زرت المغرب خلال الصيف الماضي، فمررت بالرباط والدار البيضاء في الغرب، ثم مراكش عاصمة المرابطين في الجنوب، لأغادرها بعد ما يقارب الشهر من الناظور في أقصى شمال شرقي المملكة العلوية الشريفية، إلى مليلية المدينة المحتلة منذ ما يقارب الخمسة قرون، حيث تتجاور على بوابتها ثلاثة رايات دفعة واحدة، تمثل معا الإتحاد الأوربي والدولة الإسبانية والمقاطعة التي تتمتع بحكم ذاتي.
زيارتي إلى المغرب لا تنقطع بحكم أسباب كثيرة، غالبا ما يتقاطع فيها العائلي مع المهني، فضلا عن حب جارف أكنه لهذا البلد العريق الجميل المتعدد الألوان، الذي أطعمني من جوع وآمنني من خوف وزودنني بالعلم ما وسعت مداركي المحدودة. وهذا ديدن المغرب مع كل اللاجئين إليه من الشرق القريب والبعيد على السواء، منذ إدريس الأكبر حفيد النبي محمد (ص) الذي اعتصم بالمغاربة منذ ما يزيد عن ألف سنة ونيف من الزمان، فنصروه وصاهروه، ومن نسله ما تزال المغرب علوية شريفية، وحتى فاطمة الفهرية القيروانية التونسية، التي بنت بحر مالها جامع القرويين الشهير في فاس، أعرق الجامعات العلمية في العالم بأسره.
المغرب بصدد التغير منذ سنوات، وأحسب أن أول قطرات التغيير قد سقطت عندما قررالملك الراحل الحسن الثاني تكليف زعيم المعارضة اليسارية العتيد عبد الرحمن اليوسفي بتشكيل حكومة الانتقال الديمقراطي سنة 1998، وقد حكم على اليوسفي بالإعدام أكثر من مرة، وقيل أن العاهل المغربي لما بلغه من الأطباء خبر إصابته بالسرطان واقتراب موعد رحيله، لم يجد أفضل من ألد خصومه لتحميله أمانة انتقال السلطة بسلاسة إلى إبنه، وهو ما جرى فعلا، فقد جلس الملك الحالي محمد السادس على العرش، في لحظة صفاء سياسي لم تعش المغرب مثيلا لها منذ وفاة ملك الإستقلال محمد الخامس، حيث كانت مرحلة حكم الحسن الثاني منذ بدايتها، مليئة بالتحديات والآلام والدماء والاضطرابات.
في صحافة المغرب اليوم، الحافلة بمئات العناوين اليومية والأسبوعية والشهرية، ارتفع سقف الحرية إلى درجة غير مسبوقة، وعلى الرغم من بعض الهنات والمشاكل التي تتفجر بين الحين والآخر، إلا أن التابوهات تكاد تكون تلاشت من قاموس الصحافيين المغاربة، الذين لا يترددون في الكتابة عن الملك شخصيا، عن ثروته وعائلته ورجاله، وقضايا أخرى كثيرة، كالفساد والإرهاب والأحزاب. ولا شك أن طموح المثقفين في المغرب كبير في مجال حرية الصحافة، لكن شخصا مثلي، قدم إلى مطار البيضاء من تونس، ليس له إلا أن يفزع ويسعد معا، لما لمسه من جرأة الصحف المغربية على أهل الحكم والمال والنفوذ، ففي بلده لا يوجد للأسف الشديد ملك آمن على عرشه، لا يضطر إلى رئاسة حزب حاكم مطلق أو تدبير أمر الصحافة على نحو لا يتزعزع معه أمن الوطن واستقراره.
وطموح النخب المغربية، كان متجاوزا حدود حرية الرأي الإعلام، إلى حلم بنظام ملكي دستوري يسود فيه الملك ولا يحكم، غير أن الحياة السياسية لم تنضج فيما يرى إلى أن تبلغ هذه الدرجة، إذ يظل المغرب بلدا عربيا أمازيغيا مسلما تحكمه محددات العقل السياسي العربي مثلما حددها الفيلسوف المغربي المعاصر محمد عابد الجابري، قبيلة وغنيمة وعقيدة، كما تظل كثير من جماعات أهل الحكم والشعب فيه، متشبثة بالسلطان لا الملك، صمام أمان لوحدة البلد مترامي الأطراف ومتعدد الأعراق واللغات.
و ليس في عدم إدارك كل الطموح، ما يمنع من إدراك جزئه، فلقد لاحظت أن المغرب قد تحول إلى ورشات إعمار كبرى، يلاحظها الزائر في كل مكان ومدينة، حتى أن quot; أزمة افتقاد الاسمنتquot; نتيجة كثرة الإقبال عليه، أضحى قضية وطنية، ففي مراكش على سبيل المثال، التي نزلت في فندقها quot;المنصور الذهبيquot; قبل خمس سنوات، وكان قصيا في منتهى شارع محمد السادس (شارع فرنسا سابقا)، وجدت هذه الصائفة، أن الفندق المذكور قد أمسى في مبتدأ الشارع المذكور، وأن المنتهى أصبح بعد عدة كيلومترات من الفنادق والمباني الحديثة عالية الطراز، وما حدث من ثورة عمرانية في مراكش، حدث أيضا، وبدرجات متفاوتة في مدن مغربية أخرى، في مقدمتها عاصمة الشمال طنجة، التي تستعد للفوز باستضافة إحدى المناسبات الدولية الكبرى.
الحركية التي يشهدها المغرب على الصعيد العمراني، وخصوصا على صعيد مقاومة السكن غير اللائق وإنهاء ما عرف لعقود بإسم مدن الصفيح العشوائية، متزامنة مع حركية مماثلة، في مجالين هامين هما السياحة والبنى التحتية، أي شبكة الطرقات السيارة والمطارات و الموانئ والسكك الحديدية، فللمغاربة طموح لاستضافة عشرة ملايين سائح مع مطلع سنة 2010، ولهم طموح أيضا في استكمال مرافق بناهم التحتية الكبرى حتى يكونوا جاهزين لاستقبال استثمارات دولية ضخمة مأمولة، خصوصا مع وجود استقرار سياسي مضمون وطاقات بشرية مؤهلة، فضلا عن مناخ عام مشجع.
لقد لاحظت شخصيا، وهذا ما وافقني عليه عدد كبير من الذين شاركوا في انتخابات 7 سبتمبر/أيلول الماضي، أن من يقف وراء هذه النهضة المشهودة، ثلاثة وزراء شباب، من جيل الملك تقريبا، أعمارهم كانت في أواخر الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات عندما تولوا مناصبهم قبل خمس سنوات، ينتمي جميعهم إلى حزب الإستقلال، العريق والمحافظ، وقد جمعوا في تكوينهم السياسي والدراسي بين الوطنية المغربية والانفتاح على العصر والمعرفة الجيدة بأسباب النهضة الغربية، السياسية والاقتصادية والعلمية.
هؤلاء الوزراء الثلاثة، و هم تقريبا أصغر أعضاء الحكومة المغربية، كريم غلاب وزير التجهيز والنقل، وعادل الدويري وزير السياحة، وأحمد توفيق احجيرة وزير الإسكان. ويعتقد كثير من المراقبين والمحللين أن السبب في انتصار حزب الاستقلال مرجعه بالأساس إلى وجود هذه النخبة من المسؤولين الحكوميين الشباب، المليئين بالطموح والرغبة في العمل العام، المتطلعين إلى إثبات جدارتهم بالمواقع الوزارية التي شغلوها، والمتميزين بنظافة يدهم جراء عدم انتمائهم لجيل السياسيين السابقين الذين ورطوا أو تورطوا في دوائر الفساد.
إن واحدا من الأمراض المزمنة التي تعاني منها الحياة السياسية في جل الدول العربية، هي شيخوخة الرؤساء والملوك والوزراء وسائر أعضاء مؤسسات الحكم، فضلا عن الأمراض الأخرى المعروفة، من استبداد ويكتاتورية وفساد. وفي البلدان الديمقراطية في الغرب، يقال أن عمر الوزير هو من الثلاثين إلى الستين، وأن من بلغ الستين عليه أن يكتفي بدور الناصح والمشير، فللإمكانيات الجسمية وللعمر المتقد طاقة وحيوية دور مهم في حسن الاضطلاع بالمهمة الوزارية، ولهذا يلاحظ أن الغالبية العظمى من رؤساء ورؤساء حكومات ووزراء الدول الأوربية، هم من الفئات الشابة، فقد تولى زباتيرو حكم إسبانيا وهو في الأربعين، وفي نفس السن أيضا تولى الوزير الأول الهولندي الحالي بيتر بالكنندا، وغيرهما كثير.
إنني في خاتمة هذا المقال، لا يسعني إلا أن أدعو ndash; وأتمنى على- الملك المغربي محمد السادس، أن يكلف واحدا من هؤلاء الوزراء الشباب الثلاثة، الأعضاء القياديين في حزب الاستقلال الفائز، بتشكيل الحكومة الجديدة، وأن لا يتردد في منحهم الثقة ومؤازرتهم على اضطلاع بالمهمة، حيث يملك الصلاحية الدستورية والعرفية الكافية لذلك، ولا أظنه يندم على قرار مثل هذا، فهؤلاء الشباب يمثلون بحق جيله، الحالم بالإصلاح والراغب في رؤية مغرب جديد، قادر على فرز الغث من السمين في تراثه، وعلى مواجهة التحديات الكبرى المطروحة عليه وعلى شبابه.
لقد بلغني أن الإنجازات التي تحققت للمغرب في البنى التحتية والسياحة والإسكان، خلال أقل من خمس سنوات، لم تتحقق طيلة ما يزيد عن خمسة عقود كاملة سبقت، ولا شك أن حكومة يشرف عليها جيل من هذا الصنف من الوزراء، سيدفع بالإصلاحات المنشودة في اتجاهات وقطاعات أخرى لا تقل أهمية، في مقدمتها الزراعة والصناعة والخدمات، وهي قطاعات أقدر على استيعاب العاطلين ودعم الدورة التنموية من أي قطاعات أخرى.
وإن مجتمعا فتيا كالمجتمع المغربي، أكثر من نصفه شباب أعمارهم تقل عن العشرين، لأشد حاجة إلى جيل حاكم شاب أكثر قدرة على منحه الثقة والأمل في المستقبل، وأكثر قدرة على تفهم مشاكله وحيرته وضبابة الرؤية المسيطرة عليه..غالبية الشباب المغاربة، ليس لديهم حلم اليوم غير العبور إلى الضفة الأخرى، في قوارب الموت أو أي وسيلة أخرى، فهل من سبيل ملكي إلى مدهم بحلم جديد، وجهته إلى الداخل لا الخارج، ففي الداخل توجد كل الإمكانيات لبناء حياة أقل شقاء وأكثر متعة.
* كاتب تونسي

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه