صلاح الدين وحروبه ضد الكفار
نعاود مراجعة تاريخ مصر استنادا إلى حوليات كتاب quot;تاريخ البطاركةquot; الذي استمر بعد وفاة مؤلفه ساوري (ساويرس ابن المقفع، حوالي سنة ١٠٠٠) بيد كتّاب آخرين. وقد تم تغطية أحداث الفترة الأيوبية بتوسع وتعدت ألف صفحة ولذا سنعرض لها في أكثر من مقال..
***
بعد التخلص من الدولة الفاطمية في ١١٧١بدأ صلاح الدين في توطيد دعائم ملكه في مصر، وقضى على أنصار الفاطميين وأعاد تنظيم الجيش فأصبح عماد المقاتلين من الأكراد والسلاجقة الذين حلوا محل السودانيين والبربر والأرمن. وفي ١١٧٥ منح خليفة بغداد صلاح الدين لقب سلطان.
[[ وفي (١١٨٢) جمع صلاح الدين العسكر ومضى إلى دمشق بعد موت نور الدين بن قسيم الدولة ففتحها وتسلمها وجميع أعمالها وتوجه إلى حلب وحاصرها فلم يقدر يأخذها، ففتح حمص وبعلبك وعبر الفرات وفتح مدنا كثيرة في أرض الموصل (..) وعاد فأخذ حلب (..) ثم نزل على نابلس فهدمها وأخذ منه مالا وسبيا ثم عاد لمصر (١١٨٤)]].
وإذ أصبح صلاح الدين أقوى حاكم في العالم الإسلامي فقد عقد العزم على شن الجهاد ضد أعداء الإسلام ووجه موارد الدولة إلى النضال ضد الفرنج.
[[وعمل مع الرعية بديار مصر الخير (..) وأزال مظالم كثيرة وأمر بإبطال الملاهي في جميع ديار مصر وأنكر كل منكر وأقام الحدود الشرعية (..)].
** هذه أول مرة يأتي فيها ذكر quot;الحدود الشرعيةquot; لكن الغريب أن كاتب الحوليات لا يعطي أي تفاصيل عن ماهيتها وكيفية ومدى تطبيقها، وهل طبقت على الأقباط أم لا؛ وإذا طبقت فكيف، وماذا كانت تداعياتها وردود أفعالهم؟ أسئلة كثيرة تحتاج لبحث تاريخي جاد.
أخذت الغيوم تتلبد ودخل الانتقام الإسلامي مرحلة حاسمة. يحكي الكاتب موقعة كوم حطين بين صلاح الدين والإفرنج (يوليو ١١٨٧): [[فلم يزالوا يقاتلوا حتى نصر الله صلاح الدين عليهم فكسرهم وأسر من أسر وقتل من قتل وقد تهلل أهل الخير لما يعلمه الله في ذلك من صلاحهم. ولما ظفر بهم صلاح الدين (أحضروا بين يديه) البرنس أرناط (رينو دو شاتيون) صاحب (مدينة) الكرك، وخاطبه بكلام غليظ (..) ثم ذبحه بيده وغسل يديه بدمه (*)، وكان حاضرا الكونت جودفري (فطمأنه صلاح الدين وحكى له لماذا قتل البرنس ارناط: بسبب اعتدائه على قوافل المسلمين العابرة حول مدينته). ثم أطلق الكونت (..) فرحل إلى قبرص (..)]].
(*) أمر صلاح الدين أيضا بإعدام حوالي ٢٠٠ من الفرسان الأسرى، واحتفظ بالباقين للحصول على فدية.
[[ وكتب صلاح الدين لولده العزيز، الذي سلطنه على ديار مصر، يصف له الأحوال: laquo; (..) كتابنا هذا ناطقا بما جاء من نصر الله العزيز وفتحه المبين وما أنتج من الظفر الذي (محا) آثار المشركين وشفا صدور المؤمنين (..) وأوضح أن الله عز وجل اطلع على النية السلطانية في نصرة دينه فنصره وعرف عزمه فأقدره وعضده وظفّره وأيّده بجنوده على من جحد تفرده بالوحدانية وكفره، وأمات بسيفه سلطان الشرك فأقبره (..) وذكر النصرة الرادة لعدو الله على عقبيه. وإن من جملة ما أنعم الله به أن نوزلت جموع الإفرنجية وكُسروا الكسرة التي تركت البلاد منهم خاوية (..) وجمعت من طواغيت الكفر وبين أمهم الهاوية وأذاقتهم النار الحامية. وفي يوم الأحد تسلمت طبرية، وقُتل الابرنس ارناط (الأمير رينو) باليد العالية السلطانية (وأُسِر آخرون) (..) وفي يوم الثلاثاء انتقل الركب السلطاني إلى مدينة عكا لينازلها وفي يوم الخميس فتحت صلحاً، واستقر الإسلام فيها بوطنه وعاد إلى سكنه (..) وفي يوم الجمعة مستهل جمادى الأول أقيمت خطبة الإسلام في مسجدها وقام المؤذن مكان النواقيس معلنا كلمة التوحيد (..) (ثم فتحت الناصرة وحيفا والحولة واسكندرونة ونابلس) (..) وأشير أن عدد من قُتل وأسر يزيد عن عشرين ألف آدمي (..) ولم يعدم من المسلمين سوى نفر دون العشرة (..) وسلّمت عسقلان (في أغسطس ١١٨٧) (..) أفضل عروسة في الدنيا وأنقذها من يد الكفر (..) ونصبت أعلام المسلمين على أبراجها وعمرت بموحديها و(تخلصت من) مشركيها وكفارها، وكثر المؤذنون في أرجائها وزالت سمة الصلبان من جهاتها وأنحائها، وأعلن الخطيب بلا إله إلا الله على منبرها. ومن قصص الفتح أنها لما واجهتها جيوش الإسلام الناصرية وأنصار المؤمنين والتوحيد الصلاحية وأحاط بكفارها سخط الله (..) لجأ المشركين (المشركون!) إلى الفرار فنصبنا لهم آلات القتال وأذقناهم من طعم الطعن شديد الوبال (..) فلما خشوا بأسنا جنحوا للسلم (..) وتسلمت المدينة ونصبت أعلام الإسلام عليها (..) raquo;]]
[[ورحل السلطان فنزل على بيت المقدس يوم الخميس (..) ورتب العسكر محاصرا المدينة من جميع جهاتها، وصلى المسلمين (المسلمون) على الجبل الذي حولها يوم الجمعة وزحفوا للقتال بعد الصلاة (..) وأرسل السلطان لباليان (*) أن يسلم البلد بالأمان فلم يفعل. وكان هناك رجل نصراني من الملكية يسمى يوسف البطيط من أهل القدس، كان قد سكن في دمشق وعرف صلاح الدين وإخوته، وأباه وعمَّه أسد الدين شيركوه وهم بدمشق في خدمة نور الدين ابن زنكي. فلما ملك صلاح الدين ديار مصر، جاء (البطيط) إليهم فأخذه الملك العادل أخو صلاح الدين عنده وأنعم عليه (..) وكان صلاح الدين يترسل به إلى ملوك الإفرنج فصار يعرف أحوال بلادهم ويعرف كبار فرسانهم. (فالآن) لما رأى السلطان أن الحرب شديدة ولم يقدر على المدينة المقدسة، أحضر يوسف البطيط واتفق معه أن يرسل إلى النصارى الملكية يوعدهم بكل خير ويطلب منهم عدم مساعدة الإفرنج في القتال وأن يسلموا المدينة لصلاح الدين من ناحيتهم (..). فلما علم باليان، وكان النصارى الملكية (الملكانية، الروم الأرثوذكس) في المدينة أكثر من الفرنج (**)، خاف أن يسلموها فيهلك الفرنج جميعهم بالسيف، فأذعن للصلح (..) واتفق مع السلطان على (فدية) على كل رجل وامرأة وصبي]].
(*) فارس الإفرنج الذي كان يقود الحامية.
