لست متأكدا ما إذا كانت الإجراءات التي أقدم على اتخاذها مصطفى كمال أتاتورك، لعلمنة الدولة التركية، منطلقة من رؤية مستقبلية استبقت العصر في حينها، أم أنها نتاج عقليته العسكرية الصارمة، غير أن البين عندي أن النتيجة كانت إيجابية، فقد سبقت تركيا العالم العربي إلى الحداثة خمسين عاما على الأقل، وهي على كافة المستويات، وبالأرقام والإحصائيات، الدولة الأكثر تقدما في العالم الإسلامي.
النقطة التي أود لفت الانتباه إليها في التجربة التركية أيضا، مسألة الإسلام والإسلاميين، فقد أجبرت الكمالية الإسلام بقوة القانون والسلطة، على أن يكون دينا فحسب، غير أنها لم تحرمه قط من التأثير غير المباشر على السياسة، مما جعله إلى حد كبير موجها أخلاقيا وروحيا مسالما وإيجابيا، بينما أجبرت الإسلاميين على أن يخاطبوا مواطنيهم باعتبارهم بشرا يخطئون ويصيبون، وعلمانيين لا قداسة يمكن أن تضفى على خطابهم. ويعد الإسلاميون الأتراك اليوم، الأكثر حداثة وانفتاحا وتسامحا، قياسا بالإسلاميين في العالم العربي ومختلف الدول الإسلامية.
وللسائل أن يتساءل لو أن كمال أتاتورك لم يقم بعلمنة الإسلاميين الأتراك بالقوة، هل كانوا سيقومون بذلك من أنفسهم، وهل كانت تجربة الحركات الإسلامية التركية ستبلغ ما يرى اليوم من ملامح رقي ونظام ونظافة، على حزب العدالة والتنمية، الذي يلح قادته على توصيفه بأنه حزب علماني ديمقراطي محافظ، على غرار الأحزاب المسيحية الديمقراطية المحافظة في أوربا الغربية، وهل كان لتجربة الإسلام التركي أن تفرز quot;جماعة النورquot; أو quot;النقشبنديةquot; أو quot;السليمانيةquot;، وكلها جماعات إسلامية سلمية، تستهدف مساعدة المؤمنين على تزكية أنفسهم وأخلاقهم الفردية، وتقيهم شرور الوقوع في براثن الجماعات الإرهابية، وتفجير أنفسهم وأخلاقهم طمعا في جنة لن يدخلوها.
مؤخرا أصدرت هيئة سياسية تونسية معارضة، تضم إسلاميين وعلمانيين، تسمى حركة 18 اكتوبر، بيانا تؤكد فيه على قدسية مجلة الأحوال الشخصية، التي أصدرها الزعيم الراحل الرئيس الحبيب بورقيبة سنة 1956، وتعتبر إلى الآن، المدونة القانونية الأكثر حداثة وتقدمية في العالم العربي والإسلامي، حيث حظر من خلالها تعدد زوجات، وأحيل الطلاق عبرها إلى القضاء، بعد أن كان لقرون مجرد كلمة يلقيها الرجل في الوجه زوجته ساعة يشاء، وأتساءل أيضا لو أن الإصلاحات البورقيبية التي طالت المجتمع والدولة التونسيين بقوة القانون والسلطة، لم تجر وتنفذ، هل كان بمقدور الإسلاميين التونسيين تطوير خطابهم إلى هذه الدرجة، أي إقرارهم بصدق اجتهاد يعده إخوانهم في غالبية الدول العربية والإسلامية، كفرا بواحا وخروجا لا يغتفر عن الشريعة.
الديمقراطية برأيي لا يمكن أن تقوم، إلا في ظل دول علمانية، فشرط الديمقراطية الأول هو المواطنة، أي أن يتساوى الناس أمام القانون في الحقوق والواجبات، بصرف النظر عن الدين أو اللون أو العرق أو أي عامل تمييزي آخر، وشرطها الثاني إضفاء الطابع البشري على المنافسات السياسية، أي أن لا تكون الانتخابات مباراة يتبارز فيها خصمان، أحدهما يقول أنه بشر يخطئ ويصيب، والثاني يزعم أنه الطاهر المطهر الناطق باسم الله و النبي والشريعة، وكلا الشرطين يستلزم وجود دولة علمانية.
قبول الإسلاميين بعلمانية الدولة، أو إجبارهم عليها بقوة القانون والسلطة، يعد الخيار الوحيد لاختبار حقيقة التوجهات الديمقراطية التي يؤكد عليها قادتهم، فهم إذا ما سلموا بنظام علماني، فإنهم ساعتها سيقرون حقا ونهائيا بأنهم بشر متساوون مع غيرهم من المواطنين، وبأنهم سيشاركون في الانتخابات ببرامج بشرية، من إنتاج عقولهم النسبية، وليست مثلما يتم الإيحاء بذلك، من إنتاج السماء وثمرة نصوص مطلقة.
