تتواصل تداعيات التصريحات التي أطلقها الشيخ يوسف القرضاوي حول ما يراه محاولات لنشر التشيع في الأقطار العربية السنّية من قبل النظام الإيراني تحديدا، بسرعة ضوئية تثبت أن الهوة شاسعة بين أنصار ومعتنقي المذهبين السنّي والشيعي، وكأن كل طرف منهم كان يترقب صدور هذه التصريحات لتأجيج الصراع الطائفي مجددا بعد أن اعتقد البعض أن الفتنة نائمة، فإذا هي مستيقظة منذ قرون في النفوس سرا وتقية، وكانت تحتاج لهذه التصريحات فقط كي تعلن يقظتها المستمرة بدون الحاجة لمنبهات الشيخ القرضاوي. الكثيرون لاموا الشيخ لأنهم اعتقدوا أن تصريحاته هذه هي التي أيقظت الفتنة، وأنا أخالفهم هذا الاعتقاد إذ أن الفتنة كانت وما زالت مستيقظة في النفوس والعقول رغم سرّية تفاعلها في كافة الأوساط الاجتماعية، ويكفي سرد موقفين من تجربتي الشخصية مع الطائفية التي لا أؤمن بها ولا أسعى للتفاعل مع وقائعها بأي شكل من الأشكال، لأنني كما أوضحت في مقالتي السابقة (هل أخطأ القرضاوي أم أصاب؟)، أفهم وأعتقد أنه هناك دين واحد ه والإسلام له فروضه المعروفة الملزمة، وما عدا ذلك فروع واجتهادات غير ملزمة:
الأول: كان في عام 1980 عندما بدأت عملي مدرسا في كلية التربية بجامعة البصرة، وتصادف أنّ مكتبي كان في غرفة واحدة مع أربعة زملاء عراقيين من هيئة التدريس، وفي أول يوم من عملي اختلى بي أحد الزملاء ليقول لي: (أحمد مسؤوليتي أن أنبهك أن الزملاء الثلاثة الذين يجلسون معنا في نفس الغرفة هم شيعة فاحذرهم)، فأعلنت له صراحة عن استغرابي لهذا الطرح من مدرس جامعي، وان هذه الأمور لا تهمني ولا أعيرها انتباها، فكلكم زملاء لي بنفس الدرجة أما معتقداتكم الدينية فهي بينكم وبين الله تعالى. وتصادف أنه في نفس اليوم الأول من عملي أن اختلق أحد الزملاء الثلاثة عدة حركات كي أمشي معه وحدنا في ساحة الكلية كي يحذرني من ذلك الزميل لأنه سنّي، وأنه من المهم التنبه لجرائم نظام صدّام بحق الشيعة وقتله العديد من مراجعهم الفقهية، فأبديت له نفس الاستغراب ونفس الملاحظات، رغم إدانتي لجرائم صدام بحق أي عراقي دون سؤالي عن هويته الطائفية.
الثاني: كان في عام 2007 هنا في أوسلو، عندما اتصل بي أحد الشباب الذين يؤمون المصلين في أحد المساجد من حين إلى آخر يطلب لقاءي للتحدث معي في أمر مهم. كان ذلك الأمر أنه يريد أن يشكرني على مقالاتي التي تكشف ممارسات النظام الإيراني وانتهاكاته لحقوق الإنسان ونواياه العدوانية تجاه جيرانه العرب واستمراره في احتلال الأحواز العربية والجزر الإماراتية الثلاث وتهديده بإعادة احتلال البحرين. ثم كانت المفاجأة أنه يريد أن يزودني بمصادر ومراجع تكشف وتثبت كفر وزندقة هؤلاء الروافض الشيعة. أبديت استغرابي الشديد له موضحا أنّ هذه المصادر لا تهمني ولن أسعى لقراءتها ـ فأنا أكتب ضد ممارسات النظام الإيراني من خلفية سياسية وحقوقية وليس طائفية، بدليل أن العديد من الكتاب العراقيين والإيرانيين الشيعة يكتبون عن ممارسات هذا النظام أقسى مما أكتب، فل واحتكموا لخلفيتهم المذهبية لما كتبوا كلمة واحدة من كتاباتهم تلك، وبدليل أن شخصيات إيرانية معروفة مثل الرئيس السابق محمد خاتمي تنتقد العديد من ممارسات النظام خاصة أحمدي نجاد الذي وصفه إفراييم هاليفي الرئيس السابق لجهاز الموساد الإسرائيلي بأنه quot; أجمل هدية لإسرائيل لأنه يخدم مصالحها..نجاد ه وأجمل هدية حصلنا عليها، لا يفعل سوى تقديم الخدمات لنا. كل كلامه دليل على أن إيران لا يمكن التعايش معها. إنه يوحد العالم ضد طهرانquot;.
الفتنة سياسية وليست مذهبية
ورغم وجود هذا الشحن الطائفي على خلفيات مذهبية تنتقص من مذهب كل طرف وتخطئه تماما لدرجة التكفير أحيانا من (روافض) إلى (نواصب)، إلى أن هذه الحرب المستعرة كانت في أغلب المراحل تدور سرا وفي الخفاء أ وفي داخل أروقة المساجد والحسينيات، غير هذه الحرب التي أعقبت تصريحات الشيخ القرضاوي الأخيرة التي امتدت نيرانها للعديد من الدول العربية والإسلامية بخلفيات سياسية وليست مذهبية دينية، ويمكن تفهم ذلك من خلال الكثير من ردود الفعل التي لم تناقش تصريحات القرضاوي دينيا وفقهيا، ولكن تعاطت معها من منظور مصالح سياسية لتلك الدولة أوغيرها. ومن الملاحظ أن النظام الإيراني ه وأكثر الأنظمة التي دارت حولها تلك الردود سواء معه أم ضده، خاصة تعقيبا على توضيح الشيخ يوسف القرضاوي حول quot; إصرار إيران على نشر المذهب الشيعي في الدول العربية معتبرا أن ذلك المسعى الإيراني غزوا سياسيا وليس دينياquot;، والهجوم الحاد غير الأخلاقي الذي شنته عليه وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية quot;مهرquot;.
والدليل على ذلك،
أن المرجع الشيعي الكويتي محمد باقر المهري، طالب الأزهر الشريف بخلع عمامة الشيخ يوسف القرضاوي ومنعه من الظهور إعلاميا، كما طالب حكومة قطر بسحب جنسيته القطرية، وطالب علماء السنّة في الكويت بالبراءة منه. وقد علق الكاتب الكويتي عبد الله الهدلق على هذه التصريحات في جريدة الوطن الكويتية يوم الرابع عشر من أكتوبر 2008 قائلا. quot; من كان بيته من زجاج فلا يرمي الحجارة على بيوت الآخرين، فكم من عمائم سوداء وبيضاء وخضراء يجب أن تخلع وكم من جنسيات يجب أن تسحب وكم من حاقدين وذوي تصريحات مثيرة للجدل وشاذة يجب البراءة منهم!. فليس هناك من ه وأشد حقدا على السنًة وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المجرم الهارب إلى بريطانيا (ياسر الحبيب) المدان من محكمة الجنايات الكويتية بحكم جنائي واجب النفاذ، فلماذا لم يطالب المهري بخلع عمامته وسحب جنسيته والبراءة منه؟quot;.
أما علماء السنّة في الكويت،
فقد رفضوا الاستجابة لطلب المهري، وأدانوا تصريحاته ضد الشيخ يوسف القرضاوي، متهمين الشيخ المهري بالتجني وبث الفتنة الطائفية، وعلى هامش ذلك ذكّرت وسائل إعلام كويتية بمواقف المهري غير الوطنية والحاقدة على الكويت خاصة وصفه محاولة اغتيال المرحوم الشيخ جابر الأحمد الصباح عام 1985بأن من قاموا بها هم وطنيون شرفاء، ومن المعروف أن العملية كانت من تنفيذ ما أطلق عليه حزب الله الكويتي وتردد أن عماد مغنية هومن أشرف عليها شخصيا.
وكذلك فإن الكتاب والمثقفين العرب،
يؤكدون في بيانهم التضامني مع الشيخ يوسف القرضاوي على الخلفية السياسية لهذه الفتنة التي يقودها من أساسها النظام الإيراني، وه وبيان وقعه مئات من أشهر الكتاب والمثقفين العرب حيث أكدوا فيه على:
أولا: quot; إننا نود أن نذكر جموع المسلمين بأن من يكرّس الطائفية في العالم الإسلامي، ه ومن ساهم في تذبيح وتشريد وتهميش أهل السنّة في كل من العراق وإيران ولبنان، وما زال يحرك الفتنة في الخليج واليمن ولبنان quot;.
ثانيا: quot; إننا ندرك أنه في حين تبرم دولة إيران الاتفاقيات مع من كانت تسميهم في الماضي بالشيطان الأكبر بشأن تقسيم العراق وأفغانستان نفوذا معها، وتتعاون سرا وجهرا مع الأمريكيين والإسرائيليين، وتضع يدها في يد أعداء هذه الأمة حيث يقول مستشار الرئيس الإيراني السابق أبطحي: quot; لولانا ما استطاعت الولايات المتحدة غز والعراق وأفغانستان quot;.
أما حركة حماس حليفة إيران،
ووكيلتها في قطاع غزة، فقد أعلنت موقفها الداعم لإيران في مواجهة تصريحات الشيخ القرضاوي تحديدا حول الغز والسياسي لإيران في الجوار العربي، من خلال رئيسها الشيخ إسماعيل هنية الذي رفع يداه في صلاة الجمعة نح والسماء مبتهلا لله تعالى quot; أن يحفظ آية الله العظمى خامئني والسيد محمود أحمدي نجاد وأن يرزقهما أن يصليا في القدس الشريف صلاة الخلاص quot; وفي الوقت ذاته يستعيد سيرة آية الله العظمى الخميني ويصفه ب quot; الرجل العظيم الذي رفع من مكانة الجهاد لتحرير فلسطين quot;، وفي هذا مواقف انتهازية واضحة، فأي رجل عظيم الذي أمدته إسرائيل بالسلاح لمحاربة صدام حسين الذي يعتبره إسماعيل هنية وحماسه شهيد الأمتين العربية والإسلامية، ونكس الأعلام ولطمت عناصره في الشوارع يوم إعدامه في الثلاثين من ديسمبر لعام 2006.
لذلك فإن هذه الفتنة الطائفية لن تهدأ نيرانها إلا بانسحاب العامل السياسي منها، وه والعامل الذي يدعمه النظام الإيراني لأغراض سياسية لا علاقة لها بنشر المذهب الشيعي، بل لخدمة المصالح الإيرانية السياسية التي تجعل من إيران قوة إقليمية تلعب في الملفات الإقليمية وتغطي على ملفاتها الدولية العالقة مع المجتمع الدولي خاصة الملف النووي الذي في حالة اكتماله لن يهدد إلا دول المنطقة العربية. وضمن هذا السياق يخطىء من يعتقد أن النظام الإيراني يدعم حركة حماس من أجل تحرير فلسطين، فأي تحرير الذي كانت حماس باسمه تتهم محمود عباس وسلطته بقمع المقاومين ومطلقي الصواريخ، ومنذ خمسة شهور وباسم التهدئة تقوم حماس وقوتها التنفيذية باعتقال وسجن وقتل كل من يطلق رصاصة على إسرائيل. وكذلك من سوف يثق في حزب الله (حزب الولي الفقيه في لبنان)، الذي قام باجتياح بيروت في ماي و2008، وقتل وخرّب ودمّر وحرق ما لم يفعله الجيش الإسرائيلي طوال العقود الماضية. أليس من حق الشعوب إذن أن تخاف من النظام الإيراني ووكلائه المعتمدين علنا في العديد من الدول العربية؟.
لذلك فلن تهدأ هذه الفتنة ذات الشكل المذهبي إلا بانسحاب العامل السياسي منها، الإيراني تحديدا، عندئذ فليؤمن كل مسلم بالمذهب الذي يقتنع به، ولن تصبح مشكلة آنذاك إذا تحول سنّي للمذهب الشيعي أ وشيعي للمذهب السنّي، لأن ذلك سيتم بين الشخص وربه ولن تعطى الفرصة للسياسي لاستغلاله. الفتنة مستيقظة وجاهل من يتجاهلها، ولن تعود لنومها إلا بانكفاء النظام الإيراني ضمن حدوده، والانسحاب من الأراضي العربية المحتلة، والكف عن التهديد باحتلال دول الخليج العربي وتدميرها في حالة تعرض لعدوان، ووقف التدخل في شؤون الدول العربية من خلال عملائه المحليين الذين يتاجرون بالتحرير مدعومين بملايين دولارات الملالي.
[email protected]