التصريحات التي نسبت لروبرت كيغان، مستشار المرشح الجمهوري الأمريكي للرئاسة جون ماكين، حول أن (ألأردن الوطن الطبيعي لملايين الفلسطينيين من سكانه، وكذلك هو الحل الأمثل لقضية اللاجئين الذين ذاب أغلبهم في المجتمعات التي يقيمون فيها)، أثارت ردود فعل احتجاجية في الأيام القليلة الماضية تدلل على خطورة هذا الطرح، وأن الرأي العام الأردني والفلسطيني تحديدا مستنفر أساسا ضد هذه الأطروحات، التي ذكر موقع quot;فيلكا إسرائيلquot; أنها صدرت عن المستشار في محاضرة له في جامعة نيويورك، ولم يصدر نفي لها، سوى ما يشبه التكذيب الغامض الذي ورد في مقالة للزميل عبد الرحمن الراشد في جريدة الشرق الأوسط، يوم الأربعاء الثامن عشر من يونيو، إذ ذكر أن (أحدهم أرسل رسالة إلى روبرت كيغان يطلب نسخة من محاضرته في جامعة نيويورك التي تحدث فيها عن الحل الأردني للفلسطينيين)، فردّ عليه كيغان بنفي المعلومة من أساسها. في حين أن الناطق الرسمي باسم الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأوسط quot;مايكل بالتيهquot; لم يستبعد صدور مثل هذه التصريحات التي تستميل الصوت الانتخابي اليهودي لجهة التأكيد على ضرورة تبني الخيار الأردني كحل مقبول للصراع العربي الفلسطيني، وذلك أثناء لقاء له في عمّان بعدد من الأمناء العامين لأحزاب أردنية وشخصيات سياسية وإعلامية، وذلك كما ذكر موقع quot; عمّون quot; الأردني يوم الثامن عشر من يونيو، وأنّ اللقاء المذكور تمّ بحضورquot;فيليب فراينيquot; المستشار الإعلامي في السفارة الأمريكية.
وأيا كانت الحقيقة حول هذا التصريح فأنا لست مع رأي الزميل عبد الرحمن الراشد الذي قال تعقيبا على ردة الفعل الأردنية المستنكرة (ألا يبدو الموقف سخيفا جدا؟ كل هذه الهبة والمواقف الحماسية قامت على كذبة)، وذلك حتى في حالة ثبوت عدم صدور ذلك التصريح، فالمسألة في أساسها ليست كذبة ولكنها من أفكار اليمين الإسرائيلي القديمة الجديدة.
التذكير بأحلام إسرائيلية قديمة
هذه الأحلام القديمة هي التي أخذت اسم (الوطن البديل) كحل للقضية الفلسطينية، وهي تطرح مشروعا وهميا يتبناه اليمين الإسرائيلي مفاده (أن الدولة الفلسطينية قائمة فعلا شرق النهر)، لمصادرة مجرد النقاش حول قيام دولة فلسطينية في القطاع والضفة ضمن حدود عام 1967 كما يطالب الفلسطينيون والمبادرة العربية، وتتبنى بعض فصائل هذا اليمين quot;مسالة التهجير الجماعي لفلسطينيي غرب النهر ليلتحقوا بدولتهم القائمة شرق النهرquot;. ويتخذ هذا المشروع الوهمي شكل المزايدات خاصة إبان الحملات الانتخابية الإسرائيلية من فصائل اليمين الإسرائيلي في العديد من الأحزاب والتنظيمات خاصة الليكودي الشاروني، رغم انفصاله الأخير عن الليكود وتأسيسه حزب quot;كاديماquot; الوسط. وهذا ما يفسر إصرار الجانب الإسرائيلي على ضم القدس عاصمة موحدة لدولة إسرائيل، وتكثيف بناء وتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية، التي تلتهم نسبة عالية من مساحة الضفة، وتحيلها بسبب الحواجز والطرقات ممنوعة الاستعمال على الفلسطينيين إلى جيتوات مغلقة، وهذه الضفة الغربية في تسميتنا هي quot; يهودا والسامرةquot; عند اليمين الليكودي، الذي يرى أن من الأخطار التي يجب مواجهتها، ما أطلق عليه quot; القنبلة المنويةquot; مقصودا بها التكاثر البشري الفلسطيني، إذ يعيش في داخل دولة إسرائيل حوالي مليون ونصف فلسطيني، وفي قطاع غزة مليون ونصف، وفي داخل الضفة الغربية حوالي مليونين ونصف، مما يعني أن الفلسطينيين ألآن في داخل إسرائيل و القطاع والضفة، حوالي خمسة ملايين و نصف المليون، بينما عدد السكان اليهود في داخل دولة إسرائيل حسب ما هو منشور في موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية يوم السابع من مايو 2008 هم فقط خمسة ملايين وأربعمائة وتسع وتسعين ألف، أي تقريبا نفس عدد السكان الفلسطينيين، ومصدر التخوف الإسرائيلي من القنبلة المنوية الفلسطينية، هو نسبة التكاثر البشري الفلسطيني التي تثبت ألإحصائيات أن سكان القطاع والضفة تزايدوا بين عامي 1998 و 2005 بنسبة 39 %، يقابل ذلك تزايد ملحوظ في الهجرة من داخل دولة إسرائيل، والمشاكل و التناقضات بين اليهود السفارديم (الشرقيين) وألإشكيناز (الغربيين)، وشبه الرفض لليهود الإثيوبيين (الفلاشا)، ومعاملتهم بعنصرية علنية أدت إلى تظاهرهم العديد من المرات، مظاهرات رافقتها مظاهر عنف من الطرفين. كما ثبت للسلطات الإسرائيلية نفسها أن ما لا يقل عن مائتي ألف من المهاجرين لدولة إسرائيل من دول المنظومة ألاشتراكية عقب انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1990، كانوا وما زالوا مسيحيين وليس يهودا، ادّعوا أنهم يهود للوصول لدولة إسرائيل هربا من الفقر والاقتصاد المنهار في تلك المنظومة، وهذه ألآلاف لا يربطها بدولة إسرائيل إلا لقمة الخبز والمسكن، وبالتالي فهي مستعدة للهجرة السريعة إذا وجدت لقمة خبز أفضل ومكان سكن أكثر راحة من مجتمع ينام ويستيقظ على صوت الرصاص وأخبار العمليات الانتحارية. ويكفي للتدليل على هذه الأحلام الإسرائيلية ذكر موقفين:
الأول: هو ما عبر عنه إيجال ألون العسكري والسياسي الإسرائيلي السابق، الذي يعتبر من مؤسسي المشروع الصهيوني وجيش الدفاع الإسرائيلي، وتولى وزارة الخارجية من عام 1974 إلى عام 1977، وهو صاحب نظرية quot; علينا العمل وفق سياسة الزحف الاستيطاني من أجل الوصول إلى بناء الخريطة السياسية لدولة إسرائيل العظمى، وإنّ أمن وسلامة إسرائيل أرضا وشعبا يقتضي إلغاء جميع الخرائط الحدودية التي رسمت للدولة منذ عام 1948 quot;.
الثاني: الموقف الذي عبّر عنه شارون في قوله quot; على الحكومة الإسرائيلية ضم الضفة الغربية فهي جزء لا ينفصل عن الوطن التاريخي لليهود، كما يتوجب على الحكومة الإسرائيلية توطين مليوني يهودي في الضفة الغربية، تكون مجتمعاتهم أو مستوطناتهم نمطا من المجتمعات التعاونية الزراعية الصناعية المحلية، ولا تخلو من القدرة الدفاعية العسكرية، تشكّل بمجموعها حزاما أمنيا عريضاquot;.
وهذه المواقف ليست سرّية بل يؤكدها أصحابها في العديد من المناسبات، ومن الواضح أن تطبيق هذه الأفكار لا يعني سوى التهجير الجماعي لفلسطينيي الضفة الغربية، وهذا لن يكون إلا عبر النهر للضفة الشرقية أي إلى ألأردن، بدليل عملية النزوح التي أعقبت هزيمة حزيران عام 1967 ليسن الضفة الغربية المحاذية لشرق النهر فقط بل من قطاع غزة أيضا. من هذا التخوف الفلسطيني والأردني، كانت الهبة الجماعية لرفض واستنكار تصريحات مستشار المرشح الجمهوري الأمريكي، لأنها دخان ليس بدون نار وإن صدرت لاستمالة ناخبين أمريكيين.
أحلام غير قابلة للتحقيق
ضمن معطيات الواقع الأردني والفلسطيني، فهذه الأحلام غير قابلة للتحقيق بشكل مطلق مهما بلغ حجم التخطيط والاستعداد والأموال المرصودة لهذا المشروع الخيالي، وذلك لأسباب غير قابلة للنقاش والمساومة:
أردنيا
لأن الأردن أصبح كيانا سياسيا منذ تأسيس إمارة شرق الأردن عام 1921 بقيادة الأمير عبد الله بن الحسين بن علي (الملك عبد الله المؤسس لاحقا)، وأعلنت المملكة الهاشمية لشرق الأردن عام 1946 وملكها عبد الله بن الحسين، وفي عام 1949 سميت المملكة الأردنية الهاشمية بعد إعلان وحدة الضفتين وهما شرق الأردن والضفة الغربية، وظلّ هذا الوضع المعترف به دوليا وعضو في جامعة الدول العربية، حتى احتلال إسرائيل للضفة الغربية عام 1967، وظلت المملكة الأردنية الهاشمية في زمن المرحوم الملك حسين، تعمل وتطالب ضمن المجموعة العربية بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية. ومن المعروف أن قرار الملك حسين في عام 1988 بفك الارتباط مع الضفة الغربية لم يكن تخليا عن مسؤولية المملكة الأردنية الهاشمية بقدر ما هو امتثال لرغبة فلسطينية عبرت عنها منظمة التحرير الفلسطينية منذ قرار القمة العربية في الرباط عام 1974 القاضي بأن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، وإعلان المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر عام 1988 الدولة الفلسطينية ضمن حدود عام 1967، فكان قرار فك الارتباط دعما للإعلان الفلسطيني و الكيانية الفلسطينية، إذ من غير المنطقي ولا المقبول دوليا، أن تستمر المملكة الأردنية الهاشمية في اعتبار الضفة الغربية جزءا منها تم احتلاله، وفي الوقت ذاته يعتبر الفلسطينيون الضفة الغربية جزءا من دولتهم المعلنة نظريا، ويعملون على تحقيقها خاصة بعد اتفاقية أوسلو عام 1993، وتستمر المملكة الأردنية الهاشمية دولة كاملة السيادة معترف بها في منظمة الأمم المتحدة والجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ولها حضور واضح في كافة المحافل والملفات الدولية.
لذلك فإنه من المستحيل ونحن في مطلع القرن الحادي والعشرين أن تتمكن أية مؤامرة من شطب هذه الدولة، خاصة إذا كان هدف هذا الشطب هي شطب دولة أخرى هي الدولة الفلسطينية المقترحة، وهي هدف العمل والنضال الفلسطيني والعربي المشترك طوال ما يزيد على نصف قرن مضى. ومن المهم التذكير بأن أصحاب هذه الأحلام والرؤى المؤامرة، يلعبون بوضوح على مسألة النسب الخاصة بالأصول الديموغرافية في الأردن، خاصة ما يتعلق بالأردنيين من أصول فلسطينية، و أيا كانت هذه النسبة فهي لا تخدم المؤامرة التي يفكرون فيها، لأن الانتماء لأي وطن ودولة لا علاقة له بالأصول والمنابت، لأن هذه النظرة أول ما تنسف هي الدولة الإسرائيلية إذا تذكرنا الصراع القائم بين اليهود السفارديم والإشيكناز ولاحقا اليهود الفلاشا، وأيضا فالأصول الفلسطينية بمئات ألآلاف في دول كسوريا ولبنان، فهل يفكر هؤلاء في كيانات مستقلة أو سلطة حكم ذاتي، وكون هذا غير موجود مطلقا حتى في أحلام أولئك الفلسطينيين، فهذا يعني أن طرحه فيما يتعلق بالمملكة الأردنية الهاشمية، فقط لأنه يطرح من قبل ساسة إسرائيليين وموالين لهم خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية في أسابيع الانتخابات فقط، وهذا ما يدلل على أنه غير مطروح كأجندة سياسية تعمل الولايات المتحدة الأمريكية على تحقيقها في ظل الدعم العلني الأمريكي لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة أيا كان خلافنا معها حول حدود هذه الدولة، لأن الولايات المتحدة تدرك تماما أنه لا أمن حقيقي لدولة إسرائيل إلا بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وتعايش الدولتين والشعبين في سلام واستقرار حقيقيين، ويدرك ذلك قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي حيث يتبنون مبدأ (دولتين لشعبين).
فلسطينيا وتأكيد ملكي أردني
لا يمكن تصور أن أي فلسطيني أيا كانت الدولة التي يحمل جنسيتها بما فيها المملكة الأردنية الهاشمية، أن يفكر حتى في أحلامه بالتنازل عن حقه في دولة فلسطينية مستقلة أيا كانت حدودها مقابل قيام دولة فلسطينية مكان دولة أخرى. من هنا يأتي التأكيد الأردني في كل مناسبة، وأعاد تأكيده الملك عبد الله الثاني في مقابلته مع جريدة السفير اللبنانية يوم الأربعاء الثامن عشر من يونيو الحالي بقوله: quot; لقد تعودنا على مثل هذه التسريبات الإعلامية والتحليلات السياسية، ولا نخشى على مستقبل الأردن، ونحن متفائلون بأن الأردن الذي جابه تحديات عديدة سيمضي لتحقيق مستقبل أفضل، فهذا البلد وجد ليبقى، والأردن هو الأردن، وفلسطين هي فلسطين. لقد تعايشنا مع الصراع العربي الإسرائيلي على مدى نصف قرن، ودافعنا عن حقوق ألأردنيين والفلسطينيين، وسنبقى راسخين في مكاننا، مؤمنين بعدالة قضيتنا، وبحق الشعب الفلسطيني في دولة وهوية فلسطينية مستقلة على أرض فلسطين. والفلسطينيون لن يقبلوا بديلا لوطنهم فلسطين، وعلى إسرائيل أن تعي هذه الحقيقة وتسلم بالوجود الفلسطيني وبحتمية التعايش بين الفلسطينيين والإسرائيليين quot;.
لذلك أعتقد أن إعادة طرح هذه الأحلام المؤامرة من أي شخص ولأي غرض، كان مسألة إيجابية ليعرف صاحب هذا الحلم حقيقة الموقف الفلسطيني والأردني الرافض لشطب الأردن لأنه يعني شطب فلسطين، وهذا ما لن يتحقق إلا في أحلام مريضة لأغراض موسمية، سيدرك أصحابها عاجلا أنها مجرد أوهام غير قابلة للتحقيق.
[email protected]
[email protected]
التعليقات