الدستور لدى جميع الشعوب هو بمثابة عقد اجتماعي، بما يتضمنه من أسس وخطوط عريضة اتفق عليها الجميع، لتقوم عليها حياتهم المشتركة، وبقدر الإجماع على الرضى والاتفاق على بنود الدستور، بقدر تماسك المجتمع، بما ينعكس مباشرة على فاعليته وحيويته، وعلى كفاءته في توفير نوعية الحياة المنشودة من أفراده وسائر مكوناته الأصغر، سواء كانت مكونات عرقية أو ثقافية أو دينية أو اقتصادية، ويصير تعديل الدستور أو تغييره كاملاً أمراً ملحاً أو لازماً، متى تضاءل حجم الإجماع أو الاتفاق حوله كلياً أو جزئياً، نتيجة للتطورات والمتغيرات في معالم الحياة والحضارة الإنسانية، والتي تجعل الثوابت والقواعد التي مكنتنا في الماضي من الفاعلية والتقدم تغدو اليوم معيبة، أو أصبحت قيداً على انطلاقنا إلى غد مختلف لابد أن نصل إليه، وإلا سقطنا من موكب الحضارة المنطلق، لنكون بعدها معرضين للتقهقر، أو حتى السقوط من حالق كما يقولون.
التعديلات الأخيرة للدستور المصري لم تكن بالطبع مما يمكن إدراجه ضمن هذه النوعية من التعديلات، فالنظام الحاكم يفتقد مثل تلك الرؤية والحيوية، بقدر انفصاله عن الشارع المصري ونبض الجماهير واحتياجاتها المجتمعية، ناهيك عن الاقتصادية والسياسية والثقافية، كما يفتقد إلى الإخلاص والكفاءة في إدارة ما يتوجب عليه إدارته، وبالتالي يفتقد القدرة وإرادة الإصلاح الدستوري الحقيقي، ونعرف جميعاً أن هذه التعديلات جاءت للتظاهر بوجود تحرك للأمام، فيما نحن مصرون على الوضع 'محلك سر'، والبعض منا يجاهد ويناضل من أجل 'للخلف در'، لنعود إلى زمن الستينات الجميل كما يسمونه، أو إلى زمن الخلافة العثمانية أو العباسية أو الأموية، جاءت التعديلات أيضاً بغرض التجميل لوجه يحتاج لعمليات جراحية لتجميله، وليس فقط لبعض المساحيق، مثل حشر مفهوم المواطنة بالدستور حشراً، لمجرد الاستشهاد به في كرنفالات النفاق والتمويه، أو للدفاع المتهافت أمام الإدانات العالمية لانتهاكات حقوق الإنسان، كما جاءت التعديلات ببنود ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، فتعديلات المادة الخامسة التي تمنع ممارسة العمل السياسي على أسس أو مرجعية دينية، ظاهرها إنقاذ البلاد من السقوط في هاوية الفتنة الطائفية والثيؤقراطية والسلفية الظلامية، وباطنها قطع الطريق على من يستطيعون تقديم منافس قوي لولي العهد العزيز، في أقرب انتخابات رئاسية قادمة، فيما ممارسات النظام ورموزه والفكر المحصورين فيه، هو ذات الفكر الوهابي، بل وفاعلية أجهزة الدولة في نشر الفكر الوهابي المتعصب تفوق بمراحل فاعلية الجماعة المحظورة في نشر هذه الأفكار.
بداية إذا كان لعنوان المقال قدراً من المصداقية الموضوعية، فإن هذا في حد ذاته يتضمن مفارقة مؤسفة وهزلية في آن، فالدستور كوثيقة سيادية أولى تعلو على كل ما عداها، لابد وأنها ترسم ملامح الوضع النموذجي المفترض والمنشود، ومن طبيعة الأمور أن نجد الواقع العملي على مسافة من هذا النموذج، كما يتوقع أن نجد بالواقع متناقضات، تكون محور عمل المؤسسات الرسمية والأهلية، سعياً لحلها وتجاوزها، بالقياس على النموذج الدستوري فائق الاحترام، أما أن يكون النموذج ذاته حافلاً بالمتناقضات، فإن الوضع في هذه الحالة يكون أقرب إلى كوميديا سوداء.
المادة (1) من الدستور تنص على: 'جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديمقراطي يقوم علي أساس المواطنةrlm;،rlm; والشعب المصري جزء من الأمة العربية يعمل علي تحقيق وحدتها الشاملةrlm;.rlm;'، أي أنها دولة مواطنة، تقوم بصفتها اتحاد بين ملاك الوطن المصري، وهذا مفهوم رائع للدولة القومية الحديثة، لكن بعدها مباشرة تأتي المادة (2) والتي تنص على: 'الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع.'، والنص هنا يحدد ديناً للدولة، وليس لأغلبية أو أقلية من مواطنيها، وإن كان لعبارة 'دين الدولة' من معنى، فلن يكون إلا أن الانتماء الأصيل لهذه الدولة يكون بناء على اعتناق دينها، وأن معتنقي أي أديان أخرى أو اللادينيين هم ضيوف على الدولة أو ملحقين بها على أحسن الفروض، أو غرباء ثقلاء في أسوأها، وأي تفسير لهذا النص يحاول التخفيف من حدة هذه الدلالة، لا يكون تفسيراً ملتزماً، وإنما مجرد تحايل وهروب من الدلالة الحقيقية للنص.
يتعارض نص المادة الثانية أيضاً مع المادة (40) التي تنص على ' المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة.'، لكن هذا التعارض يزول إذا تجاهلنا ما جاء بالمادة الأولى عن مفهوم المواطنة المقحم عليه، فهنا يمكن أن تتفق المادة الثانية مع المادة (40)، باعتبار أن المواطنين المتساوين أمام القانون هم المواطنون الذين على دين الدولة، على أن يحذف من المادة بالطبع ما يشير إلى عدم التمييز بسبب الدين، والجدير بالملاحظة هنا أنه إذا طرأ للمواطن الذي على دين الدولة أن يلحد أو يعتنق ديناً آخر، فإن مواطنته تسقط عنه، ليأخذ وضع الضيف أو الذمي أو البدون، هذا بالطبع إذا لم يتم قطع رقبته بحد السيف، كما أفاد المتفقهون.
يترتب على هذا امتداد التناقض للمادة (5):'يقوم النظام السياسي في جمهورية مصر العربية على أساس تعدد الأحزاب وذلك في إطار المقومات والمبادئ الأساسية للمجتمع المصري المنصوص عليها في الدستور. وينظم القانون الأحزاب السياسية. وللمواطنين حق تكوين الأحزاب السياسيةrlm;،rlm; وفقا للقانونrlm;،rlm; ولا تجوز مباشرة أي نشاط سياسي أو قيام أحزاب سياسية علي أي مرجعية أو أساس ديني،rlm; أو بناء علي التفرقة بسبب الجنس أو الأصلrlm;.rlm;'، فهنا يمنع العمل السياسي على أي مرجعية أو أساس ديني، كيف يقبل هذا في حين أن الدولة نفسها لها دين، أو كيف يتفق تحريم العمل السياسي على أساس مرجعية دين الدولة، إلا إذا عدلت هذه المادة، ليقتصر تحريم العمل السياسي على أساس مرجعية أي دين غير دين الدولة، بل ويمكن أن يكون التعديل على أساس تحريم العمل السياسي الذي لا يستند إلى مرجعية دين الدولة!!
نلاحظ أن البرنامج السياسي الذي قدمته أخيراً الجماعة المحظورة يتطابق تماماً مع التفسير الحقيقي الوحيد للمادة الثانية، فيما يتناقض بالطبع مع المادة الأولى والخامسة والمادة (40).
لإزالة هذا التناقض يمكن السير في اتجاهين متعارضين:
الاتجاه الأول هو حذف المادة الثانية بكاملها، لتتوافق المادة الأولى مع المادة (40)، ويستقيم نص المادة (5)، لتكون مصر دولة قومية حديثة، يتطابق دستورها مع مفهوم دولة المواطنة، ومع مفاهيم ومواثيق حقوق الإنسان العالمية، والملزمة لمصر، بحكم توقيعها عليها، وبحكم وجودها كعضو فاعل في منظمة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.
الاتجاه الثاني لإزالة التناقض هو حذف كلمة مواطنة المحشورة أخيراً في المادة الأولى، وتعديل المادة (5) لتحرم العمل السياسي على أساس مرجعية دينية مخالفة لدين الدولة، كذا تعديل المادة (40) التي تساوي الجميع أمام القانون، لتنص على تساوي المواطنين المؤمنين بدين الدولة أمام القانون، ويستحسن هنا إضافة نص يحدد موقف أهل الذمة (أهل الكتاب) و'البدون' (اللادينيين، والذين يؤمنون بأديان لا يعترف بها دين الدولة)، وفي هذه الحالة يفضل تغيير المادة الأولى كاملة، لتتسق مع هذه التعديلات، لتنص على تسمية مصر بالإسلامية بدلاً من العربية، وأن تسعى مصر لتحقيق الخلافة الإسلامية بدلاً من الوحدة العربية، واستكمالاً للإنجازات الدستورية يمكن استبدال تسمية جمهورية مصر، لتكون المملكة المصرية، بما يتيح إتمام التوريث وفق شرعية دستورية يحترمها العالم، ليكون النص الجديد المقترح للمادة الأولى: 'مملكة مصر الإسلامية والشعب المصري جزء من الأمة الإسلامية، ويعمل علي تحقيق دولة الخلافة الإسلامية'!!
هذا الاتجاه الثاني في التعديل هو في ظني المهمة الأولى التي ستنجزها جماعة الإخوان المحظورة حالما تصل إلى الحكم، وهو المصير الذي ينتظر مصر، ما لم يتم حسم التضارب في الدستور وفي فلسفة النظام في حكم البلاد، فالتناقض حاسم وجذري بين الاتجاهين اللذين قمنا بعرضهما، وعدم الحسم أو محاولة تأجيله باتخاذ مواقف وسطية مائعة وغير محددة، لا يمكن أن يؤدي إلا إلى الفوضى والاختلاط، الذي نرى مظاهره في كل مناحي الحياة المصرية.
تناقض آخر بالدستور بين شطري مادة واحدة هي المادة (11)، والتي تنص على: 'تكفل الدولة التوفيق بين واجبات المرأة نحو الأسرة وعملها في المجتمع، ومساواتها بالرجل في ميادين الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، دون إخلال بأحكام الشريعة الإسلامية.' ذلك أن صلب المادة أي شطرها الأول مشروط بشطرها الأخير، وهنا نكون أمام احتمالين، يمكن أن يساعدنا فقهاء الشريعة على اختيار أنسبهما، الأول أن الشريعة الإسلامية تساوي فعلاً بين الرجل والمرأة في جميع المجالات، وفي هذه الحالة لا يكون ثمة داع للاشتراط بعدم الإخلال بالشريعة، حيث أن هذا الشرط يكون مفتقداً لمعنى جديداً يضيفه، والاحتمال الثاني أن الشريعة الإسلامية لا تساوي في جميع المجالات بين الرجل والمرأة، وهنا يكون التناقض أن يتحدث الشطر الأول بالمادة عن مساواة في جميع ميادين الحياة، ليأتي الشطر الثاني فيجعلها مساواة جزئية، وهو تناقض يسبب الالتباس، وينسحب بظلاله على نص الدستور، حين تفرغ عباراته بعضها البعض من معناها ومفاهيمها.
لإزالة هذا التناقض نجد أنفسنا أمام ذات الاتجاهين اللذين واجهناهما في التناقض السابق، ليكون الأول أن نقرر المساواة الكاملة بين المرأة والرجل، ونحذف الشطر الأخير الشرطي من المادة، وهو خيار مرتبط بالطبع باختيارنا الاتجاه الأول في التناقض الأول عاليه، والاتجاه الثاني هو بقاء الشطر الأخير من المادة، مع تعديل شطرها الأول، ليمنح المرأة مساواة بالرجل في بعض المجالات، حسبما تسمح بذلك تفسيرات الفقهاء للشريعة الإسلامية، ونقول تفسيرات الفقهاء لأن الإسناد الدستوري إلى الشريعة الإسلامية بالمطلق يعتبر إسناد غير دقيق، فنصوص الشريعة موزعة على نصوص عديدة منها البشري، وهو تفسيرات الفقهاء واجتهاداتهم على مر العصور، ولا يوجد نص واحد معتمد يجمعها جميعاً، علاوة على ما تحتويه تلك النصوص من اختلافات بين فقهاء مختلفين وعصور مختلفة، وما ينشأ من خلاف معاصر عند القياس على الظروف الراهنة، المختلفة جذرياً عن عصور إنتاج النصوص البشرية المعتبرة جزءاً من الشريعة الإسلامية.
من حق القارئ أن يرى في هذه المداخلة دعوة للشعب والنظام السياسي المصري لحسم تناقضات خطيرة في دستوره وفي حياته الراهنة، لكن من حق كاتب هذه السطور أيضاً أن يقرر تواضع طموحه، فالشعب المصري فيما يرى لا يميل إلى ما يسمى الحسم، فلقد اعتاد فلسفة التواطؤ على تجاور التناقضات، وأن يصبر على ما يترتب على ذلك من نتائج مريرة، ولمد حبال الصبر يقنع نفسه بأن 'الصبر جميل' و'الصبر مفتاح الفرج' و'الصبر حلو'، ويطلق على أبنائه أسماء صابر وصبرية وصبري وصابرين وصبور، لذا فلنعتبر هذه السطور مجرد تنفيس عما يعتمل في الصدر من حزن وأسى على شعب كان في يوم ما أعظم الشعوب، مجرد بوح لمن لم يتبق من عمره بقية يهدرها صبراً!!
[email protected]
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية
التعليقات