تشكو المنطقة العربية من نسب بطالة عالية، تبلغ 27،3% في الجزائر، 14،3% في تونس، 13،7% في الأردن، 11،7% في سوريا، 11،9% في المغرب، 11% في مصر، و 5،2% في السعودية ( المصدر : التقرير الاقتصادي العربي الموحد، صندوق النقد العربي ). و غالبا ما يتم تفسير هذه البطالة بضعف المؤهلات التقنية للشبان العرب، نتيجة السياسة التعليمية التي تركز أكثر على تدريس الإنسانيات، إذ أن نسبة الاختصاصات الأدبية في التعليم العالي، التي لا تتجاوز 7 % في دولة مثل التشيلي، تزيد عن 30 % في معظم الدول العربية. هذا، بالإضافة لضعف المستوى التعليمي في المجالات التقنية و عدم ملاءمة الخريجين لمتطلبات المؤسسات الصناعية الموجهة للتصدير للأسواق العالمية.

لذلك تركز التقارير الخاصة بالتعليم و العمالة في الوطن العربي على أهمية تطوير التعليم التقني لتلبية احتياجات الصناعة. و ربما يرجع هذا الاعتقاد إلى حقيقة تاريخية و هي أن النمو الاقتصادي الحديث، أي الزيادة المستديمة لمعدل دخل الفرد، قد بدا فعلا مع الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر في أوروبا. لكن الأرقام الجديدة التي احتواها التقرير الأخير لمنظمة العمل الدولية تشير إلى تطور جديد أصبح قطاع الخدمات يوفر بمقتضاه النصيب الأكبر من فرص العمل. ورد في التقريرانه حتى سنة 1996 كانت نسبة العاملين في الزراعة حوالي 42%، مقارنة بــ 21% في الصناعة و 37% في الخدمات. لكن المعادلة انقلبت في السنوات الأخيرة، حيث توفر الوظائف الخدمية في الوقت الحاضر 42%، مقارنة بــ 37% للزراعة و 21% للصناعة. مع التنويه بان نصيب الوظائف الخدمية من مجموع العمالة في الدول المتقدمة تناهز الثلثين.

يأتي هذا التغير الهيكلي كنتيجة : (1) لاعتماد الزراعة و الصناعة على تقنيات جديدة تعوض إلى حد كبير العمالة التي كانت تستعمل في الماضي بصفة مكثفة، و (2) للهجرة الواسعة للعمالة من الريف إلى المدن حيث تتوفر فرص أفضل للعمل في الخدمات، بما فيها الأنشطة غير المنظمة. كما أن نمو الدخل غالبا ما يؤدي إلى انخفاض تدريجي لنسبة استهلاك المواد الغذائية، مقابل مزيد من الإنفاق على الخدمات مثل التعليم و الصحة و الاتصالات (استعمال الهاتف الجوال...) و السياحة و غيرها.

سوف تكون للتغير الهيكلي لسوق العمالة انعكاسات هامة على السياسة التعليمية. فالمؤهلات المطلوبة في قطاع الخدمات قد تختلف عما هي عليه في الصناعة. أولا، تتطلب الوظائف الخدمية القدرة على الاتصال و التخاطب، مما يتطلب تكوينا قويا في الآداب و اللغات الحية. و هنا تشكو المدرسة العربية من ضعف كبير، نتيجة التراجع الذي حصل خلال العقود الخمسة الماضية من تعريب التعليم، الذي قام على أشلاء المناهج الموروثة عن الحقبة الاستعمارية، و نتج عنه خريجو الثانوية العامة شبه أميين في هذا المجال، بدليل الموارد الضخمة التي تخصصها وزارات التعليم العالي في دول الخليج لدورات quot;التقوية في اللغة الانجليزية quot; لتأهيل الطلبة للدراسة في الجامعات المحلية أو الالتحاق بالجامعات في الخارج. كما تجد دول المغرب العربي نفسها اليوم في ورطة كبرى نتيجة ضعف الطلبة في اللغة الفرنسية، وسيلة التعليم الأساسية في الجامعات.

من الضروري إذا إعادة النظر في مناهج تدريس اللغات الأجنبية و طرق تطوير ملكة التفكير و النقد بدءا من رياض الأطفال و المرحلة الابتدائية، حيث تكون للتلميذ قدرة هائلة على الاستيعاب. كما لا بد من إعادة هيكلة التعليم الجامعي بتوجيه النسبة الكبيرة من الطلبة الذين يلتحقون حاليا بالتخصصات الأدبية و القانونية و الدينية للدراسة في مجالات السياحة و الترجمة و التسويق و المالية و إدارة المؤسسات، شريطة أن تتماشي طرق التدريس و المناهج مع أفضل الممارسات العالمية. لقد فشلت الدول العربية خلال العقود الأخيرة من الاستفادة من فرص العمل في مجالات تعهيد برمجيات الكومبيوتر، خلافا للهند، نتيجة الفشل في استقراء التحولات الطارئة في مجال تقنية المعلومات و الاتصالات. و قد يحصل اليوم نفس الشيء إذا لم تتخذ الدول العربية من الآن الإجراءات اللازمة لإصلاح نظم التعليم و التكوين المهني، أخذا بعين الاعتبار الاتجاه الحديث للاقتصاد العالمي كاقتصاد يعتمد على الخدمات، بصفة أساسية.

ختاما، لا بد من التنويه بعولمة العمالة خصوصا المؤهلة منها. فالشركات متعددة الجنسيات في مجالات الصناعة و الخدمات المالية و الاستشارات و الفنادق، تنتدب موظفيها بناء على المؤهلات لا بناء على الجنسية، مما يتيح مجالات واسعة للشباب العربي للحصول على وظائف في الخارج، و هو ما لا يحصل حاليا -أو يحصل بصفة محدودة- نتيجة ضعف المؤهلات. بالإصلاح التعليمي المنوه له أعلاه، سوف تتحسن مؤهلات الشباب العربي، مما يمكنه من حظوظ اكبر للاستفادة من الوظائف المتوفرة في السوق العالمية.
كاتب المقال محلل إيلاف الاقتصادي و خبير سابق بصندوق النقد الدولي بواشنطن.
[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية