ذات مرة سألني مستشرق ألماني يعرف عنا أكثر مما نعرفه عن أنفسنا، لماذا بعث الله كل الرسل والأنبياء بل وتجلى بذاته العليا في الشرق الأوسط، ومع ذلك ظلت هذه المنطقة أسوأ بقاع الكون، ومرتعا لآخر أنظمة الفساد والاستبداد في العالم، التي لا تستعصي على محاولات الإصلاح فحسب، بل وأجبرت كل بلدان العالم على أن تدعها لمواجهة مصيرها المحتوم، لأنها لم تجد شعوباً تستميت في الدفاع عن جلاديها كما يفعل أبناء هذه المنطقة المنكوبة.
والحقيقة أنني لم أجد جواباً حتى الآن، فكل الأنبياء والرسل عليهم السلام بعثوا بالفعل من هنا، وكافة الرسالات السماوية والأديان انطلقت من هنا، ومع ذلك ظل (هنا) هو الأسوأ على مستوى العالم، فلم تبعث السماء نبياً إلى دول اسكندنافيا، ورغم هذا فهي بالفعل أرقى بلدان العالم، ولم يبشر الله شعب اليابان (مثلاً) بأنه quot;خير أمة أرسلت للناسquot;، أو quot;شعب الله المختارquot;، ورغم ذلك فإن اليابانيين يستحقون بجدارة أن يكونوا من أفضل الشعوب، ليس فقط لما حققوه من إنجازات حضارية هائلة جعلت بلادهم في مصاف أرقى الأمم، بل ـ ولعل هذا هو الأهم ـ أنهم تساموا فوق جراحهم، بعد أن ألقيت عليهم وحدهم دون غيرهم، قنابل ذرية لم تشهد لفظاعتها البشرية مثيلاً من قبل، ولا حتى من بعد.
لم يحول اليابانيون حياتهم إلى حوائط مبكى، بل عملوا واجتهدوا وصنعوا حضارة يعرفها القاصي والداني، ورغم ذلك ظلوا أكثر شعوب الأرض تهذيباً وتواضعاً، فلا يتعاملون مع الشعوب الأخرى باستعلاء كما يفعل quot;كفلاءquot; الشرق الأوسط ولم يتغنوا بماضيهم البائد كما تفعل كائنات الشرق الأوسط، ولم يصدعوا العالم بالشكوى من تعرضهم للضرب بالنووي، بل تجاوزوا الأمر لصناعة حاضر مشرق ومستقبل أفضل لأبنائهم.
.....
لكن ـ والحق يقال ـ فإن الحياة في بلدان الشرق الأوسط لا تخلو من المزايا، فبوسع المرء في بلداننا بقليل من الخبرة في التعامل مع الأجهزة الحكومية أن يفعل ما يحلو له، وأن يخترق كل القوانين، فيتهرب من الضرائب ويصبح نائباً في البرلمان، ويسرق المال العام ويتبوأ موقعاً حكومياً رفيعاً، ويهرب الآثار ويسطو على أراضي الدولة، ويصبح نجماً في عالم المال والأعمال، وحتى المواطن العادي محدود القدرات بوسعه أن يسير عكس الاتجاه في أكبر شوارع العاصمة، ويتخطى الإشارات الضوئية، ثم يدفع دراهم قليلة للشرطي الفقير، ليغض الطرف عن كل هذه المخالفات، بل ربما يحيطه أيضاً بمظاهر الاحترام والتقدير.
كما يمكن أن يكون المرء في الشرق الأوسط صحافياً تافهاً انقطعت صلته بالقراءة منذ أيام الدراسة، ومع ذلك يصبح رئيساً لتحرير صحيفة حكومية يمارس من خلالها الشبق للسلطة والفحش بكل معانيه الصريحة والمجازية، كما يصح أن يكون صحافياً تافهاً أيضاً ويرأس تحرير صحيفة معارضة، شريطة أن (يتعاون) مع أجهزة الأمن ضد خصوم النظام السياسيين، ويكتب بمجلة (الأمن) لقاء خدمات معلومة، ويتصدى بالشتائم والردح لتقارير منظمات حقوق الإنسان الدولية والمحلية ليصفها عبر تلفزيونات الحكومة بأنها أدوات بيد أجهزة الاستخبارات الدولية، تسعى لتشويه صورة بلاد العزيزة وإن جارت عليه، وأهله الكرام وإن ضنوا عليه، وقد يذهب لما هو أبعد من ذلك ليقولها بملء فيه: quot;إن الإصلاح الذي لا ينبع من الداخل فهو مرفوضquot; والداخل طبعاً يعني الحزب الحاكم وأجهزة الأمن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
كما يستطيع الكائن الشرق أوسطي أن يكون معارضاً في الصباح عبر مقالات ينشرها بما تسمى quot;الصحف المستقلةquot;، وينام في مخدع السلطة مساءً ويسهر مع رجال الأمن آناء الليل وأطراف النهار، ويتدفق كالسيل العارم عبر الفضائيات العربية، ثم يظهر وديعاً مسالماً عاقلاً في التلفزيون الحكومي، ويتشدق ليل نهار بالمهنية والاستقلالية وحرية التعبير، ثم يرسل مقالات الكتّاب إلى دوائر الأمن لتراجعها قبل نشرها، وينسق سراً مع الحزب الحاكم، ثم يتباهى علانية بأنه ليس عضواً في هذا الحزب، رغم كل ما يقدمه له من خدمات لا يستطيع أعضاء الحزب أنفسهم أن يقدموها، ويقبض ثمن ذلك منصباً كرئاسة تحرير صحيفة حكومية، أو أحد قطاعات التلفزيون، ويغض المسؤولون الطرف عن فساده وفضائحه مادام موالياً مستأنساً
ليس هذا كل شئ، فبوسع المرء أيضاً في الشرق الأوسط أن يكون متطرفاً وإرهابياً، يفجر ويقتل ويعيث في الأرض فساداً، وبعد ذلك يعلن توبته فتسلط عليه الأضواء ليصبح نجماً، ويخرج الاستراتيجيون فيطالبون برعايته حتى لا يعود للتطرف، وتجمع لأجله الأموال، وتتدفق عليه التبرعات، ويصدر بيانات يدلي فيها بدلوه في كل حدث تشهده البلاد، ويصبح لاحقاً باحثاً متخصصاً في شؤون الجماعات الإسلامية.
.....
لكن في المقابل، فإن آلة السلطة المترهلة الفاسدة في أنظمة الحكم ببلدان الشرق الأوسط، ستكون غاشمة رادعة حين يتعلق الأمر بتهديد حقيقي للجالسين على العروش والقابضين على مقاليد السلطة، فيمكن مثلاً أن يقضي معارض أو صحافي سنوات طويلة خلف القضبان، ويتعرض لأسوأ حملات التشهير التي تطال حتى أسرته، كما تنقلب السلطة الرخوة إلى آلة قمع جهنمية تُحصي على المعارضين أنفاسهم وتحاسبهم على قوانين معطلة منذ قرون، وتسد في وجوههم أبواب العيش الكريم، وتتحرش بهم في كل مكان، وربما يصل الأمر إلى تجريدهم من ملابسهم كما حدث لصحافيين في بلاد quot;واق الواقquot;، التي تقع في قلب الشرق الأوسط الكئيب، ويتغنى أبواق حكومتها ليل نهار بأزهى عصور الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان.
قصارى القول، فإنه وكما نكون يُولى علينا، وشخصياً ومن دون نفاق ولا تملق لشعوبنا التي أفسدها الطغيان، فلا أجد أننا في الشرق الأتعس نستحق حكاماً أفضل، بل إن هؤلاء يليقون بنا ونليق بهم، وحين تدفع هذه الشعوب أثماناً فادحة كما دفعها الألمان واليابانيون وغيرهم من الأمم التي اهتدت إلى سبيل الحق والعدل والحرية والتقدم، سيكون من المنطقي حينها أن يحكمنا نساء ورجال يحسبون ألف حساب وحساب لشعوبهم، قبل الكونغرس الأميركي والبرلمان الأوروبي، وربما الكنيست الإسرائيلي أيضاً.
والله المستعان
[email protected]
التعليقات