quot;اذ قالت امراة عمران رب اني
نذرتُ لك ما في بطني محررا
فتقبل مني انك انت السميع العليم.
فلما وضعتها قالت ربي اني وضعتها
انثى والله اعلم بما وضعت وليس الذكر
كالانثى واني سميتها مريمquot; سورة ال عمران 35-36
يتفق معظم مفسرينا الاجلاء، مأجورين، على أنّ جملةquot; وليس الذكر كالانثىquot; الوادرة في الاية الكريمة اعلاه، هي دليل قراني في افضلية الذكر على الانثى. وهو امر يجد له ما يعضده في الادبيات الدينية وفي متن التراث العربي او في معيشنا اليومي.
يورد الطبري في تفسيره الشهير المعنون باسمه، الحاضر بقوة سبعين لسانا، ما يلي:quot; لأنّ الذَّكَر أَقْوَى عَلَى الْخِدْمَة وَأَقْوَم بِهَا، وَأَنَّ الأ ُنْثَى لا تَصْلُح فِي بَعْض الأحْوَال لِدُخُولِ الْقُدْس وَالْقِيَام بِخِدْمَةِ الْكَنِيسَة لِمَا يَعْتَرِيهَا مِنْ الْحَيْض وَالنِّفَاسquot;. يماشيه الراي ابن كثير بقوله: quot; أَيْ ( الذكر) فِي الْقُوَّة وَالْجَلَد فِي الْعِبَادَة وَخِدْمَة الْمَسْجِد الأ قْصَىquot;. أما صاحب quot; الجلالين quot; فيقول:quot; فَلَمَّا وَضَعَتْهَاquot; وَلَدَتْهَا جَارِيَة وَكَانَتْ تَرْجُو أَنْ يَكُون غُلامًا إذْ لَمْ يَكُنْ يُحَرَّر إلَّا الْغِلْمَان quot;قَالَتْquot; مُعْتَذِرَة: يَا quot;رَبّ إنِّي وَضَعْتهَا وَاَللَّه أَعْلَمquot; أَيْ عَالِم quot;بِمَا وَضَعَتْquot; جُمْلَة اعْتِرَاض مِنْ كَلَامه تَعَالَى وَفِي قِرَاءَة بِضَمِّ التَّاء quot;وَلَيْسَ الذَّكَرquot; الَّذِي طَلَبْتُ quot;كَالْأُنْثَىquot; الَّتِي وَهَبْتَ لِأَنَّهُ يُقْصَد لِلْخِدْمَةِ وَهِيَ لَا تَصْلُح لِضَعْفِهَا وَعَوْرَتهَا وَمَا يَعْتَرِيهَا مِنْ الْحَيْض وَنَحْوه.quot; كذلك القرطبي: quot;فَلَمَّا رَأَتْهُ أُنْثَى لَا تَصْلُح وَأَنَّهَا عَوْرَة اِعْتَذَرَتْ إِلَى رَبّهَا مِنْ وُجُودهَا لَهَا عَلَى خِلَاف مَا قَصَدَتْهُ فِيهَاquot; وفي تفسير معاصر، يرى سيد قطب quot;فالنذر للمعابد لم يكن معروفا إلا للصبيان ليخدموا الهيكل وينقطعوا للعبادة والتبتل ولكن ها هي ذي تجدها أنثى فتتوجه إلى ربها في نغمة أسيفة ربّ إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعتْ ولكنها وهي تتجه إلى ربها بما وجدتْ كأنها تعتذر إنْ لم يكن لها ولد ذكر ينهض بالمهمة وليس الذكر كالأنثى ولا تنهض الأنثى بما ينهض به الذكر في هذا المجالquot;.
هذا ما اتفق عليه السلف الصالح صلاحية مؤبدة ابد الدهر. لكنّ صاحب الميزان الطباطبائي يخرج عن الاجماع في تفسير مناقض لهم، اذ يرى وجهة في تفسير الاية تشطب جل ما اتفق عليه المفسرون الكرام، وهو تفسير يخترق نظام الانساق العربية باكملها ويضع مواثيق الذكورة في ميزان حرج لا تحسد عليه. اذ يرجّ بقوة نظام السرد الابوي الذي عوّدنا على ان التأنيث مقام ادنى من مقام الذكورة. فهي نصفه وتابعه وضلعه المائل الذي لا يقوى على تقويمه، وان كان قواما عليه، خوفا من انكساره. نجد مداليل هذا الامر في ادبيات الاديان الكتابية الثلاث وفي المكونات الاجتماعية التي افرزتها واسستْ هيكليتها حتى بلغ الامر رسوخا ويقينية ينعدم معها اي امكان لاختراق النسق باي طرح مناقض حتى وان كان من داخل السرد الديني نفسه كما تعلن وبشكل جلي الاية اعلاه.
يقول الطباطبائي في تفسيره المعروف ما يلي:quot; ومن هنا يظهر انّ قوله: وليس الذكر كالانثى مقولة له تعالى لا لإمراة عمران، ولو كان مقولا لها لكان حق الكلام ان يقال: وليس الانثى كالذكر لا بالعكس، وهو ظاهر فإنّ من كان يرجو شيئا شريفا او مقاما عاليا ثم رزق ما هو اخس منه واردأ انما يقول عند التحسر: ليس هذا الذي وجدتـُه هو الذي كنتُ اطلبه وابتغيه، او ليس ما رُزقتــُه كالذي كنتُ ارجو، ولا يقول: ليس ماكنتُ ارجوه كهذا الذي رُزقتــُه البتةquot;. وما يذهب اليه صاحب الميزان يتماشى مع منطق العربية السليمة فنحن نقول مثلا، ليس النحاس كالذهب، اشارة الى قيمة الذهب ولا نقول ليس الذهب كالنحاس.
ويفند الرجل بعد ذلك قول مجمل المفسرين الذين حاولوا ان يظلوا ممسكين بنظام السرد الذي لا يضع الانثى في مرتبة ادنى فقط بل يلقي عليها وزر خطايا الذكورة وضعفها وملعونيتها وشقائها وامراضها وحتى وحشيتها وجرائمها. اذ يعلق على تاويلات المفسرين وحيرتهم وارتباكهم في توجيه القول وفق منطق العربية السليمة بقوله: quot; وقد اخذ َ اكثر المفسرين قوله quot;وليس الذكر كالانثىquot; تتمة قول امرأة عمران وقد تكلفوا في توجيه تقديم الذكر على الانثى بما لا يرجع الى محصل، ومن اراد ان يقف عليه فليرجع الى كتبهمquot;
يمكن القول ان كلمات الميزان هذه تضع الرجال ( العرب ومن شابههم وذهب مذهبهم) في موضع لا يحسدون عليه بعد طول عنائهم وبنيانهم الذي اقاموه على انقاض المرأة ومظلوميتها، وتضع المرأة في ميزان قسط يعيد اليها ارثها ومقامها الذي سلب منها منذ ان اكتسى الرب ضمير المذكر، اي منذ انبلاج الدين التوحيدي مع ظهور اليهودية وجلوس quot; يهوهquot; على عرش السماء وابادةِ كل ارث الانوثة التي اسستْ نظاما نستطيع ان نستدل من الشذرات القليلة التي نجت من المحرقة انه كان نظاما يحتفي بالحياة وكائناتها ولا يمكن مقارنته بأي شكل بهذا العبث المرير الذي اسست له فردانية نظام الذكورة.
ولعل اطرف تاويل هو ما سمعتـُه من احد المعارف من رجال الدين، فحين اخبرتـُه عن تفسير الطباطبائي للاية الواردة انفا، قال: quot;انّ ثمة التباسا في قولك وربما انك لم تدرك التفسير على النحو الصحيحquot;، وما انْ راجعَ الاية في تفسير الميزان حتى قال: quot;انه تفسير، رغم غرابته لكنه منطقي وصحيح، ولكني ارى- والحديث له - إنّ قصدَ الله تعالى أنـّه في ( بعض الحالات) تكون الانثى اعلى مقاما من الذكرquot;. وحين قلتُ له من اين جاء بهذه ( البعض الحالات) قال وبيقين من اطلع على الغيب: quot;انه سياق الاية حيث ان التفضيل هنا محصور بامراة عمران واشارة من الرحمن الى ما سيقوم به مولودها من حمل لكلمة الله دون دنس او مس من بشر - المسيح ابن مريم وليس على مجمل النساءquot;. تخريج لطيف وظريف.

على اية حال، لم يكن مذهب الكلام هنا بالطبع ان نقيم مقارنة تفضيلية جنسوية، لايماننا ان قيمة الانسان متفاوتة تبعا لفردانيته، ذكرا ام انثى ولما يحمله من امكان علمي او فكري، وهو الراي الذي يذهب اليه ابن حزم اذ يقول براي معتدل وعقلاني، حيث لا يرى حكما تفضيليا في الامر وانما هو مجرد تبيان للاختلاف: quot; وليس في الامر من فضل... كقولنا وليس الاخضر كالاحمرquot;.
واردنا فقط ان نشير الى مثل بسيط، وفي تاريخ المرويات العربية امثلة كثيرة، تؤكد اليقين الراسخة التي يتمرغ بها المفسر العربي ومدى قدرته على ان يخاتل ويلوي عنق الكلام وان كان بكسرها كي يعضد نظام السرد الشائع.
رحم الله ابن حزم لاعتداله، ورحم الله الطباطبائي لوضوح عبارته، ومن يدري فربما، نقول ربما، يمكن ان يصبح تفسيره اعلاه لجملة quot;وليس الذكر كالانثىquot; شعارا ترفعه حركات التحرر النسوي والمنظمات الانثوية في نضالها الدموي ضد خناجر الفحولة الباسلة المجيدة.
مجرد اشارة لا غير
ولله في خلقه شؤون وشجون.
ملاحظة لغوية: لم يكن اهمالنا للهمزة على كلمة quot; الرايquot; سهوا او تكاسلا، بل عن نية وقصد فهي لغة او لهجة قريش. وشخصيا احبذ اسقاط الهمزة من هذه الكلمة وكلمات اخرى مشابهة لسهولة اللفظ وليونته وقد ورد عن الامام الصادق احاديث كثيرة لا يهمّز فيها. اما اهمال (همزات الفصل) في الكلمات الاخرى فهو عن تكاسل وضجر، لضيق في الوقت. ذكرتُ هذه الملاحظة وبذهني رسالة من الصديق علي مزهر صاحب موقع نسابا يقول فيها quot; همزات الفصل يا اخي، اين هي، لقد اخذتْ مني وقتا طويلا وانا اضيفها الى نصكquot;. ربما كان لاهل الاختصاص راي في المسألة.