نستكمل استعراض باقي عناصر الوصفة (غير) السحرية بهدف متواضع هو خروج مصر من دائرة حكم الحزب الواحد قبل سنة 2020:

مستقبل الحياة السياسية في مصر (1-2)

ثانيا: تدعيم الأحزاب
عانت وتعاني الأحزاب في مصر، وستظل، من مشكلة الضعف الهيكلي المزمن. ويرجع هذا لأسباب متعددة، يأتي على رأسها ضعف الوعي السياسي العام وعدم إدراك مهمة الأحزاب ودور السياسيين. والنتيجة هي الاتكال على العمل التطوعي (وقتا ومالا، وخصوصا خارج دائرة الحزب الحاكم) وعدم وجود كوادر متفرغة أو سياسيين محترفين، وبالتالي انعدام فرصة تربية أجيال من المهتمين بالشأن العام القادرين (في حالة نجاح أحزابهم في الانتخابات) على تولي شئون الدولة بناء على قدراتهم وليس كنتيجة للمحسوبية والاستلطاف وتبادل المنافع، أو عبر أسلوب استوزار التكنوقراط، الذين لا يزيدون عن كونهم موظفين عديمي الرؤى السياسية كما هو حادث الآن..
ومن ناحية ثانية، فقد أدى إدراك الكثير من الدول الديموقراطية العريقة لحيوية قيام الأحزاب بدورها بصورة فعالة، وتتسم بالشفافية المالية، إلى نشوء مبدأ تدعيم الأحزاب.
الحل الذي نقترحه لمصر يكون عبر قانون quot;دعم الأحزاب السياسيةquot;، الذي يعني تمويل الأحزاب من المال العام (بخلاف الاشتراكات والتبرعات بالصورة السابق الإشارة إليها)، طبقا للمبادئ والقواعد التالية المستلهمة من القانون الفرنسي (بتصرف):
1ـ الحزب الذي ينال خمسين ألف صوت في الدور الأول للانتخابات التشريعية (مجلس الشعب)، بشرط ألا تقل نسبة الأصوات التي حصل عليها مرشحوه عن 1% فيما لا يقل عن عشر دوائر انتخابية، يحصل من الدولة كل سنة على جنيهين عن كل صوت. وتزيد القيمة إلى عشرة جنيهات عن كل صوت فوق الـخمسمائة ألف، وذلك كوسيلة لدعم الكيانات الأكبر وتفادي التفتت الذي قد ينشأ عن وجود العشرات من الأحزاب مما يؤدي إلى انعدام الاستقرار السياسي.
2ـ إضافة إلى ذلك، يحصل على خمسين ألف جنيه عن كل نائب نجح في الانتخابات بصفته عضوا في الحزب، ويستمر الحزب في الحصول على هذا المبلغ حتى لو تركه العضو وتحول إلى آخر وذلك منعا للتلاعب ولقيام أحزاب صورية وقتية.
3ـ الحد الأقصى لإجمالي الدعم العام لأي حزب هو عشرون مليون جنيه.
4ـ ترفع قيمة الدعم مع بداية كل دورة برلمانية بنسبة التضخم خلال الفترة السابقة.
5ـ يستمر الدعم السنوي حتى انتخابات مجلس الشعب التالية، إلا إذا حل الحزب نفسه أو تم حله بحكم محكمة.
ولتقريب الصورة إلى الأذهان فلنأخذ بضعة نماذج تخيلية:
ـ حزب صغير جدا حصل على 70 ألف صوت وله نائب واحد في مجلس الشعب ينال دعما ماديا قدره 190 ألف جنيه في السنة؛ بينما ينال حزب صغير (200 ألف صوت وعشرة نواب) 900 ألف جنيه في السنة؛
ـ حزب متوسط (700 ألف صوت وأربعون نائبا)، ينال خمسة ملايين جنيه في السنة؛
ـ حزب كبير (2 مليون صوت ومئة نائب)، ينال عشرين مليون جنيه (الحد الأقصى).
وفي المقابل تتكفل الأحزاب بكل المصروفات. وفي جميع الأحوال، يخضع كل من يحتلون مواقع قيادية في أي حزب لقانون إبراء الذمة المالية (من أين لك هذا) لكي تتسم الأمور بشفافية من جهة المال والنفوذ.
