الفضاء الحداثي ونصب الحرية
بدخول الفن التشكيلي رسما ونحتا مرحلة الحداثة تَشكّلَ في النحت خصوصا الفضاءُ ثلاثيُ الأبعاد أي الفضاء المجسم. على أن القطعة الفنية عموما لم تعد تقتصر على بعدين فقط وأنما أصبح بعضها ثلاثيَّ الأبعاد كما في فن الـ (installatiom) الذي تقارب مع النحت وخلق تبعا لذلك فضاءاته الخاصة. جسدت أعمال النحت وخصوصا منجزات هنري مور أهم شكل من أشكال التأسيس للفضاء الحداثي باعتباره عنصرا فاعلا في العمل التشكيلي يقوم بالوظيفة على قدم المساواة مع الكتلة رغم انه بالمقارنة مع الوجود المادي للكتلة ليس سوى عدم ما دفع النقاد إلى الحديث عن الطاقة الكامنة في الفضاء (energy in space).
هنري مور والفضاء الداخلي للعمل
الفضاء الحداثي كان لازمة لحداثة الموضوع ذاته يرفده الشكل الكتلوي حين ينكفأ ويتقلص، أو يُنقِص منه إذا برز هنا أو هناك. العلاقة بينهما، إذن، عكسية ولكنها تكاملية. تدعم الفراغات الكتلة ـ الموضوع بغض النظر عن كونه ثنائي أو ثلاثي الأبعاد. أعطى ديغا أحد أكبر كلاسيكيي الحداثة الفراغ الذي لم يكن مُسّوغا لدى سابقيه وظيفة جمالية ورمزية استفادت من التشكيل الياباني الذي أدهش فناني اوربا في القرن التاسع عشر بأن جعل الفضاء يمثل امتدادا روحيا تأمليا مثلما أراده اليابانيون وكرسوه. العقلانية الاوربية كانت تفزع من الفراغ. عَمَلُ ديغا الزيتي الشهير (ساحة الكونكورد) يمثل بدعة تكوينية بمعيار الفن السابق، الشخوص مقطوعون بحدود اللوحة ولا تظهر سوى أجزاء من أجسادهم والفراغ في الوسط كبير بشكل غير مألوف بل ومثير للإستنكار لدى كلاسيكي الفن. فنانو القرن اللاحق الذين مهد ديغا بجرأته غير المعهودة الطريق لهم شكل الفضاء والفراغ لديهم عنصرا فاعلا في العمل التشكيلي.
في البورتريه ينظر الشخص المرسوم الى جهة ما فيكون الفضاء مع اتجاه النظر، إلى حيث ينظر،اكبر من الفضاء الذي خلفه. خالف ديكا القاعدة فأصبح الشخص ينظر الى حدود اللوحة تسقط نظرته خارج اللوحة والفضاء خلف رأسه واسع وكبير والشخص عند حدود اللوحة يكاد يسقط منها. كرّس بيكاسو هذا quot;الخرقquot; كثيرا وبجرأة متناهية، ساخرا من القواعد العقلانية المألوفة باستخفاف نصف شرقي، لكنه استخفاف خلاق.

خصائص الفضاء في نصب الحرية
الفضاء في نصب الحرية للفنان الكبير جواد سليم فضاء حداثي، تحدد بنهايات وحواف الوحدات البرونزية وكان ذا خصائص أملتها طبيعة العمل:
ـ على خلاف الرليف (النحت البارز) الذي اشتهر به فن وادي الرافدين حيث الخلفية هي من نفس مادة الوحدات النحتية سواء كانت من الحجر أو الرخام... الخ كانت مادة الموضوع أي الوحدات النحتية لنصب الحرية من البرونز فيما كانت الخلفية من مادة مختلفة: الرخام فاتح اللون.
ـ وفر التضاد اللوني فرصة جعلِ العمل مرئيا من مسافة بعيدة وهو ما ينبغي أن يكون عليه عمل كبير في الهواء الطلق.
ـ اختلاف المادتين ألزم ربط الوحدات النحتية بالخلفية الرخامية ما ترك مسافة بين الخلفية والوحدة النحتية وقد ساهمت الظلال وتحولها المستمر حسب زاوية سقوط أشعة الشمس في تكون فضاء ديناميكي.
ـ إن فضاء ستاتيكيا (ثابتا) مخططا له على الورق تحكمه حواف الوحدات البرونزية المتجاورة كان مساهما نشيطا في الإيقاع التتابعي لوحدات البرونز قد أضيف له الآن فضاء ديناميكي.
ـ لبّت بعض الوحدات البرونزية متطلبات موازنة تشكيلية بحته رغم العديد من التأويلات الرمزية التي لجأ اليها بعض محللي العمل مثل الشكل الدائري الذي يتوج رأس الجندي الذي حطم السجن والذي اعتبر شمسا حسب بعض التأويلات والأشكال المستطيلة التي تعلو الكتلة الاولى من اليمين.
ـ سعة العمل، استطالته وتغطيته لمساحة واسعة هي ضرورةٌ أملتها المهمة السردية. ثم كانت ضخامة الشكل استجابة لضرورة جعل العمل مرئيا وعدم ضياعه في التفاصيل العديدة والمتحركة ضمن المكان الذي شغله: قلب عاصمة حيوية وفي أكثر ساحاتها شهرة وازدحاما.
ورغم ان العمل يعتمد السردية إلا انه خالف اغلب الأعمال التشكيلية حتى السردية منها التي غالبا ما تمثل لحظة واحدة، معطىً نهائيا وناجزا مثل عمل ريبين quot; ايفان الرهيب يقتل ابنه quot; أو العديد من أعمال ديغا وحتى العديد من اعمال النحت الرافديني البارز (الرليف)، تلك الأعمال التي لا تستطيع أن تسرد كل شيء وانما تعتمد لحظة واحدة من الحدث وتترك للمشاهد أن يعرف ما قبل لحظة التصوير وما بعدها.
ملاحظة:
أسهم التركيز على مضمون العمل في الإساءة إليه فقليلا ما يصار الى البحث الاسلوبي الذي ميز العمل الفذ وخصوصا وحدته الاسلوبية.
نصب الحرية صوّر لنا الماضي ثم الحاضر ـ أي الفترة التي خطط ونفذ فيها الفنان ومساعدوه العمل ـ كما صوّر المستقبل، كل هذا بشكل متتابع من خلال الامتداد في المكان. في المساحة المشغولة التي تمتد من اليمين الى اليسار وصولا إلى الخاتمة، لعب المكان او الفضاء بين تكوين وآخر عدا وظيفته التشكيلية الجمالية دورا في التعبير عن الزمان وتعاقب الحقب فكان فضاء زمكانيا، اذا صح التعبير.
نصب الحرية عمل فريد واصيل، إنه تتويج فذ للموروث الفني والثقافي لبلاد ما بين النهرين وكما قال جبرا ابراهيم جبرا عن جواد سليم انه حاول أن يصل إلى quot; طراز عراقي في الإبداع مجذّر في تراث العراق وحضارته quot;، غير أن الجزء الأخير الذي يخص المستقبل التي استقراه جواد سليم: الازدهار والحرية والمجد، قد تماشى قليلا مع تفاؤل السلطة الجديدة وتكيف مع مفردات الاعمال النصبية المتأثرة بالواقعية الاشتراكية ومنجزها واسع الانتشار في العديد من مدن وعواصم الدول الاشتراكية سابقا ـ لاحظ الرجل حامل المطرقة ـ
ينتهي الفضاء على يمين حامل المطرقة نهاية مفتوحة تؤدي الى المجهول حيث لم تتح الفرصة لجواد سليم ان يعرف مآله، اذ رحل قبل اكتمال العمل وفي ذروة الحاجة اليه، لقد انتهت القصة بنهاية الفضاء الأخير لكنها لم تستنفذ الاكتشاف واعادة الاكتشاف لهذا العمل الفذ الذي سيبقى مصدر الهام لأجيال قادمة من الشباب.
اعادة اكتشاف الخصائص المحلية
صورة تعود للستينات لنصب الحرية
في بحثه عن طريقه الخاص انحسرت في أعمال جواد سليم النحتية بشكل خاص التأثيرات الأوربية أما في أعمال الرسم فيمكننا أن نكتشف لديه بعض التأثيرات الاوربية، فالكثير من أعماله التي مثلت مواضيع بغدادية أصيلة كانت أسلوبيا متأثرة بفترة ما بعد الانطباعية وماتيس على وجه الخصوص ومنها على وجه التحديد تأثر ماتيس بالنقوش الشرقية. ولكن النقاد الذين سرقهم الموضوع وفرض نفسه عليهم وصرفهم عن الاسلوب قد ركزوا على الاول دون الاخير.
في بداية مسيرتهم الفنية وجد الفنانون العراقيون الفن الاوربي فنا ذا فتنة ونموذجا جديرا بالإقتداء، وبقيت اوربا ذات فتنة طالما بقي المرء بعيدا عنها، ولكنهم كانوا يكتشفون بالتدريج جمال فنهم المحلي ليس في بلدانهم وانما في اوربا.
تعزز الغربة الشعورَ بالجمال المحلي وتضفي على عناصر الطبيعة: الأزقة، البساتين، الأفراد، الملابس المحلية، المهن الآيلة الى الاندثار، الموروث الثقافي والتشكيلي.. الخ فرادة وشحنة عاطفية، لم تكن، حين المعايشة، تلفت الأنظار بحكم التكرار والتعود وتعزز الغربة دوافع العودة وإعادة التنقيب عن الخصائص المحلية: طريقة الرؤية المختلفة والحدود المتحركة وغير الصارمة بين الخيال والواقع.
في أوربا انشغل الفنانون الاوربيون بمنابع جديدة لفنهم الذي بدأ يعاني من الركود بعد استنفاذ الانطباعية اغراضها التكنيكية. كان نضوب الخيال احد نتائج العقلانية البرجماتية، فإذا ما كان تطور الفن الأوربي حتى الانطباعية يمثل خاصية أوربية محلية غير متأثرة الا قليلا جدا بالمحيط العالمي، فإن فن القرن العشرين مدين بالكثير لفنون شعوب آسيا والشرق وشمال افريقيا وامريكا الوسطى وغيرها. في تلك الفترة، أي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بدأت تنتشر المطبوعات اليابانية واسلوبها المتعارض مع قواعد المنظور الأوربي الكلاسيكي (كما ذكرنا في صدر الموضوع) وكان العديد من فناني اوربا قد اقام لفترة ما في تونس والمغرب للبحث عن ضوء اكثر سطوعا كهدف معلن، ولكن الضوء لن يكون ضوءا مجردا قائما بذاته وانه لا يستطيع أن يعبر عن نفسه إلا بسقوطه على الاشياء فوجد الفنانون الاوربيون رغم مكابرات التفوق مفردات تشكيلية جديدة كما فعل ديلاكروا ـ راجع لوحته نساء جزائريات ـ كما اقام هنا في بلدان شمال افريقيا بعض الانطباعيين من الجيل الذي اعقب ديلاكروا، ولقد ألهمت الأقنعة الأفريقية كما أشار بعض مؤرخي الفن بيكاسو وبراك في تأسيس التكعيبية.
هنا، أي في مجال الفن، ربما بدأت العولمة ابكر مما في مجال الاقتصاد والسياسة.
جواد سليم والفن الاوربي
في سفرته عام 1946 للدراسة في مدرسة (Slade School) في انكلترا تعرّف جواد سليم بشكل اعمق على أعمال النحات البريطاني هنري مور، وعرف بدون ادنى شك توظيفه الفريد وغير المسبوق للفضاء.
الفضاء لدى هنري مور هو فراغ داخل العمل يؤدي وظيفة تشكيلية وجمالية بنفس القدر الذي تؤديه كتلة العمل الصلبة ولم يكن الفضاء لدى هنري مور كما في الفن السابق هو مجرد فراغ يحيط بالعمل من الخارج.
و كما ذكرنا فقد كان التعمق في اكتشاف جماليات الموروثات الثقافية المحلية ومنها فن بلاد ما بين النهرين وأعمال الواسطي يتحقق احيانا من خلال اعمال وتنظيرات قام بها فنانون اوربيون. فهنري مور كان متأثرا جدا بالنحت الرافديني كما عبر هو اكثر من مرة وقد اعتبر المنجزات النحتية لفناني وادي الرافدين اعمالا بالغة القوة.
إن بحثا آخر مكملا يتناول تنوع المنظور في نصب الحرية هو امر ضروري لتعزيز صورة الفضاء وتقريبه.
نصب الحرية سيبقى علامة كبيرة في طريق تطور الفن التشكيلي العراقي المعاصر وعمل طموح وجريء وواحد من ابرز المعالم الحضارية في العاصمة العراقية.