ربما جاز اتخاذ حركة quot;كفايةquot; المصرية كنموذج للعشوائية والاختلاط واللا تجانس الذي يهيمن على الحياة المصرية الآن، إذ تضم خليطاً من اليساريين والقومجيين والليبراليين والإخوان المسلمين، ويبدو الأمر للمراقب غير المطلع أن الحركة هكذا تعتبر تجمعاً وطنياً لدعاة الحرية، فهم لا يتفقون حقيقة في أي أمر من الأمور إلا على المطالبة بتداول السلطة، مادام شعارهم الأساسي quot;لا للتمديد، لا للتوريثquot;، الذي يعبر ولاشك عن الخطوة الأولى الجوهرية للبدء في استزراع الحرية في مصر المحروسة.
لكن الحقيقة أن مجرد المطالبة بالحرية في ظرف محدد لا يعني تلقائياً تصنيف المُطالب كداعية للحرية، الذي هو التوصيف الذي ينطبق على من تتسم نظرته للحياة على وجه العموم وفي كل تفاصيلها بالانتصار لحرية الإنسان، تلك الحرية التي لا تعرف الاستثناء أو التجزئة، فليس من الحرية أن تستثني فرداً أو فئة من الناس من التمتع بها، لأنك تصنفهم مثلاً كأعداء الشعب أو أعداء الطبقة العاملة، أو ككفار يستحقون القتل أو النفي من الأرض، كما لا تعرف الحرية التجزئة بأن نقصرها على مجال أو مجالات محددة، ونحرمها في مجالات أخرى، كأن تطالب بحرية سياسية وبشمولية اقتصادية، كما يحدث عندما نطالب بحرية تكوين الأحزاب وبوضع القيود أو تحريم إنشاء الشركات والمصانع، أو بحق الفلاح في اختيار حكامه وعمدة قريته، ومصادرة حقه في اختيار المحصول الذي يزرعه ولمن وبكم يبيعه، لأننا نريد أن نحكمه بخطة زراعية شمولية، يضعها الموظفون أسرى مكاتبهم ونزعاتهم البائدة عن الاقتصاد الموجه والمحاصيل الاستراتيجية، وسائر ما أثبت الزمن فساده وبطلانه، وقد يطالب البعض بالحرية السياسية والاقتصادية، ويحرمونها في المجال الاجتماعي والديني، بدعوى الحفاظ على العادات والتقاليد والتزام صحيح الدين كما يراه سدنة المقدس، ويحاربون الإبداع الفني والأدبي بدواعي الأخلاق والفضيلة، كما يعتبرون مواصفات الأزياء شأناً مقدساً، ويحددون من يحل له استخدام العطور، ومن يحرم عليه استخدامها.
وتمتد الانتقائية التعسفية إلى داخل المجال الواحد، مثلما يحدث في المجال السياسي، الذي يتعالى فيه صراخ المنادين بالحرية، لنجد هؤلاء الصارخين يخونون ويجرمون ويعزلون من يرون أن السلام والتعايش مع إسرائيل هو الطريق لحل أزمة الشرق الأوسط، كأنهم حاملين لفيروس يخشون من انتشاره، ويطابقون الاعتقاد في القومية العربية مع الوطنية، مدرجين من يرى الاتجاه وجهة أخرى والمصالحة مع الغرب مصدر الحضارة الراهنة في عداد الخونة، ورأس حربة موجهة لجسد الأمة العربية وآمالها في الرفعة والكرامة.
ففلول اليسار المنضوون الآن تحت عباءات شيوخ التأسلم السياسي ونجومه اللامعة، والذين يطالبون بتداول السلطة، وفي نفس الوقت يرفعون شعارات quot;الالتزام بثوابت الأمةquot; أو quot;الالتزام بما هو معلوم من الدين بالضرورةquot;، الذي يحشرون فيه تفاصيل وجهات نظرهم الخاصة، هؤلاء يصح تصنيفهم كمبشرين أو دعاة لأيديولوجية محددة، فهم يدعون ويبشرون بأنفسهم وبما يحملون من رؤى وهذا حقهم، ومن حقهم أيضاً أن يبشروا الناس بالخير العميم الذي سيرفلون فيه جراء اعتناق وتفعيل ما يؤمنون به، والذي قد يتطلب وضع أصحاب الرؤى المخالفة في السجون أو رهن الإقامة الجبرية، هم ثوار راديكاليون؟ نعم، قد يأتي من ورائهم خير؟ ربما، لكن بالتأكيد هذا الخير المنتظر لا يتضمن مزايا تمتع الإنسان بالحرية، ولا ما تفتحه لمعتنقيها من آفاق.
ليست الحرية غاية لدى هؤلاء الذين تقتصر علاقتهم بمفهوم quot;الحريةquot; على المطالبة بتبادل السلطة، ولا يعتنقونها كمهج حياة، فهم دعاة شمولية وهيمنة، والحرية بالنسبة لهم مجرد وسيلة، يستخدمونها مرة واحدة، لتحقيق مبتغاهم في الوصول إلى الحكم ثم يطوحون بها سريعاً، بل يتحولون إلى أعداء لها، لأنها يمكن أن تؤدي إلى تنحيتهم إذا كانوا ذاتيين، أو إلى إجهاض مشروعهم العقائدي إن التزموا الموضوعية.
لا نأتي بجديد في هذا، مادام جميعنا يعرف قصة النازي، ووصوله إلى السلطة على أجنحة الديموقراطية، وأمامنا طازجة مازالت تجربة منظمة حماس في غزة، وهي من أتت عبر تجربة ديموقراطية دفع وهلل لها العالم الغربي قبل الشرقي، لتبدأ بالتنكر لميثاق منظمة التحرير الفلسطينية، الذي جاءت بموجبه إلى السلطة، ثم ما لبثت بعد ذلك أن أطلقت رصاصة الرحمة على الديموقراطية بانقلابها العسكري، وهاهي تسوق شعبها للحصار والمجاعة، وتستخدمه لاقتحام حدود الجيران بتكتيك الجحافل البشرية أو زحف الجياع.
في إيران أيضاً ما يمكن اعتباره تجربة ديموقراطية لتداول السلطة عبر صناديق الاقتراع، لكنه تداول مُفَرَّغ من مفهوم الحرية وقيمها، فالمتقدمون للترشيح في أي انتخابات يتحتم أن تنطبق عليهم شروط تضعها لجنة خاصة، ربما لا يجمع بينها إلا عداءها للحرية والأحرار، ولا ننسى هنا quot;لجنة تشخيص مصلحة النظامquot;، علاوة على سائر اللجان والملالي الذين يحددون بدقة الحلال والحرام والمسموح به وغير المسموح.
لدينا في مصر الذين يستخدمون القانون والقضاء لمطاردة الأعمال الفنية والأدبية وأصحابها، ويطاردون مواطنيهم البهائيين، منكرين عليهم مجرد العيش في بلادهم بسلام، دون ما حاجة لأن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وكل هؤلاء من المرموقين في زمرة المطالبين بتداول السلطة، بل والمؤسسين لمنظمات لحقوق الإنسان في مصر، هم في الحقيقة يعدوننا بتداول للسلطة يتم فيه تنصيب quot;زيدquot; بدلاً من quot;عبيدquot;، دون ما ضمان ألا يكون quot;زيدquot; أنكى وأشد وطأة من سلفه، ولسنا هنا في معرض البحث إن كانت تلك النوعيات تستحق التأييد أو الاحترام من عدمه، فما نهدف إلى إبرازه هو أنهم أبعد ما يكونون عن أن يدرجوا ضمن دعاة الحرية.
في ذات ساحة المطالبين بحرية تداول السلطة نجد الإخوان المسلمين يأتون إلينا بأيديولوجية شاملة كاملة، تضم رسوماً تفصيلية لكل دقائق حياتنا، بداية من نظام الحكم حتى آداب دخول المرحاض، وفوق كل هذا سيف التكفير المشهر فوق رأس كل من يتجرأ على مناقشة رؤاهم المقدسة، والذي لن يكون بعد معارضاً له حق الاختلاف، وإنما سيكون كافراً مارقاً وعدواً لله، بحيث لن يكون متاحاً للمعارضين عندها رفع شعار quot;كفايةquot;، لأنهم سيعدون كمن يقول كفاية لحكم الله!!
يصعب علينا حصر مختلف نوعيات وأطروحات المطالبين بتداول السلطة رافعين شعارات الحرية، ولا ننتوي هنا أن نتساءل عن أي جدوى وأي طريق يمكن أن يفتحه لنا تجمع مثل حركة quot;كفايةquot;، فنحن هنا نتساءل فقط إن كان من الممكن أن نعثر من بين هؤلاء على من ينطبق عليهم حقاً توصيف quot;دعاة حريةquot;.
[email protected]