(**) هذا الدور الحاسم الذي قام به نصارى القدس في استسلام الفرنجة وتسليم مدينة القدس لصلاح الدين يندر ذكره في كتابات المؤرخين المسلمين.
وكتب صلاح الدين إلى نصر الدين ابن بهرام، والي الأعمال الغربية، يخبره بما يحدث، مستخدما أسلوبه المفعم بالسجع والفشخرة المعتادة:
[[كتابنا إلى الأمير الأجلّ الاسفهسلار (؟) الكبير نصير الدين فخر الإسلام عمدة المجاهدين (..) فقد طلعت على أسوار البيت المقدس أعلامنا ونفذت فيه أحكامنا وذهبت أيام العدو الكافر واستقبلته أيامنا، وثبت بتأييد الله أقدامنا وكانت مدة المنازلة ثلاثة عشر يوما وأيام المقاتلة سبعة، رمي بالمناجيق حتى خربت أسوارها وحطمتها وحدرت الجدران وهدمتها وأقامت كلمة التوحيد وقومتها وأظهرت شعائر الدين الحنيف وعظمتها، وكيف يدوم مع الحق الضلالة (..) ومازالت الكفار في شقاء وعناء منذ يوم المنازلة إلى يوم التسليم، وإذ خمدت حميتهم (وأدركوا أن) مدة ولايتهم انصرمت وأن (أهل القدس) سيلقون بهم إلى أولياء الله (المسلمين) فيمضوا فيهم حكم السيف والنار، وأن المسجد الأقصى قد لبس حلتي الفرح والاستبشار (..) ولما كان يوم الخميس سادس يوم المقاتلة، زحف المؤمنون وتقدم الموحدون وبأيديهم كؤوس الحتف والمنون (..) فعندها لاذوا بالأمان وأرسلوا يسألون (في تقرير الفدية)، وتقررت أمور قرت بها عيني النبي صلوات الله عليه في ضريحه ونطق بها لسان الرأي الصحيح مع صريحه، وهو عشرة دنانير على الرجل وخمسة على المرأة ودينارا واحدا على الصبي الذي لم يبلغ الحكم (الرشد) والصبية. وعدد من في البلد قارب مائة ألف أو يزيدون. وقطعوا ثلاثين ألف دينار فدية لسبعة آلاف رجل ضعفاء لا يقدرون، يقدمها كبارهم صدقة. والحمد لله الذي أخفت دعوتهم واستأصل بالسيوف الناصرية غيهم (..)]]
[[ولما تسلم الملك الناصر صلاح الدين البيت المقدس (*) بالأمان والفدية في رجب سنة ٥٨٣ هلالية (سبتمبر ١١٨٧م) أقام فيها إلى أن صام رمضان وصلى العيد (..) وخطب الخطيب في العيد يقول: laquo; الحمد لله، الله أكبر على ما سهل ويسر، وفتح ونصر، ومنّ علينا بالمسجد الأقصى المطهر، وأخرج منه الكفر والأعلاج بني الأصفر، وشتتهم وبددهم ودمرهم ورد إلى الملة الإسلامية الأرض المقدسة، أرض المحشر والمنشر (..) أحمد الله على تغيير البيع والصوامع بالمساجد والجوامع، وتبديل النواقيس بالتأذين والتقديس، وتحويل تعظيم صليب المصلوب بتمجيد الحي الذي لا يموت (..) raquo;]]
(*) جاء نبأ سقوط القدس بمثابة الصاعقة في أوروبا الغربية، وبدأت الدعوة لحملة جديدة، اشترك فيها الإقطاعيون الكبار والفرسان إذ بدأت الدوافع الدينية (تخليص قبر المسيح وتأمين طرق الحجاج) تتراجع، لترك مكانها المصالح التجارية في المنطقة.
[[ثم خرج صلاح الدين وحاصر الكرك فأخذه وتوجه إلى صيدا وبيروت وجبيلة وسار في طول الساحل ففتح مدن وقلاع وقرى، وفتح وملك بالأمان أكثر مما فتح بالسيف وأوفى بعهوده ولم ينكث بكلمة من قوله ولا غدر، وكان فرسان الفرنج وأمراؤهم وكبارهم يخرجون من حصونهم وقلاعهم بأموالهم ومواشيهم ونسائهم وأولادهم وجميع ما يملكوه من المال والخيل والبغال والجمال والجواري والمماليك حتى الأسرى من المسلمين، ومن رضي منهم يبيع أسيره (لصلاح الدين)، ومن لا يرضى قال له خذ أسيرك ولكن افعل معه الخير كما فعلت معك، وكان كثير من الفرسان يدفعون له بأسراهم ويحلفوا ما يأخذوا ثمنا (..). ولما فتح الساحل جميعه أعطى الهبات لأجناده وأصحابه ومن عاونوه من ملوك المسلمين وأمرائهم من المواشي والأسري والخلع ما لا يحصى عدده. وقد بلغني عن غلام من غلمان الأجناد أنه أسر رجلا من الإفرنج فباعه لفقاعي (تاجر شعير مخمّر، أي بيره) بكوز فقاع (أي بكوب بيره)، وظهر بعد ذلك أنه فارس كبير؛ فأعوذ بالله من زوال النعم وحلول النقم (..)]].
[[ثم نعود إلى شرح ما أيد الله به صلاح الدين وما مكنه له من النصر والظفر والتمكين، وما صنع له مع أعداء دينه ودولته، كقول التوراة: إذا عبر عليك حمار عدوك وأنت جالس، ووسقُه مائل فقم إليه واعدل وسقه عليه، وقول الإنجيل بما هو أعظم من هذا: أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم وصلوا لأجل من يشتمكم وأحسنوا إلى من أساء إليكم. فعمل صلاح الدين بأمر هذين الشريعتين من غير معرفة ولا قراءة بل بإلهام من الله، ولأجل ذلك مات على فراشه وكانت عاقبته حميدة في نفسه وذريته]].
[[ولم تزل الحرب قائمة (مع الإفرنج) إلى أن حشد ملك الألمان (فردريك باربا روسا) ٦٠٠ ألف رمح (؟؟) ووصل بعد سنة كاملة إلى (قرب أنطاكية) ولما أراد أن يعبر البحر إلي قسطنطينية حشد ملك الروم جيشه (*) فقهره (فردريك) وحاصر قسطنطينية وجبى خراجها وجميع مدنها وقراها (..) ثم سار في طريقه لبيت المقدس وجاز على جميع بلدان ملوك الروم والأرمن والمسلمين والفرنج بالسيف ولم يقف أحد قدامه فلما قرب من أنطاكية قطع الملك المظفر تقي الدين ماء نهر الكلب فغرقت جميع الطرق. فركب (فردريك) المراكب من أنطاكية ومضي في البحر إلى عكا ونزل عند عسكر الإفرنج (..) ثم مات ومات ولده ومات أكثر أصحابه بسبب تغيير الهواء، وخمد ذكره وبطل أمره وكأنه لم يكن فسبحان الله الدائم الحياة (..)]].
(*) عندما تأكد صلاح الدين من أنباء الحملة الجديدة، عاود توطيد علاقاته بالإمبراطور البيزنطي كي يضمن مساعدته وفاقت هداياه هذه المرة كل ما سبق أن أرسله في الماضي ووعد البيزنطيين بأن تصبح كل كنائس فلسطين وفقا لمذهب بيزنطة، كما وعد الإمبراطور من ناحيته بأن يكون جامع القسطنطينية في يد السنة. وهكذا وضع الإمبرطور العراقيل في طريق الحملة الألمانية، وعندما عجز عن وقفها كان يمد صلاح الدين بأخبار تحركاتها..
[[ولو أخذت في شرح ما جرى بين المسلمين والفرنج على عكا وغيرها (..) لطال الشرح وعظم الوصف. وقد تقدم في سير الأولين ما هو أعظم من هذه السيرة ولم تزل هذه صفته مادامت الدنيا: كل أمة ترتكب الفساد وتعمل ضد (نواميسه) يرسل الله عليها أمة غليظة لا ترحم ولا تشفق تخرجها منه بالسيف والسبي والجوع والحصار ونهب الأموال وبيع الأولاد والحريم (..) لأن الله يريد من الملك أن يكون في (مملكته) من الطهارة والعدل وصلاح السيرة وملازمة الصلوات الصدقات مثلما فعل داوود (في أيام ملكه)]].
يلتزم كاتب الحوليات بمدرسة quot;التفسير الديني للتاريخquot; التي كانت شائعة في العصور القديمة والوسطى..
[[ولم تزل الحرب بين الفرنج والمسلمين في عكا (من ١١٨٩ إلى ١١٩١). ثم وصل ملك الفرنسيس (فرنسا) بجنوده بحرا ونزل مع عسكر الإفرنج (قرب عكا) واتفق معهم علي مهاجمة عكا. وكان صلاح الدين قد أدخل بها عسكر جديد فيه جماعة من الأمراء الكبار المعروفين من مقدمي (قادة ألوية) الأكراد والمماليك الصلاحية (أتباع صلاح الدين) والمماليك الأسدية (جند أسد الدين شيركوه) والتركمان (*). وشدد ملك الفرنسيس حصاره ثم فتحها ظهر الجمعة نصف شعبان. وأخبرني رجل كان في عكا أنه لما فتحها صلاح الدين أول مرة وجدوا جامعها قد جعله الفرنج كنيسة فجمع الأسري الفرنج وغلسوا حيطانه وأبوابه وكشطوا منه الصور وبالجير بيضوه حتي ما بقي للصور أثر ولا خبر. ثم لما فتحها ملك افرنس أخذ الإفرنج أسراهم المسلمين إلي الجامع وغسلوه وجددوا بياضه وصوره كما كان. فسبحان الله الذي بيده ملكوت كل شيء يعز من يشاء ويذل من يشاء ويجازي كل أحد بأعماله (..) وعاد ملك افرنس في البحر لبلاده ثم وصلها (ريتشارد) ملك الانكتار (الانجليز) وكان بطل شجاع لا يخاف ولا يهاب (..) وخرج من عكا إلى حيفا (واستمرت الحروب لفترة)]].
(*) من الواضح، كما تبين كتب التاريخ، أن حروب صلاح الدين ضد الفرنجة واستعادة القدس وغيرها، قام بها جنود مماليك ومرتزقة من الأكراد والترك السلاجقة، وأن المصريين ـ بعكس بعض الأوهام الشائعة ـ لم يشاركوا فيها بجهد بشري يذكر.
[[ولم يزل (صلاح الدين) يدبر والله يعضده بالتوفيق إلي أن تصوب رأيه في الهدنة والصلح وحقن الدماء للفريقين، وتقررت الهدنة أربعون شهرا على أن يبقي للمسلمين ما فتحوه من مدن الساحل ويبقى للفرنج ما كان بيدهم (..) أما البيت المقدس فيبقى بيد المسلمين وقرر صلاح الدين أن يحج (الإفرنج) إليه بشرط ألا يدخلوا بسلاح (*) (..). وصار الفرنج والمسلمون بعد الصلح مثل الإخوة وكذلك الملوك مع صلاح الدين وحمل إليهم أموالا وهدايا وحملوا إليه هدايا وخيل و(دروع) وسيوف ألمانية ورماح. فسبحان الله المؤلف بين القلوب المتباعدة والطباع المتضادة (..) وأما أسرى المسلمين لدى الفرنج وأسري الفرنج لدى المسلمين فلم يتقرر في أمرهم شيء (..) ثم عاد (ريتشارد) لبلاده وتوجه صلاح الدين إلى دمشق، وطاهر (اختتن) أولاده الخمسة عشر ـ وهم ليسوا من امرأة واحدة بل عدة نساء (وهم الذين أقامهم ملوكا على أنحاء مملكته الواسعة)]].
(*) طلب الإمبراطور البيزنطي أن تعود للمسيحيين البيزنطيين السيطرة على الأماكن المقدسة كما سبق أن وعد صلاح الدين، لكنه رفض أن يكون لمذهب من المذاهب السيادة وأنه سوف يكون الفيصل والحكم بينها، وقال بأن على الإمبراطور دفع مائتي ألف دينار إذا رغب في الحصول على صليب الصلبوت. (جمال الدين ج٣ـ ص ١٢١٦).
[[وكانت أيام دولته كلها حسنة طيبة وأحوال الرعية مستقيمة ولم يظلم أحدا كعادة من سبقوه، والطرق آمنة والأمور صالحة. ومات في قلعة دمشق (فبراير ١١٩٣) عن سبعين سنة]].
وبعد هذا العرض التاريخي البالغ الإعجاب بصلاح الدين، والذي لا يذكر فيه شيئا حتى عن عودة القبط للحج إلى بيت المقدس، لا ينسى كاتب السيرة أن يُذكّر، على استحياء، بما حدث في بداية أيام حكمه مع الأقباط:
[[وكان الأب الأنبا مرقس ابن زرعة قد قاسى من المصاعب وشاهد من الشدائد في بداية مملكة صلاح الدين لما خرج أمره بنزع الصلبان من كل قبة في كل كنيسة من الكنائس التي بديار مصر وكل من رأى كنيسة ظاهرها مبيض، تليس بالطين الأسود من فوق البياض، وأن لا يدق ناقوس في جميع ديار مصر ولا يدور النصارى بالزيتونة (أحد الزعف) في مدينة أو قرية كالعادة الأولى وأن يغير النصارى زيهم ليُعرفوا من المسلمين بأن يشدوا زنانيرهم في أوساطهم ولا يسيروا بطيلسان ويرفعوا عدب عمائمهم ولا يركبوا الخيل ولا البغال بل الحمير ولا يتظاهروا بشرب الخمر وأن يخفضوا أصواتهم في صلواتهم. وقد طمع أوباش المسلمين فيهم في ذلك الوقت وأهانوهم ورتبوا على بعض الكنائس في المدن والقرى فهدموها ونال الناس من ذلك مشقة عظيمة حتي خرج جماعة من كتاب مصر والقاهرة من دينهم وجحدوا مسيحهم (..) وما زال الأنبا يجاهد في صلواته من أجل شعبه إلى أن أصلح الله لهم قلب سلطانهم فقربهم وأدناهم واستخدمهم في ديوانه في أموال دولته وأنعم عليهم فعادوا إلي أرفع مما كانوا عليه وركبوا الخيل والبغال ولبسوا الخفاف والثياب المفرحة وساروا معه في الغزوات كتّابا لديوانه وأهله وأقاربه وأجناده (..) ونقل الله، بصبرهم وصلوات بطركهم ورجوعهم إلى الله وطاعتهم لرئيسهم، ذلهم إلى عز وإهانتهم إلى كرامة وبغضهم إلى محبة وضعفهم إلى قوة، وأكثروا من الصدقات ولازموا الصلوات وتشبهوا ببعضهم البعض في المسارعة إلى فعل الخيرات فنمت أرزاقهم وصحت أجسامهم وكثر بنوهم وبناتهم وصلحت أمورهم وطابت قلوبهم وانشرحت صدورهم (..)]].
ومن الغريب ألا يشير كاتب السيرة إلى ما ذكرته المصادر الأخرى حول العقوبات الصارمة، وصلت لحد الصلب والإعدام، التي أوقعها صلاح الدين بالقبط في سنوات (١١٦٨ـ ١١٧٣ م) بالرغم من مشاعرهم المعادية للفرنجة ومن ولائهم وتعضيدهم التام له. (ج٣ـ ص ١٢٢٨).
على أي حال، فهكذا تماهى القبط مع ذميتهم واعتبروا غاية المنال البقاء في الحياة، وطاعة رئيسهم الخ. وبهذا بدأت عصور الاضمحلال كما يتضح فيما حدث أيام الأيوبيين، بعد صلاح الدين..