر والوافد، ضمن مفهوم محدود وضيّق للنصوص وتجارب التاريخ الاجتماعيّة والفكرية والسياسيّة، لا تحتمل النقد ولا التحليل العلمي، كي لا تنكشف مكامن الخلل في بنيتها التجريديّة الداخليّة، وهي مازالت تدّعي الصلابة والتماسك، وما زالت ترفض المشاركة أو الحوار، فكيف بالاختلاف؟!

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية