quot;طلبنةquot; التعليم المصري: الحلقة الرابعة

quot;طلبنةquot; التعليم المصري (الحلقة الثالثة)

الدولة شجعت الفاشية الدينية على طلبنة التعليم المصري

الدولة شجعت الفاشية الدينية على طلبنة التعليم المصري (1)

quot;طلبنةquot; التعليم المصري (5 من 5)

بعد عرض عينات لما تحويه مقررات اللغة العربية في التعليم الابتدائي والإعدادي في مصر عبر حلقات أربع من هذه الدراسة، نكرر الشكر للقارئ الكريم على صبره وطول أناته، ونستأذنه في تقديم هذه الملاحظات الختامية:

أولا: لم يكن القصد من عرض مفصل لعدد كبير من النماذج والعينات (مقترنا بتعليقات مقتضبة جدا، هدفها لفت النظر فقط) سوى إعطاء ما يكفي من الأدلة التي تبين، بدون أن يتهمنا أحد بالتقول أو الادعاء أو المبالغة، عمق واتساع ظاهرة تحول مقررات اللغة العربية إلى دروس إجبارية في العقيدة الإسلامية. ولا تتعلق المشكلة بكونها quot;إسلاميةquot;، فالمبدأ يظل هو الأهم: أن تدريس الدين (أي دين) مكانه مقررات وحصص الدين فقط، ويجب ألا يتسرب إلى مقررات أخرى إلا في استثناءات نادرة وطبقا لمعايير صارمة.
ثانيا: للتدليل على خطورة الأمر نقارن بما يحدث في وسائل الإعلام، حيث ما أكثر ما يؤكد اختراق الفاشية الدينية لها وسيطرتها عليها: خذ مثلا ما قاله كاتب quot;تحقيقات السبتquot; (الصحيفة quot;القوميةquot; الكبرى ـ 22 ديسمبر 2007) تحت عنوان quot;الدستور الأخلاقي للقرآنquot; من أن quot;الإسلام يَجُبُّ ما قبلهquot;، أو ما شابه ذلك مما يقوله عادة كاتب quot;من أسرار القرآنquot; (الأهرام كل يوم اثنين) وغيره كثيرون؛ وهي مزاعم بلهاء وجوفاء، مليئة بعشق الذات المرضي، وبالتعجرف والصلف؛ ولكن في هذه الحالة قد يكون للقارئ ـ نظريا ـ بعض quot;الحريةquot;، مثل إلقاء الجريدة في القمامة، أو إرسال احتجاج إلى القائمين عليها (بغض النظر عن كونه لن ينشر)، أو مقاطعتها قارئا ومعلنا. أما في حالة المقررات الدراسية، فالأمر مختلف تماما لوجود عنصر زائد: وهو الإجبار ـ وخاصة في ظل نظام التعليم المصري الذي يعتمد التلقين الأحادي ويرفض أسلوب المناقشة والجدل والرأي المختلف والتقييم الموضوعي ـ وبالذات لكون الرسوب في مادة اللغة العربية يعني الرسوب التام وإعادة السنة.
بل إن ما يجري يتعدى في خطورته (كما سبق وذكرنا) ما كان ينص عليه حتى في quot;أحكام أهل الذمة في ديار الإسلامquot; المبني على العهد العُمري، الذي كان يُجبر أهل الذمة على القبول بعشرات الأمور الإذلالية، ولكنه يقول (على لسانهم): quot;(..) وألا نُعلِّم أولادنا القرآن (..)quot;. وكذلك يفوق ما قامت به آلة quot;البروباجانداquot; الجهنمية التي أدارها جوبلز في ألمانيا النازية، لأن غسيل الأمخاخ بأيديولوجية وضعية لا يقاس بمحاولات تشكيل ضمائر وشخصيات تلاميذ المدارس عبر فرض دين معين أو quot;مرجعية دينيةquot; معينة عليهم. كما لا نعرف دولة محترمة واحدة في العالم المعاصر تقترف مثل هذه الجرائم.
ثالثا: ما عرضناه في هذه الدراسة يمثل جريمة تأتي على مستويين: الأول، quot;العامquot;، يتعلق بتخريب عقول أجيال من المصريين وتربيتهم على quot;التفكيرquot; الغيبي اللاعقلاني غير الخلاق وإعدادهم ليكونوا quot;جنوداquot; مخلصين في خدمة دولة الفاشية الدينية.
لكن مثل هذه الجريمة، وإن دخلت تحت بنود مواثيق حقوق الإنسان وحقوق الطفل، علاجُها عادة في أيدي الشعوب ومفكريها وقادة الرأي فيها، وعقوبتها النهائية هي أن تتخلص الشعوب من حكامها وتستبدل بهم آخرين! وإذا عجزت عن ذلك، أو لم ترغب فيه، فهذه مشكلتها! وفي النهاية فإن الشعوب تستحق حكامها.
[لاحظ أنه بينما يتعالى زعيق النظام الحاكم بالهجوم ضد quot;الجماعة المحظورةquot;، إذا به ينفذ برنامجها وأجندتها على أكمل وجه! وهو ـ إحقاقا للحق ـ يفعل هذا بجهد دؤوب، لكن بلا جعجعة! وإذا كان زعيم quot;المحظورةquot; لا يهمه أن يحكم مصر ماليزي؛ فنظامنا يهمه، بدافع الوطنية، أن يتم تخريب مصر على أيدي أبنائها بدون حاجة للاستعانة بخبرات أجنبية (اللهم من الأشقاء سكان الضفة الأخرى من البحر الأحمر)، ويقال أنه سوف يتحين الوقت المواتي لدعوة المُلاّ عُمر ليزور مصر بأقرب فرصة حتى يتباهى أمامه بما وصلت إليه أحوال المحروسة!]
رابعا: المستوى الآخر للجريمة، هو quot;الخاصquot; والمتعلق بما يتعرض له غير المسلمين، ويخضع لتوصيفات محددة في المعاهدة الدولية لحقوق الطفل (راجع المواد 29 و 30 إضافة إلى 2 و 8 و 14) والمعاهدة الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (راجع المادة 13ـ أ) وإعلان حقوق الأقليات الذي تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر 1992 (راجع المواد 1 و 2 و 4) والإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
باختصار ما يحدث جزء من سياسة quot;تطهير ثقافيquot; (Cultural Cleansing or Cultural Genocide)، كوسيلة من وسائل quot;التطهير العرقيquot; الذي لا يقتصر بالضرورة على الإبادة والتهجير، بل يتدرج في سبل تحقيقه ليشمل التمييز الصارخ والتذويب القهري ومحو الهوية. (راجع: Petrovic، quot;Ethnic Cleansing - An Attempt at Methodology، EJIL-V.5).
خامسا: إزاء اتضاح معالم هذه الجريمة متكاملة الأركان (الفعل ـ القصد ـ الجاني ـ المجني عليه ـ جسم الجريمة) وثبوتها، نطالب بالوقف الفوري لتدريس كافة أجزاء مقررات اللغة العربية ذات الصبغة الدينية، وأيضا عدم امتحان التلاميذ فيما تم تدريسه، تمهيدا لتعديل المقررات بصفة عاجلة بدءا من العام الدراسي المقبل. نقول quot;فوراquot; وليس في الخطة الخمسية القادمة، أو العام القادم، أو بعد انعقاد هذا المؤتمر أو ذاك، أو كجزء من quot;الخطة الشاملة لتطوير التعليمquot; (التي لا تعني عادة سوى المزيد من التخريب التعليمي)؛ كما نرفض التحايل على الأمر عبر محاولات من إياها ـ على طريقة quot;جلسات صلح العربquot; التي تنصبها السلطات من آن لآخر ـ مثل إضافة إشارة للآخر الديني هنا أو هناك ذرا للرماد في العيون، مما لن يؤدي ـ في ظل الأوضاع الحالية ـ سوى لفتح الباب أمام المزيد من quot;المقارناتquot; البلهاء.
ولمن يرون أهمية أن يبدأ التلميذ المصري (المسلم) في التعرف على معتقدات الآخر، فلهذا أسلوب مختلف سنتعرض له لاحقا.
سادسا: تنفيذ هذا المطلب العاجل أبسط مما يتصور البعض ـ فقط إذا توافرت quot;الإرادة السياسيةquot;: فهو لا يحتاج سوى لأمر علوي واضح. مجرد جرة قلم، بل مجرد مكالمة تليفونية بسيطة تحمل أمرا للوزير المسئول: quot;أوقفوا تدريس الدين في غير مقررات الدينquot;. وهي مكالمة صغيرة وسريعة لن تزيد تكلفة فواتير التليفون الرئاسية أو أعباء الإنفاق الحكومي!
سابعا: لكن برغم بداهة المطلب ووجه الاستعجال فيه، لا نتوقع من قوى الفاشية الدينية إلا أن تخوض معركة شرسة ـ في وقت يبدو أنها في طريقها لزيادة قبضتها على المؤسسة التعليمية كما تبين من خبر (الأهرام 5 يناير) يقول فيه وزير التعليم د. يسري الجمل أنه سيتم إرجاع العديد من الـمدرسين الذين يقومون بأعمال إدارية إلى التدريس quot;بفضل الكادر التعليمي الجديدquot; (؟!) لكن إذا تذكرنا أن الكثير من هؤلاء كانوا قد أُقصوا عن التدريس أيام الوزير حسين كامل بهاء الدين بسبب quot;ممارساتهم الأصوليةquot;، من حقنا التساؤل إذا ما كان الأمر يدخل في إطار صفقة جديدة ترتبط quot;بمراجعاتquot; الجماعات quot;الجهاديةquot; التي أعلن عنها مؤخرا...
بالإضافة لذلك، لا نتوقع أن تستجيب الدولة بسهولة؛ أولا لأنها ستتردد قبل كسر quot;ميثاقهاquot; مع قوى الفاشية الدينية، وثانيا لأنها ـ في جمودها وتعاليها ـ لا تحب quot;لوي الذراعquot;. ولكننا نؤكد هنا أنه لا يوجد لوي ذراع في الأمر بل مجرد لفت نظر بسيط، مرتبط برجاء واستعطاف لائقين، لعلها تسارع بإصلاح الخطأ!!
ثامنا: من ناحية أخرى، إذا لم تكن الدولة مستعدة لتلبية هذا المطلب البديهي بوقف الجريمة فورا، فالحد الأدنى هو أن يتمسك التلاميذ المسيحيين بالمبدأ فيمتنعون عن تلقي تلك الدروس الإجبارية في العقيدة الإسلامية أو الإجابة على أسئلة الامتحانات التي تحتويها؛ وإذا كانت النتيجة هي رسوب جماعي في مادة اللغة العربية، فليكن! وقد يكون في ذلك رسالة واضحة إلى حكامنا.
ولا مفر، في نفس الوقت، من تضافر منظمات حقوق الإنسان المحلية والعالمية في القيام بحملة دولية عاجلة بهدف إجبار حكامنا على وقف هذه المهزلة الهمجية. فأركان الجريمة ثابتة، ونتيجة هذه الفضيحة العالمية ـ كما أكد لنا خبراء حقوق إنسان مرموقون ـ قد تصل إلى تجميد عضوية مصر في المجلس الدولي لحقوق الإنسان واليونسكو (مما لا نرجوه ولا نطلبه، حتى إن كان لا يهم حكامنا في شيء!). والأمر يمكن أن يتعدى ما سيحدث لسمعة مصر، إلى ملاحقة الجناة الحقيقيين ـ أي ليس فقط quot;مؤلفي الكتبquot;، بل المسئولين على مختلف المستويات حتى قمة السلسلة ـ ومقاضاتهم بصفهم الشخصية. مع ملاحظة أن هذه النوعية من الجرائم، كما تدل ملاحقات زعماء يوغوسلافيا وليبيريا ورواندا، لا تسقط بالتقادم...
[ولا نعتقد في فاعلية ما تبين مؤخرا من مواهب فذة تتمتع به الدولة المصرية العنترية التي تضرب عرض الحائط بالتزاماتها التعاقدية بالنسبة للاتفاقيات الدولية، وتبدو مستعدة لأن تبطح رأس وتفقأ عين أي خواجة تسول له نفسه quot;بالتدخل في شئونها الداخليةquot;؛ وكأنها توارثت رعاياها أبا عن جد، ومن حقها أن تفعل بهم ما تشاء كيفما تشاء متى تشاء!]
تاسعا: ندعو أيضا إلى مراجعة كافة المواد ـ وليس فقط اللغة العربية ـ لتطهيرها من الاختراق الديني. وننوه بأنه قد وصلتنا تعليقات من قراء مسلمين عقلانيين يشاركوننا الرأي ويعترضون بشدة على تديين المقررات (وصل بعضهم إلى ضرورة رفع يد المدرسة عن تعليم الدين بشكل كامل، وليس فقط فصله عن مقررات العربية). ونُذَكّر بأن التخريب الذي حدث حتى الآن لعقول أجيال من المصريين لن تذهب آثاره بغير مجهودات إعادة تأهيل جبارة، لا نظن أن النظام الحاكم لديه النية أو القدرة على القيام بها.
فقط، من باب التكفير عن فعلة شنعاء وجريمة نكراء، والتعبير عن توبة نصوح (؟)، عليه القيام بأقصى سرعة بإدخال مادة quot;أخلاقياتquot; أو quot;إنسانياتquot; في مراحل التعليم المختلفة، تشكل الحصصُ المخصصةُ لها نصفَ حصصِ مادة الدين (وبالتالي نصف درجاتها)، ويَدرِسها الطلبة جميعا. وذلك بشرط أساسي هو أن يوكل الأمر للجنة يرأسها تربوي عقلاني مرموق، مثل د. كمال مغيث، يقوم باختيار أعضائها من بين مثقفين ومفكرين وتربويين متحضرين (أي من خارج دائرة الظلاميين إياهم)، مع الاستعانة بخبراء من فرنسا الكافرة أو تونس الشقيقة؛ تقوم بإعداد مقررات هذه المادة التي تهتم بشرح الأخلاقيات من المنطلق الإنساني العام، والتوكيد بشكل عقلاني متفتح على ما هو مشترك بين ثقافات وديانات العالم كله وعلى ما تقول به مواثيق حقوق الإنسان.
***
ختاما، هل لنا أن نحلم بأن تصبح المدرسة مكانا مشتركا للتعليم quot;المدنيquot; الذي يهدف لتربية أجيال من المواطنين المتساوين، القادرين على التفكير العقلاني الخلاق، وأن تبتعد المقررات عن التديين التخريبي، وعن الادعاءات الشوفينية بأن quot;أحد الأديانquot; هو وحده الصحيح، وكل ما عداه باطل؟
البديل الآخر هو المشاركة في سرادق نتذاكر فيه محاسن (المحروسة سابقا) مصر.

[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية