عندما لاحت بشائر صباح الثالث عشر من تشرين الاول عند تخوم ما يصطلح عليه حد الوقت في استراليا ثم في اليابان وغرب آسيا بدأ هناك يومٌ جديد فيما كانت اوربا و امريكا غارقة في نومها بعد يوم شاق من العمل و الترقب كان فيها قادة اوربا قد انتهوا توا من وضع الخطوط العامة لخطة الإنقاذ، وحينما فتحت اسواق المال ابوابها في اقصى quot;غربquot; الكوكب كان واضحا ان الخطط التي وضعت في اوربا وعبر الاطلسي قد بدأت مفعولها.
ما لبثت أسواق البورصة ان فقدت بعض مكاسبها بسبب الخوف من الركود الاقتصادي المتوقع و بعد ان خفضت بعض الدول مثل المانيا توقعاتها حول النمو الاقتصادي للعام القادم، ثم عادت اسواق المال الى تحقيق مكاسب و تعويض بعض من خسائرها و سجلت في هذه الأيام القليلة التي تلت أعلى المكاسب وافدح الخسائر في يوم واحد.
من الصعب التكهن بكل النتائج التي ستترب على هذه الاجراءات و فيما اذا كان المجتمع الدولي (وليس النظام الرأسمالي وحده) قادرٌ على الخروج تماما من الازمة، و لكن المؤكد ان عالمَ ما بعد الازمة سيكون مختلفا.
و لكن التذبذب والارتباك الذي ساد اوساط اليسار العقائدي في تناوله لهذه الازمة كان اكبر بكثير من التذبذب الذي أصاب أسواق المال، فقد تم اغراق مواقع الانترنت و احيانا الصحف بسيل من المقالات المتسرعة، بشر فيها الكثير منهم بنهاية الرأسمالية، تلك التوقعات العقائدية تذكرنا بما كان الكثير من اوساط اليسار ينتظرونه و يحلمون به: تحقق نبوءة لينين بانهيار الرأسمالية استنادا الى ما توقعه من أن الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية.
الفارق أن استنتاجات لينين كانت مبنية على حسابات و جداول احصائية دقيقة وكانت صائبة في قسم كبير منها ضمن اطارها التاريخي قبل ان تدخل الرأسمالية مرحلة الثورة العلمية والتكنيكية التي تجاوزت فيها نوعيا المرحلة التي تناولها لينين بالتحليل و تجاوزت ازمتها، في حين كانت كتابات اليسار حول الأزمة الحالية كتابات انطباعية تفتقر الى العمق و لا تمس سوى السطح.
تحليل لينين في تحديد الملامح العامة صحيح لكن التطورات تجاوزته، اما تحليلات اليسار الطفولي الحالي فقد ولد ميتا.
القاسم المشترك الذي يوحد بعض هؤلاء الكتاب انهم بعيدون كل البعد عن منهج ماركس الذي كان يحلل الوقائع و لا يعطي أي فرصة للعواطف و الحب و الكراهية في ان يقررا استنتاجاته.
أول ازمة عامة في زمن العولمة
هذه اول ازمة عامة تحدث في ظروف العولمة و الاقتصاد الهائل للسوق و الترابط و التأثير المتبادل، فلا احد بقى بمعزل عن السوق العالمي بما في ذلك الصين التي تكيف اقتصادها بذكاء مع متطلبات العولمة و انقذ نفسه من الانهيار الحتمى الذي أدى الى انهيار الإتحاد السوفيتي بسبب الجمود العقائدي وعدم الرضوخ للواقع.
بات واضحا الآن حتى لقادة الصين ان مجرد تباطئ الاقتصاد الامريكي و الاوربي سيقودهم الى كارثة اقتصادية في بلد عليه أن يعيل خمس سكان العالم اذ ستؤدي الازمة الى انهيار الصادرات التي انتعشت بين الصين و اوربا و انعشت الصناعة الصينية في تطور غير مسبوق و أدت الى واحدة من اعلى معدلات النمو في العالم.
حتى أولئك الذين انتقدوا بشدة سياسة بوش الاقتصادية سارعوا الى ابداء القلق من الازمة الحالية في اسواق المال التي ستقود الى ركود عام غير مسبوق قد يطال الملايين من الشغيلة، فعلى الرغم من معارضته بحده لسياسة بوش الاقتصادية فقد أيّد الاقتصادي الامريكي و آخر الحاصلين على جائزة نوبل بول كروجمان الاجراءات التي اتخذتها ادارة بوش للحد من تدهور اسواق المال و عبر عن ارتياحه للتحسن الذي طرأ على مؤشرات الاسهم، كما اتفق على دعم الإجراءات التي اقترحتها الادارة الامريكية الجمهوريون و الديمقراطيون و مرشحا الحزبين لانتخابات الرئاسة ولم يختلفوا الا في التفاصيل.
و تنادت اوربا و عقد قادتها سلسلة من الاجتماعات تدلل على الشعور بالمسئولية ازاء مصير الإقتصاد العالمي و جمدت الاحزاب المعارضة موقفها من الاحزاب الحاكمة و برز الدور الاوربي اكثر من أي وقت مضى و تألق ساركوزي كنجم عالمي.
التشفي ام الحرص
ان الموقف المسئول يملي على حامله النظر الى مصالح اوساط واسعة من الناس التي سوف تتضرر دون ان يكون لها أي ذنب في
الاقتصادي الامريكي الحائز
على جائزة نوبل بول كروجمان
الازمة كما يملي عليه أن يدعم الجهود التي ترمي الى حلها او الحد من ضررها.
و يبدو أنه من الساذج استنادا إلى هذه الأزمة طرح تغير نوعي دراماتيكي في طبيعة الأنظمة الاجتماعية السائد الآن في العالم كما يأمل البعض و سيكون ساذجا أكثر الحديث عن التغيير بطريقة ثورية، فقد ولى زمان ذلك إذ طورت البشرية آليات تغيير أخرى تضمنها الحريات العامة و مزيد من المشاركة من قبل عموم الناس في إبداء الرأي و صنع القرار و تطرح الحياة نفسها في ظروف العولمة إمكانية المزيد من الرقابة و دور أوسع لجهاز الدولة و ربما شكل أكثر عدالة للتوزيع بل تطرح امكانية واقعية لادخال ملامح جديدة على الاقتصاديات الكبري و المزيد من المكاسب لصالح شغيلة الفكر و اليد. و تبقى المهمات الأكثر الحاحا لأحزاب اليسار، اذا أرادت جديا أن تدرك مهامها في زمن العولمة، أن تدعم القوى الاجتماعية التي تسعى الى إدخال تغييرات في طريقة إدارة الاقتصاد و مراقبة البنوك و هو أمر سيسهل الوصول الى أهداف كثيرة منها الحد من استهتار المضاربين و الطفيليين و حماية مصالح الطبقة العاملة و محدودي الدخل و الطبقة الوسطى.
و في كل الاحوال اثبتت الأزمة أن اليسار الذي كان يوما ما طليعيا قد اصبح متخلفا بشكل مأساوي و يحمل عقدة الهزيمة و التشفي و يعتمد الأماني و العقائدية بدلا عن التحليل العلمي، فعلى عكس ما عرف عن التقاليد التي ارساها ماركس في تحليله العميق للظواهر و لقوانين الرأسمالية بالذات و خصوصا الجانب المتعلق بمنهجه الديالكتيكي الذي لا يدعو إلى التغيير ما لم تكن المقدمات مهيئة لبديل افضل، نرى أن الكثيرين ممن يرون انفسهم اتباعا لماركس قد رحبوا بالانهيار الذي يقابله ليس البديل الاشتراكي بل العدم و الفوضى.
بات أيضا واضحا ما يلي:
ـ ان الانهيار في أسواق المال و فيما بعد انهيار الاقتصاد سيكون عالميا و يقود الى الفوضي الاقتصادية و المالية.
ـ أن هذا الانهيار لن يطول تأثيرُه الاغنياء بل ان تأثيره عليهم سيكون محدودا فيما سيعاني منه ذوي الدخل المحدود و الفقراء و الطبقة الوسطى و اصحاب المشاريع الصغيرة. و من الواضح أن اكثر الفئات الاجتماعية معاناة في الولايات المتحدة هم على سبيل المثال المتقاعدين او الذين في طريقهم الى التقاعد خلال السنتين او الثلاث القادمات.
ـ ان من المتوقع ان يكون ضمن ضحايا الركود إذا ما طال و استعصى مع ما يتبعه من ترشيد الانفاق العام: البيئة و الحد من انبعاث ثاني اوكسيد الكربون كما سيصار حتما إلى تحديد الانفاق العام و خصوصا في مجال الثقافة و الرعاية الاجتماعية و غيرها، أي انها ستطول الفقراء و محدودي الدخل و المثقفين.
ان الترحيب الاعمى بانهيار النظام الرأسمالي كما سميت الازمة الحالية لا تدل الا على عصابيات اليسار الطفولي التي تتميز بالحقد التدميري و الانطلاق من منطلقات الكراهية و الافتقار الكلي للقدرة على التحليل.
مهمات عالمية اكبر من قدرة الاطار الرأسمالي
على أن تهافت حجج المتسرعين لا تمنع من تأشير الكثير من ملامح الكارثة متعددة الجوانب التي تواجهها البشرية.
في خليط من الجد و الهزل قلت لصديقي الالماني انه عليه الاهتمام بارضه فلربما سيستطيع خلال السنوات القادمة زراعتها بالخضار الذي تستورده المانيا من البلدان الدافئة لأن التغيير المناخي قادم باسرع مما كان يتوقع!
اكتشفت باندهاش انه كان يفكر بأن السنوات القادمة ستمكنهم من زراعة الخضار فعلا.
هذه ليست سخرية انها واقع مر.
العالم يسير نحو كارثة متعددة الجوانب، الازمة المالية الحالية ليست سوى احدى تجليتها فالنمو الاقتصادي الذي تتهالك عليه بلدان اوربا ناظرة بحسد و حقد و ربما خوف الى الصين و الهند و معدلات نموها العالي، هذا النمو هو مسار حثيث نحو الكارثة. فكل 1% من النمو العالمي يعني بما لا يقبل الشك و ضمن شروط الانتاج الحالية خطوة نحو القبر، قبر البشرية.
كل نمو في الانتاج الاجمالي اصبح يعني الآلاف من الاطنان من المحروقات التي تطلق في الجو و ترفع درجة حرارة الكوكب، و قد رفضت الولايات المتحدة، و هي الملوث الاكبر في العالم، باستمرار أي حد جدي من انبعاث الغازات بسبب التكاليف الإضافية و تقليل قدرة الاقتصاد الامريكي على المنافسة و الاحتفاظ بالصدارة، و فقدان الصدارة تعني ان الولايات المتحدة لن تكون اقوى دولة في العالم. و قد حذر من ذلك خبراء ستراتيجيون امريكيون على انه امر متوقع في العقدين القادمين.
و قد حذر نفس الخبراء من التحديات البيئية و وصلوا الى استنتاج مفاده أن التغيير المناخي و ارتفاع درجة حرارة الكوكب في الولايات المتحدة ستكون كارثية، بل كانوا اكثر تحديدا حين اشاروا الى ان كاليفورنيا ستتحول الى صحراء قاحلة ليس على المدى البعيد و لكن على وجه التقريب في عام 2020 أي بعد ما يزيد قليلا على العقد الواحد.
ان التنافس على الصدارة هو تنافس على الكارثة.
الحاجة الى قيادة عالمية
تتعرض البشرية ككل الى مخاطر عامة تهدد الجنس البشري برمته تجعل من الحاجة الى قيادة عالمية حاجة موضوعية تتلائم مع القاعدة الإقتصادية المعولمة، لكن شكل الانظمة الاجتماعية السائدة الآن و التي تتولى الصدارة و على وجه الخصوص الشكل الرأسمالي غير جدير بالقيادة الكوكبية رغم ان اوساطا من الذي هللوا للنظام quot; الاشتراكي quot; بشكله السوفييتي يهللون اليوم للديمقراطية الامريكية و طبيعة اقتصادها في انتقاله تغض النظر عن النواقص تترواح بين السخط و الرفض المطلق من جهة و الانبهار أو القبول غير المشروط من جهة اخرى.
تسعى اوربا عن طريق ساركوزي الى اقناع ادارة بوش بضرورة تبني رأسمالية مخططة و تحت الرقابة، لكن ا دارة بوش رغم الازمة و رغم أن امريكا هي صانعها قد اكدت انها واثقة من متانة الاقتصاد الامريكي و رفضت أي شكل من اشكال تدخل الدولة في الاقتصاد.
قادة اوربا الى يتبنون اقتصادا يسمح بتدخل الدولة و نظاما للإقراض محكوما بقوانين صارمة لعب دورا في إنشائه و ترسيخه احزاب الاشتراكية الديمقراطية التي حكمت لفترات العديد من دول اوربا يقدم النصيحة لأمريكا بضرورة دور اكبر لرقابة الدولة فقد قال رئيس وزراء بلجيكا أن الازمة الحالية هي ازمة عالمية و تحتاج الى منبر عالمي لمعالجتها.
إن تعقيدات عالمنا المعاصر هي اكبر من حكمة قادته و أكبر من آليات القيادة على الصعيد الوطني.
و يبدو ان التناقض بين الاقتصاد المعولم و شكل التملك الخاص و الاطارات الوطنية للاقتصاد سيشهد المزيد من التناقض في العقود القادمة.
يحتاج عالمنا الى نظام عالمي جديد و هيئة عالمية ذات مهمات اوسع من الاطار الوطني و القاري.
الضفدع النطاط
أشار أل غور نائب الرئيس الامريكي السابق بل كلنتون الى أن الضفدع اذا ما رمي في قدر ماء يغلي فإنه سوف يقفز و ينقذ نفسه، اما اذا وضع في ماء بارد قمنا بتسخينه تدريجيا فإنه سوف يبقى في الماء الى أن يغلي دون ان يقفز حتى يموت.
طبعا نحن سكان المنطقة العربية و الشرق الاوسط المقصودين بالقدر ذي الماء الذي يشارف على الغليان بعد ارتفاع كارثي لدرجات الحرارة و انحباس المطر.
ربما تتهيأ اوربا الان لصد هجرات جماعية هي الاكبر من نوعها منذ انحسار العصر الجليدي الذي أجبر اقواما عديدة على الهجرة شمالا، و لكن التغييرات المناخية التي حدث منذ العصر الجليدي لم تكن من صناعة البشر، هذه المرة الكارثة هي من صناعة دول اوربا و امريكا على وجه التحديد و نحن الذين ندفع ثمنها.
تخيل ان اوربا تستفيد من تجربة سقوط روما بيد البرابرة و تحصن نفسها بسياج الكتروني و تتركنا نموت عطشى منهوكين على سياجها الالكتروني المانع او نتفجر بالغام مزروعة في الابيض المتوسط تفصل اوربا عن الغزو البرري، هذا الغزو الذي وصلت طلائعه فعلا والذي حشد ضده منذ الآن ليس اليمين الاوربي الذي يقود امثال الراحل يورغ هيدر فقط بل اوساط من الوسط و اليسار المفزوع.
لك ان تتخيل أوربيين و امريكيين ينقبون عن نفطنا بدون أي اثر لنا بل بدون أي اثر لحياة في صحراء وصلت فيها درجات الحرارة الى الثمانين مئوية، ينقبون و هم يرتدون بدلات مكيفة صممت اصلا للنزول على زحل.