ثالثا: الأحزاب وتمثيل شرائح المجتمع
تضيف المادة الرابعة من الدستور الفرنسي، السابق الإشارة إليها: quot;وتساهم (الأحزاب) في تنفيذ المبدأ المنصوص عليه في الفقرة الأخيرة من المادة الثالثةquot;. وهذه الفقرة تقول: quot;القانون يحبذ وصول الرجال والنساء بصورة متساوية لكافة المواقع الانتخابيةquot;. وفي محاولة لتفعيل هذا المبدأ، يأخذ القانون الفرنسي بمبدأ العقاب بغرامة مالية ضد الحزب الذي لا يلتزم بأن يكون مرشحوه مناصفة بين الرجال والنساء. وقد ساعد هذا الأسلوب خلال سنوات قليلة على الوصول إلى الهدف في معظم الأحزاب.
يمكن إتباع ذات الفكرة في حالة مصر، بحيث يكون الحد الأدنى المطلوب للنساء هو في البداية 25% مثلا. ويطبق مبدأ quot;المكافأة ـ الغرامةquot; (bonus-malus) بحسب عدد المرشحات، الذي ينقص أو يزيد عن النسبة المقررة فيحرم من الدعم (أو جزء منه، بصورة تناسبية) الحزب الذي يقل عدد مرشحاته عن الحد الأدنى. ويمكن أيضا، كنوع من أنواع quot;فعل التوكيد الإيجابيquot;، مضاعفة قيمة الدعم المترتب عن انتخاب عضو برلماني في حالة كونها امرأة (أي 100 ألف جنيه في السنة بدلا من 50 ألفا).
ولا يحتاج المرء لخيال واسع حتى يرى إمكانية تطبيق نفس المبدأ على الأقباط الذين يبدو أن الجميع قد أعيتهم الحلول اللازمة لإشراكهم على قدم المساواة في إدارة شئون بلادهم والخروج من حالة الإقصاء السياسي المفروض عليهم الآن.
بل يمكن أن يكون هذا الأسلوب حلا عمليا لمعضلة quot;العمال والفلاحينquot; حيث يدرك الجميع تماما أن ما يجري في الوقت الحالي مهزلة، تبدأ مع الالتفاف حول نصوص الدستور والقانون...
رابعا: الأساليب الانتخابية
يعرف العالم أسلوبي الانتخابات الفردية والانتخابات بالقائمة؛ ولكل منهما مزاياه ونقائصه التي قُتِلت بحثا، كما يقولون. وبدون الدخول في تفاصيل ليس هذا مجالها، فأهم مميزات أسلوب القائمة أنه يعطي الفرصة لتمثيل كل التيارات السياسية على الساحة وخاصة الصغيرة منها، وأن يقوم المجلس النيابي بدور التشريع والرقابة، وليس الخدمات المحلية. لكن أهم عيوبه (كما تدل التجربة الإيطالية بالذات) هو التشجيع على التفتت الحزبي وعدم الاستقرار.
وتبدو التجربة الألمانية التي تمزج بين الأسلوبين في خلطة محسوبة، جديرة بدراسة (ليس هذا مكانها). بينما يدور نقاش حالي في فرنسا لإدخال جرعة من التمثيل النسبي في الانتخابات المحلية وليس التشريعية.
بالنسبة لمصر، نشارك الرأي في أن مزيجا بين أسلوبي الانتخاب هو أفضل السبل في المستقبل القريب والمتوسط. ونعتقد أن quot;قانون دعم الأحزابquot;، بالصورة السابق الإشارة إليها، سيساعد على الحد من ظاهرة التفتت. وإذا حدث وأن وقعت المشكلة في المستقبل، يمكن ضبط المزيج بين الأسلوبين بالصورة المناسبة.
هناك من ناحية أخرى مشاكل التزوير والرشوة واستخدام الشعارات quot;الهدامةquot; والإنفاق الجنوني على الحملات الانتخابية، وهي تحتاج إلى رغبة سياسية جماعية، وليس فقط قوانين، لعلاجها.
خامسا: بين الحزب والدولة والمجتمع
تعاني الحياة الحزبية في مصر من مشكلة الترابط والتشابك العضوي بين الحزب الحاكم وجهاز الدولة، والمعاملة quot;التفضيليةquot; الساحقة التي يتمتع بها الحزب الحاكم، ولا بد هنا من إجراءات محددة:
1ـ أن يتخلى رئيس الجمهورية بمجرد انتخابه عن رئاسة الحزب وعن كل المناصب الرئيسية فيه.
2ـ أن يحظر العمل السياسي والحزبي بصورة واضحة ليس فقط على المنتمين إلى السلك القضائي والجيش والشرطة، بل أيضا على الجهاز الإداري للدولة الذي يجب أن يكون محايدا تماما، بما في ذلك وظائف المحافظين.
3ـ تصفية التركة التي ورثها الحزب الحاكم عن الاتحاد الاشتراكي وأن يتم معالجة كل ما يتعلق بتمويل الحزب عبر قانون quot;دعم الأحزاب السياسيةquot;، ويعني هذا أن يتخلى عن مئات المقار التي ورثها عن الاتحاد الاشتراكي أو التي يضع يده عليها بصورة أو بأخرى، وهي كلها تضعه في موقع تفضيلي ساحق، يستحيل أن ينافسه بعدها أي حزب جديد. وعليه بعدها أن يدفع عنها لمالكها (الدولة أو غيرها) إيجارات حقيقية أو أن يشتري ما يشاء من موارده الخاصة.
4ـ ألا تقوم الأحزاب بأعمال الخدمات الاجتماعية والاقتصادية، التي هي دور الدولة أو المؤسسات الخيرية.
5ـ أن تقتصر النقابات والجمعيات والأندية على العمل في المجال المهني أو التثقيفي وتكف عن تعاطي السياسة، وأن تكون محايدة بين الأحزاب في مواقفها العامة.
سادسا: الإعلام
شرط من شروط الحياة السياسية الحقيقية هو الإعلام الحرفي (الاحترافي)، أي المدقِق والصادق والنزيه والمحايد. ولن نكون مبالغين لو قلنا أن إعلامنا (بالذات quot;القوميquot;) يتصف على الأغلب بنقيض تلك الصفات.
المطلوب من الإعلام المرئي والمسموع (المملوك للدولة أو الخاص)، كجزء لا يتجزأ من صفات الحِرَفية، أن يفتح وقته للمعارضة السياسية الشرعية. وعلى سبيل المثال، ففي فرنسا يقوم quot;المجلس الأعلى للإعلام المسموع والمرئيquot; (CSA) بمراقبة التزام كافة المحطات بقواعده التي تقضي بإعطاء الفرص المتكافئة للآراء السياسية المختلفة، بناء على تساوى مساحات الوقت المتاح لجهات ثلاث: الدولة والأجهزة الرسمية، والأغلبية الحزبية الحاكمة، والمعارضة، وعلى الحيادية في تقديم أخبار تلك الجهات. وبالتالي، فمن الطبيعي جدا في كل مرة يذاع تصريح لرئيس الجمهورية مثلا، أن تذاع بعده مباشرة آراء المعارضين وتعليقات المحللين. وهذا يحدث طوال الوقت وليس فقط خلال الحملات الانتخابية.
من ناحية أخرى، لا بد من إيجاد حل مناسب للصحافة القومية، أي المملوكة للدولة، في مصر والتي تقوم بدور البوق للحكومة والحزب الحاكم. وبرغم كون الوضع الحالي يكاد يكون بلا مثيل في العالم، إلا أنه لا يبدو أن هناك تفكيرا أو نية في معالجته ـ بل، وللأسف الشديد، يبدو أن الصحافيين العاملين بالمؤسسات القومية، يفضلون، طلبا للاستقرار المادي، الاستمرار في العمل كموظفي حكومة عن أن تتحول تلك إلى مؤسسات خاصة مستقلة.
سابعا: استطلاعات الرأي
ليست هناك دولة ديموقراطية في العالم وإلا كان بها عدد من المعاهد المتخصصة في عمليات استطلاع وتحليل اتجاهات الرأي العام، باعتبار هذه جزءا أساسيا من فعاليات النظام الديموقراطي.
وتستند آلية القياس إلى:
1ـ استقلال تام للمعاهد وأسلوب علمي محايد في توجيه الأسئلة بطريقة لا توحي للمتلقي بإعطاء إجابات معينة؛
2ـ أسس راسخة في علم الإحصاء مبنية على دراسات تفصيلية لشرائح المجتمع، تجعل من الممكن الاعتماد على عينة (عادة تتراوح بين ألف وبضعة آلاف) لاستنتاج توجهات مجتمعية عامة وتفصيلية، وتعطي معه مُعامل الخطأ المتوقع (لا يتعدى غالبا زائد أو ناقص نقطتان مئويتان)؛
3ـ قدرة على إدخال عوامل تصحيح تضمن درجة الثقة في النتائج وضيق معامل الخطأ. وهذه النقطة تستند إلى أساليب مختلفة تتبلور مع الوقت، ولذلك نجد دائما أن هناك عددا من المعاهد، وليس واحدا فقط، في كل دولة (فرنسا، مثلا، بها خمسة معاهد رئيسية)؛
4ـ دراسات تراكمية تقارن على مدى الزمن التوقعات مع النتائج الفعلية وكذلك تطور الإجابات على أسئلة متشابهة، مما يبين تغير التوجهات مع ربط التغيرات بالأحداث والتطورات المجتمعية.
وقد بلغت درجة الثقة في الأسلوب إلى أن النتائج الأولية للانتخابات (الرئاسية مثلا) في الديموقراطيات الغربية تتم بناء على استطلاعات آراء عينة من الناخبين عند خروجهم من اللجان الانتخابية، و تعلنها وسائل الإعلام مع موعد إغلاق باب التصويت، برغم أن نسبة أصوات المرشح المنتصر والمهزوم هي عادة في حدود 51% و 49%.
الموضوع إذن ليس فهلوة وكلفتة بهدف إعطاء نتائج سبق تقريرها أو تتفق مع ما يريد الحكام سماعه أو ترويجه.
مصر لا تعرف هذه الآلية العجيبة! بل إن مجرد مبدأ استطلاع آراء الناس مقصورٌ على إدارة quot;التعبئة والإحصاءquot; بحكم قانون يعود للستينيات أو ما قبلها، باعتبار المعلومة quot;سرا خطيراquot; يمس الكشف عنه الأمن القومي أو، بمعنى أدق، قد يقلق الحكام في نومهم! بينما يفضلون الاستناد إلى quot;البروباجانداquot; والتوجيه quot;المعنويquot;، باعتبارها أهم بكثير من معرفة آراء الشعب (الذي لم يطلب أحد منه أن يكون له رأي على أي حال!).
ولهذا تكثر الإشاعات والادعاءات بشأن هذه الشخصية أو تلك، أو هذا الموضوع أو ذاك؛ ويعتمد الجميع على التخمين والتفسيرات التآمرية، ويفاجأون بأحداث أو بردود أفعال تبدو غير متوقعة.
والحل المنطقي هو البدء في تطبيق هذه الآلية الحيوية عن طريق استدعاء خبرة عدة من المعاهد العالمية في وقت واحد (وليس معهدا واحدا) لإدخالها طبقا للمعايير والمنهجيات المستقرة.
***
نختم بالقول أن موضوع هذا المقال (بجزأيه) جاء نتيجة مناقشات مع بعض قادة أحزاب معارضة في مصر، هالنا أن نجدهم يعيشون حالة يأس شبه تام في إمكانية حدوث أي تغير في الحياة السياسية أو في احتمال قيام أحزابهم ذات يوم بمهمة الحكم، وكأن الأحزاب قد نشأت لتكون نواد للدردشة وحسب!؛ وبعدها لم نفعل سوى محاولة الاستفادة من تجارب دول تعرف حيوية الحياة السياسية..
ولا يتوقع أحد بالطبع أن يتنازل الحزب الحاكم عن احتكاره، عن أريحية وطيب خاطر؛ ولذا فإن مهمة الأحزاب الأخرى العاجلة، فيما نعتقد، هي التضافر والضغط لأجل إعادة صياغة قواعد الحياة السياسية بأقصى سرعة. والبديل هو أن يظل الحزب الحاكم قابعا فوق صدر مصر لعقود طويلة (هذا إن لم يُسلِّم الأمانة لـ quot;حليفهquot; اللدود)!!
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية