لقاءات في مؤتمرات عقدت صيف 2009 في انكلترا

كان صيف هذه السنة (2009) صيفا ساخنا بالرغم من أنني قضيت فيه ثلاثة أسابيع في انكلترا، بين أيام مشمسة دفعت النساء والرجال الى الحدائق العامة يعرضون أجسامهم لأشعة الشمس الدافئة وأيام ماطرة باردة لم أحس فيها بلهيب صيف الشرق الأوسط اللافح، بل غمرت مياه الأمطار البيوت الواطئة في لندن وأغرقت مداخلها وغرفها، وشعرت النساء المسلمات المحجبات بالراحة تحت ثيابهن المحتشمة التي ينعتها العلمانيون اليوم بالخيمة. قضيت الأسبوع الأول في مؤتمر جامعة كمبردج عن quot;يهود الثقافة العربيةquot;، برعاية العلامة صاحب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال (كمبردج، 22 ndash; 24 يونيو، 2009)، ومؤتمر المستشرقين البريطانيين في جامعة مانشستر (4 ndash; 6 يوليو، 2009)، وبعد وصولي الى لندن انتهزت فرصة انعقاد ندوة ثورة 14 تموز، 1958 في يوم 11 يوليو، 2009، شارك فيها الزعيم السياسي، عضو البرلمان العراقي السيد إياد جمال الدين وعبد الخالق حسين وهاشم العقابي وعقيل الناصري، وألٌقيتُ فيها قصيدة رثاء للزعيم عبد الكريم قاسم نظمها الدكتور جبار جمال الدين، نيابة عنه، إذ كيف يعقد مؤتمر عراقي لا تلقى فيه قصيدة في تلك المناسبة الهامة. ثم شاركت في ندوة إحياء التراث العراقي التي نظمها كل من الدكتورة أمل بورتر والأستاذ ضياء كاشي في لندن (12 يوليو، 2009) وبمشاركة شعراء وأدباء آخرين، وسأعود الى الحديث عن هذه المؤتمرات فيما بعد. وكان ختام هذه الرحلة محاضرتي في 14 يوليو، 2009 عن فرهود اليهود في نادي مركز quot;سبيرو آركquot; اليهودي، تحدثت فيها عن كتاب quot;فرهود عام 1941 في بغدادquot;، الذي سيصدر قريبا باللغة الانكليزية، جمع وتحقيق ش. موريه ود. صبي يهودا والموجود تحت الطبع في مطبعة ماغنس بالجامعة العبرية. ويضم هذا الكتاب مقالات كتبها الأساتذة ستيفان ويلد وإيلي خضوري (كدوري) وحاييم كوهين ونسم قزاز ود. أستير مئير والمحققان. وحضر هذه الندوة نخبة من المستمعين من الإنكليز والمثقفين العراقيين من جميع الفئات العراقية الهاربة من الجحيم الصدامي، برز فيها من المعلقين على محاضرتي المثقفون العراقيون من يهود العراق من الهاربين من العراق بعد حرب 1967 وعرب وأكراد.
وكدأبي في تشجيع تدوين تاريخ العراق الحديث، فقد انتهزت فرصة زيارتي لإنكلترا وطلبت من أصدقائي العراقيين ممن كان لهم ضلع في الأحداث السياسة في القرن الماضي أن يدونوا ذكرياتهم، وابتدأت بتدوين مقابلاتي مع بعضهم وعلى رأسهم الدكتور اللواء غازي آل الجميل طبيب العيون في الجيش العراقي سابقا والصديق الوفي الأستاذ ضياء كاشي وهما من نزيلي لندن، أسوة بمذكرات الدكتورة الباحثة أمل بورتر، واقترحت عليّ الدكتورة هدى معروف نشر هذه المذكرات في إحدى الصحف الالكترونية العراقية بإشرافنا مع الدكتورة أمل بورتر، تحت عنوان quot;أصداء من تاريخ العراق الحديثquot; نأمل أن يستجيب العراقيون الذي كان لهم ضلع في الأحداث الماضية، وأن تتبنى إحدى هذه الصحف هذا المشروع الهام.

كنا نحن يهود العراق ولا نزال، نتشوف الى معرفة مصير العراق وأحداثه الرهيبة بعد الرحيل وسماع الأخبار من فم شهود العيان، ولم تكفنا نشرات الأخبار ومحاكمات المهداوي التي لا نزال نقتبس بعض دررها في حديثنا اليومي. فمثلا، عند لقائنا بصديق لم نره منذ مدة، كنا نبادره بجملة المهداوي الترحيبية بأخيه الذي اتهمته إذاعة القاهرة بأنه كان نشالا، بقولنا: quot;هذا أخويا، أول مرة داشوفه، يكولون عليه نشال، هل نشالي الشعوب!quot; ونصيحته بتسمية الأبناء بأسماء عربية جميلة بدل الأسماء التي يظن إنها تبعد عنهم تحرش الشيطان بأبنائهم، مثل أسم quot;شويديquot; (تصغير اسم شادي= قرد)، لأن الشيطان يأنف من قبض أرواح الأطفال الذين يحملون مثل هذه الأسماء الحقيرة، فهو نقاد للدر.

كان همي في لقائي بالأخوة العراقيين أن استمع الى ذكرياتهم عن عراق الانقلابات الدموية. ففي ذكرياتي التي نشرتها في quot;إيلافquot; الغراء منذ عام 2007، تحدثت عن صدى الأحداث السياسية والاقتصادية والثقافية على حياتنا في بغداد، أحداث كنا مسيرين فيها غير مخيّرين، أحداث دوّنْتُها بعين طفل لم يفقه ما أسبابها ودوافعها، ثم بنظرة الفتي في مطلع ريعان الصبا بدأت الحقائق تتكشف له تدريجيا، فإذا بالسياسة الهوجاء تدفعنا في تيار جارف اقتلعنا من جذورنا العريقة في وادي الرافدين، أشرف العراق بعدها على حافة الهاوية التي دفعته إليها السياسة الضيقة الهوجاء التي لا تستطيع النظر الى أبعد من أنف منفذيها، فكانت بداية احتضار العراق المأساوي البطيء مع رحيلنا الحزين في موجة الفرهود الثاني لعام 1951 في أيام وزارة نوري السعيد حين سنت حكومته في آذار عام 1951 قانون تجميد أموال اليهود وممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة. ففي هذا الفرهود الثاني استبيحت بيوت وأموال اليهود وممتلكاتهم بعد اقتلاعهم وتهجيرهم من وطنهم، واستبشر الحاقدون بالقانون quot;الفرهوديquot; الجديد وسارعت عامة الشعب الى سرقة أثاث اليهود وفرشهم وحليهم الذهبية والفضية واحتلال وفرهدة بيوتهم المهجورة وحوانيتهم ومخازنهم العامرة بالسلع المختلفة التي استودعوها في الخانات المنتشرة في أسوق بغداد وفي جميع أنحاء العراق، وذلك بالإضافة الى المكتبات في المدارس والنوادي اليهودية وفي بيوت أغنياء اليهود، هذه الدور والفيلات التي بقيت بأثاثها وتحفها والتي سلموا مفاتيحها الى جيرانهم باكين منتحبين يشاركهم في بكائهم جيرانهم الطيبين الأخيار الذين لا يزالون يحنون إليهم ويذكرونهم بالخير ويتمنون عودتهم quot;بعد خراب البصرة وضياع اللبن في الصيف، ولاتَ ساعةَ مَنْدَمquot;. وفرح نوري السعيد بالربح الرخيص الذي جناه ابنه صباح وشركاؤه من وراء تأجير طائرات ترحيل اليهود، أما الرعاع فقد حققوا آمالهم التي عبروا عنها في هوسات فرهود عام 1941 quot;هذا اليوم الجنا انريدهquot;quot; وquot;اشحلو الفرهود لو يعود يوميةquot;quot;. ولم يدركوا أن هذا الفرهود كان أول القطر في طوفان الفراهيد التي طغت على الشعب العراقي بمختلف أديانه ومذاهبه، وشمل بسيف الظلم كل الأقليات في العراق، ولكن الله بسيف الحق ينتقم، وquot;أعظم بك اللّهم من قاض ومنتقمquot; واللّهم لا شماتة. ثم طغت هذه الموجة وحذت حذوها باقي الدول العربية انتقاما لنكبة عام 1948 في فلسطين ونكسة 1967 في البلاد العربية، فطردت يهودها مزغردة لمصادرتها لأملاكهم، ولهذا النصر المبين، quot;وكفى الله المؤمنين القتالquot;. وإلى آخر الأحداث والحروب التي حاولت إبادة إسرائيل وصواريخ quot;سكادquot; التي لاحقنا بها صدام حسين الى إسرائيل، فسقطت على تجمعات يهود العراق في رامات جان خاصة، quot;لأنها شمّت رائعة العنبة الفواحة من منازلهمquot;، فأشبعتهم مرارة. والعجيب أنه بالرغم من سقوط 39 صاروخا لم يقتل في هجمات السكاد هذه إلا شخصان، الضحية الأولى كانت رجلا مات بالسكتة القلبية، والضحية الثانية كانت طفلة عربية، من بنات من يسمون بعرب 1948، خنقتها الكمامة التي وزعتها الحكومة الإسرائيلية على موطنيها خوفا من أن تكون هذه الصواريخ محملة بالغازات السامة، ويا لسخرية القدر! وغضبت عندما رأيت أبنائي قد أصابهم الهلع عند سماعهم صفارات الإنذار في الغرفة التي سدت فيها جميع المنافذ بالأشرطة الواقية من تسلل الغازات السامة، فاحتضنتهم لاعنا الحروب ومثيريها ولكي أبث في أجسادهم المرتجفة الطمأنينة والأمان، وكنا أكثر ما نخشاه أن تكون هذه الصورايخ محملة بغاز الخردل الذي قتل الأكراد من شعب العراق في وقعة الأنفال الرهيبة، ولكنها كانت صواريخ متفجرات، وأضاعت على إسرائيل الأموال الطائلة التي أنفقتها على شراء وصنع الكمامات الواقية من الغازات.
أعادتني هذه الزيارة القصيرة الى ذكريات عراق ما بعد هجرتنا الجماهيرية عام 1951، وألقتني الأقدار وجها لوجه مع من شارك في صنع تاريخ العراق بعد هجرتنا واكتوى بنار الانقلابات والحروب الدامية فيها، فآثروا الهجرة وقد فروا بجلدهم غير مصدقين إنهم نجوا من الجحيم الذي اجتاح العراق ودار السلام ومهد الحضارة الإنسانية، هذه الحروب الهوجاء التي استشهد فيها خيرة شباب العراق. ويعيش اليوم في إنكلترا وفي لندن خاصة، أغلب المشرّدين الهاربين. عجبت لروابط الصداقة التي تربط العراقيين من جميع الأديان والأجناس والطوائف في مهاجرهم. فما أن يلتقي المشردون، نساء ورجالا، حتى يتعانقون ويتبادلون القبل quot;وشلونكم عيني وشنو أخبار الأهل بالوطن المفخخ الجريح؟quot; كأنهم يهنئون بعضهم بعضا غير مصدقين أنهم نجوا من سنوات الحريق، كعنوان رواية الصديق حمزة الحسن، هذا الحريق الهائل الذي التهم الأخضر واليابس في الوطن الحزين الذي يقتلهم الحنين إليه.
ثم أتأمل في دوران دولاب القدر، وقول النساء العراقيات، quot;هاي حوبة اليهود من الفرهود!quot; وأتساءل، لماذا يشهر الزعماء والقادة سيف الظلم على أخيهم الإنسان، ثم نرى الله بعد ذلك ينتقم بسيف الحق؟ ولماذا تتيح الأقدار الفرصة للظالم ثم تعاقبه؟ ولماذا الثواب والعقاب، وخاصة إذا كان الإنسان مسيّر غير مخيّر؟ هذه أسئلة رددها اليهود منذ خراب الهيكل الأول، ورددها المسلمون الشيعة عند مصرع الحسين الشهيد، ورددها المسلمون في غزوات هولاكو وجنكيز خان، ورددها أحبار اليهود في محرقة الهولوكوست، ورددها العرب في النكبات المتوالية على الشعب الفلسطيني، وغيرها من الكوارث الإنسانية الأخرى!
يقول اليونان، إن الآلهة تلعب بمصائر الإنسان كما يلعب القط بالفار، وقول اليهود عن كوارثهم، إنها محن يمتحن الله بها شعبه المختار ليعود ويتمسك بالكلمات العشر الإنسانية الخالدة، ويقول المسلمون إنها حكمة الله وقضاؤه انتقاما لإهمالهم شريعته وليحثهم على التمسك بأحكام القرآن وسنة نبيه الكريم. والله أعلم بالصواب!

(التتمة في الحلقة القادمة، رقم 47)
كتبت هذه الذكريات لتنشر في مجلة إيلاف،
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف،
لا يجوز نشر هذه الذكريات بأية صورة كانت بدون اتفاقية وإذن خطي من المؤلف.