سمير السعيدي: نشرت ثقافات- إيلاف- بتاريخ 13 من هذا الشهر مقالة عنوانها (كزار حنتوش رحل مبللاً بزخات المطر) بقلم زهير كاظم عبود. ونحن هنا اذ نشكر الكاتب هذا الاستحضار وحسن يّة مقصده، لكنّه وهو يفعل ذلك شتم المدينة- مكان الشاعر الأهم طيلة حياته-، ووصفها بأبشع الصور، علماً ان أهمية ومعنى المكان في الادب لايأتي ممّا هو عليه في الواقع قديماً او حديثاً، انما الاديب هو من يمنح المكان خصوصيّته وخلوده ومعناه. وفي هذا السياق كان الشاعر كزار في عشقه وتعلّقه بمدينته- الديوانية- غالباً ما كان يستحضر ويستذكر الاديب حمزاتوف في عشقه لبلده داغستان التي خلّدها بروايته الشهيرة، وكان يردّد بانّه كذلك يفعل بالنسبة لمعشوقته- الديوانية-.
ونحن ايضاً، نبتعد عنها مسافة اكثر من ربع قرنٍ من الزمن، وقبلها اربعة اعوام دراسيّة في البصرة، وبينها اَقمنا وزرنا وهجّرنا وهاجرنا ومررنا بعشرات المدن العربية والاوروبية، ولكن لا يمكن للروح ان تستكين بدون رائحة الديوانيّة في عمق النفس والذاكرة والتكوين. وهذا لاعلاقة له بزينة المكان من عدمه او من مقارنته بالمكان الاخير الذي نقيم فيه. فمدن العراق اصبحت كلها نافقة ومهملة منذ حملة- القائد الضرورة جداً- الايمانية، والتي أراد بها نقل وسائل الترفيه- إن لم نقل غير ذلك- من الكورنيش والنادي والحدائق التي أجدبت جميعها بفعل ذلك الايمان الى بيوت الناس وحاراتهم الامنة، ويبدو ان ذلك قد حصل فعلاً كما يروي البعض.
لم أنتبه الى ما نشرته ايلاف فيما أعني من مقالة، لكنّ ابني الذي وُلد خارج العراق، وهو الان تجاوز الثامنة عشر من العمر، ولم ير مدينة أبيه حتى اليوم، هو من قرأ المقالة، ثم من بعدها ناداني قائلاً: (تعال اقرأ عن مدينتك الديوانية التي ثبرتنا بها)، فقرأت ممّا أفزعني دون ان اقصد الردّ، ولو كان الشاعر حيّاً لما ارتضى برثاء مدينته على هذا الشكل، ولربما ببعض ما وُصف به ايضاً، رغم حسن النوايا التي لاتبرّر المعنى غالباً.
فتركيبة الجمل التي أوردها الكاتب زهير كاظم عبود بانفعالٍ باد، كانت تبتدئ بحروف الجر، ومن ثم يأخذه سياق الوصف الى ما يشاء. وتندرج هذه الكتابة تحت يافطة الجملة التقليدية الشهيرة ( من وسط الرماد ينهض ال..... الخ )، وهي أسهل انواع الكتابة المأخوذة بالعاطفة، كما قوافي الشعر العمودي المجرورة او المكسورة كذلك، فهي الأيسر في نظم ذلك النمط من الشعر.
فيقول الكاتب بداية بعيداً عن قساوة الوصف (من البيوت العتيقة، من الركض خلف السيارات وعربات الحمير، من، من... وهكذا)، ثم يستنتج من هذه ال- من- ان الشاعر كزار لم يستطع مغازلة القمر، او من الهمس في اُذن النجمات. ثمّ يا استاذ زهير: أليس هنالك في الديوانية من حيوانات سوى الحمير تستهلّ بها مقالتك؟
كما نظن نحن العكس بانّ الشاعر كزار، كما هو ايّ شاعر آخر، اكثر من يجيد مخاطبة الاقمار والنجوم، وفي نصوصه ما يثبت ذلك، فكيف ب (رامبو) القصيدة العراقية كزار الذي أنفق حياته بين شواطئ الفرات وأسطح البيوت الصيفيّة؟ كزار الذي لا يجيد في الحياة سوى الشعر والمودّة المطلقة، وعشق مدينته الديوانية، وسمائها التي غالباً مايراها زرقاء في القصيدة، حتّى وان كانت مكفهرّة بعجاجٍ اصفر مغبر.
ثم يذهب الكاتب زهير الى ذمّ المدينة بعد ان يضع لذلك سؤالاً عن الشاعر: (من اين يستمد الشاعر شاعريته؟)، ويسترسل بالقدح (هل من السوق الذي تتطاير صفائح سقفه مع الريح أم مكتبة عارف ام كباب بلال) ولم يذكر مقهى صنكر او الحاج اسماعيل او اهل الشط او كورنيش الديوانية الساحر الممتد من أوّل المدينة حتى آخرها (وهذا للتذكير او للمزاح)، ولكن زهير يورد ذكر- المكتبات العامّة- ويضيف بانّ الفقراء يخشون الدخول اليها، لانّ الفقراء يحبّون الضجيج. وهذا استنتاج غير دقيق ايضاً (لماذا يخشى الفقراء دخول المكتبات وهم الأولى بالعطش للمعرفة والتزوّد بالعلم ؟)، ثم انّها مكتبة وحيدة واحدة وليست مكتبات، وقد انفقنا اجمل واحلى واهم الاوقات من اعمارنا في صالتها وبين مصادرها وكتبها، ولم نكن نحن ومن معنا من الاثرياء !
ويزيد زهير عبود الطين بلّة، والاستنتاج قساوةً آخرى حين يتحدّث بيقين مرّةً اخرى عن احلام الشاعر(حين يحلم كزار حنتوش ينقل طفولته عبر الجسر) ولكن ايّ جسر، لنرى المشهد الذي كان يحلم به الشاعر حسب اللغة اليقينية لزهير كاظم عبود: (جسر خشبٍ غاطس نصفه بالماء، فتطفو آثامه فوق كرب النخل مع تموجات النهر البائس!)، فايّة رومانسية كان يحلم بها الشاعر مع هذه الآثام ؟ ولكن مهلاً فما زال زهير يستكمل وصف النهر (نهر ممتلئ بالطمي ويحمل فوق وجهه كل مخلّفات المزابل والمزارع والحيوانات النافقة) ثم بعد ذلك يحاول اقناعنا بان الشاعر كزار على أثر هذا الواقع (الساحر) يحلّق في أقصى السماوات لرسم وكتابة اشعاره النادرة!؟
ويضيف عن الديوانية بانها مدينة منسيّة على خارطة العراق ! فكيف هذا وهي اكبر مدينة بالمساحة بعد الرمادي ؟ وكانت تُسمى ذات جيلٍ بموسكو الصغرى، ولها من شهداء الحركة السياسية الوطنية العشرات من ابنائها، هذا ان لم نغفل رجال ثورة العشرين !! وعشرات الاساتذة الكبار الذين باتوا رموزاً في العلم والتعليم والوطنية ! اضافة الى اساتذة اخرين سكنوها واحبوها وكأنّهم ولدوا فيها منذ الازل!
واذا اغفلنا وصف الكاتب للمدينة، فهو يقول عن الشاعر- دون قصد طبعاً- ولكن كما اسلفنا ان ذلك لايغفر المعنى، يقول (لا يأمن احد شرّه) و (كزار بعيد عن الاناقة) وسواها.. ونحن نرى في كزار حنتوش من الكائنات النادرة التي تكاد تخلو من الشرّ، وقد يكون قصد الكاتب زهير مماحكات الشاعر او تلميحاته وليس شرّه. ثم انّه على بساطة هندامه، كان دائماً انيق المظهر من دون تكلّف او مبالغة، تحوم حول قامته النحيلة هالة من الضوء، تشير الى من يجهله بان ذلك الشخص مزدان بالرهافة والشاعرية والقلق الابداعي، ولابدّ ان يكون شاعراً، وانّ اسمه كزار حنتوش، ومنتمياً بعمق الى داغستانه الصغيرة التي تخصّه، ولابدّ ان اسمها الديوانية.
شكراً لزهير كاظم عبود فيما عدا ذلك في مقالته عن الشاعر، واتمنّى على اجيالنا الجديدة ان لاترسم صور مدننا من واقعها المهمل المشوّه الحالي، ان كانت البصرة او الناصريّة او الديوانية او بغداد، ولنا وقفة اخرى مع شعر كزار وخصوصيّته كشاعر او كانسان.