لقد نظرت في تجارب الإسلاميين في مختلف البلاد العربية والإسلامية، فوجدت أنه كلما أجبر هؤلاء على العيش في ظل أنظمة ديمقراطية وعلمانية، كلما كان ذلك أفضل لهم، والأهم من ذلك أفضل للإسلام، الذي حرر من هيمنة الإكليروس و وجد أنصار التجديد والاجتهاد فيه فرصة للإدلاء بدلوهم، وتطوير أفكارهم ونظرياتهم نحو إسلام أكثر انفتاحا وحداثة وإنسانية وانسجاما مع تطور الفكر البشري، وبالمقابل، فقد وجدت أنه كلما عاش الإسلاميون في ظل دولة إسلامية، كلما كانوا أسوأ وأظلم وأفظع، والأخطر من ذلك كله، تردي وضعية الإسلام جراء تحويله سلعة ومناطا للنفاق ومجرد قشور، لحية وجلباب وحجاب وسواك..
إن البيئة العلمانية وحدها التي يمكن أن تساعد على توفير أجواء ملائمة للبحث والنظر والحرية الفكرية والسياسية والدينية، التي من شأنها أن لا تجعل المجددين مجرد هراطقة أو زنادقة، وأن لا تجعل المجتهدين مارقين عن الملة وعملاء وخونة، وليس ثمة أمر يحول دون تطوير الخطاب الإسلامي غير هذه القوة الآثمة الزاعمة الغيرة على الدين والمزايدة على المتدينين الحقيقيين، وهذه الأجواء المخيفة المخيمة على العالم العربي والإسلامي، والتي تجعل من النظر والتحقيق في التراث البشري مسا بالدين وإساءة بالغة لله والنبي.
يتحدث عبد الله بدوي رئيس الوزراء الماليزي اليوم، عن الإسلام الحضاري، وهو مشروع يتوخى مجابهة هذا الإسلام الدموي المتعطش للقتل والسفك والتخريب بحجة الثورة للمقدسات والغيرة على الحرمات، وليس الإسلام الحضاري في واقع الأمر إلا اجتهادا نابعا عن البيئة الماليزية والأندونيسية العلمانية، التي تحاول جاهدة بناء إسلام متصالح مع الحياة العصرية والقيم الإنسانية، لا عنف أو إرهاب أو تعصب فيه، يعلم أتباعه المزيد من الحرص على الأخلاق العامة والتواضع والنسبية.
التعصب الديني الدافع إلى العنف لا يمكن أن يكون جراء فهم حقيقي للدين أو تعبيرا عن ثقة في الإيمان، والمؤمنون الحقيقيون هم الأكثر خوفا من التبشير والرؤى المطلقة والأجوبة البسيطة على الأسئلة المعقدة، غير أن وقوع الإسلام تحديدا بين أيدي الفئة الأكثر تجريدا وبساطة وسطحية من الناحية العقلية، قاد العالم العربي والإسلامي إلى ما يرى اليوم من كوارث، وإلى ما يشاهد من جرائم تتزعزع لها السماء، ترتكب باسم الله والشريعة والأمة.
يروج أهل الكهنوت من المسلمين، وغير المسلمين، باستمرار إلى أن العلمانية معادية للدين، غير أنني لا أرى أن العلمانية محايدة إزاء الدين فحسب، بل هي النظام الأكثر ملاءمة وانسجاما مع الدين الحقيقي، لأنها تجعل البشر بشرا، يتحدثون فيما بينهم لغات بشرية، ويتنافسون فيما بينهم باعتبار أن النقص والخطأ كامن فيهم، وأن المطلق ليس من صفاتهم، بل من صفات الخالق وحده، وأنهم مجرد باحثين عن الحقيقة الكونية والإلهية، لا ناطقين باسمها.
أما الدولة الدينية فهي أكبر عدو للدين، وقد أساءت الدول الإسلامية على مر التاريخ الإسلامي، وفي هذا العصر، في أفغانستان وإيران والسودان، إلى الإسلام، أكثر مما أساء إليه أي عامل داخلي أو خارجي آخر، فكم من جرائم وحروب وفتن وقتل وسحل وتعذيب وشنق نفذها السلاطين بذريعة أن السلطة والغلبة والقهر ركن من أركان الدين وجزء لا يتجزأ من مهام أمير المؤمنين.
ما أود الخلاص إليه، هو أن العلمانية في العالم العربي والإسلامي شرط ضروري لإقامة الديمقراطية، وأن أكبر معروف يمكن أن يقدم للإسلام والمسلمين والإسلاميين هو علمنتهم، إن لم يكن بإرادتهم ، فبالقوة البناءة الخيرة، وكلما أسرعت العملية كلما وفر الوقت والجهد والمال، وجرى التبكير في معالجة قضايا التنمية..العلمانية اليوم خيار، و غدا حتمية، والخيار أفضل من الإجبار، لأن التنفيذ فيه يكون بالاختيار.

كاتب تونسي