يهود العراق، ذكريات وشجون (44)
تتمة عود وانعطاف، إلى أيام الحب والعفاف، في العراق (4)
إلى الدكتورة هدي:
ليتني أعود إلى العراق يوما
فأحدثه بما فعل الفراق
ليتني أعود إلى العراق يوما
فأحدثه بما فعل الفراق
وقفت في الطابور أمام شباك التذكر والرجال يتزاحمون عليه دون نظام ودون مراعاة لدور الصغار، وأخيراعدت بالتكتات (التذاكر)، واتجهنا إلى بوابة السينما الواسعة وقد زينت واجهتها بصورتي البطلين السينمائيين الشهرين في موقف غرامي مغر. وكانت سينما غازي (التي أسستها عائلة عيزر اليهودية) في تلك الأيام تعرض أفضل الأفلام الأمريكية والإنكليزية والمصرية وكانت إدارة السينما تهتم بالدعاية لهذه الأفلام عن طريق كراء عربة وفيها بعض العازفين على الآلات الموسيقية التقليدية كالجمجامة (الصنوج) والطبل والدنبك والصرناية والبوق ويحملون لافته مغرية عن الفيلم وأبطاله ويقطعون شارع الرشيد وشارع غازي والى الباب الشرقي والبتاويين ويمرون من أمام المقاهي ويعزفون quot;مزيقة الصرايquot; والأطفال يعدون وراء العربانة مهللين فرحين. أما سينما الزوراء (التي أسسها الضابط المتقاعد من الجيش العثماني، إلياس إبراهيم دنوس)، التي كانت مشهورة باللوجات (القمارة) المخملية الحمراء في مقدمة الطابق الثاني من الصالة، والتي كانت أبوابها تقفل من الداخل، ويقال إن كل من كان له quot;رفيجةquot; ويريد أن يختلي بها طوال الأفلام التي كانت تعرض فيها، يحمل في جيبه quot;حفنة حب وحمص ورُبْعيّة عرق أبو الكلبجةquot;، ويؤجرها بثمانين فلسا ويأخذ مفتاحها معه. وكان لسينما الزوراء طريقة تقليدية اقل كلفة لتجذب إلى مقاعدها الصغار والمراهقين. كنت سائرا ذات يوم أمام سينما الزوراء، فرأيت البواب واقفا أمام السينما وهو ينادي: quot;اليوم عدنا اكبر أفلام، أفلام هندية مال جابك والي وعنتر والي، بيها، وطرزان والشادي، بيها، ومغامرات بالغابات بين الولد وارفيجته، وعراك وبوكسات بيها، يالله طبوا يا جماعة، ترا راح أشغـّل!quot;. فصادف أن مرّ أبو جراوية من أبناء الشعب العركاويين يعني برهوم quot;اللي راسه حار ويريد من الله واحد يتحارش بيهquot;، فرأى البواب ينظر إليه ويقول، quot;يالله طبوا ترا راح اشغل!quot;، فتقدم إليه بغضب وقال له quot;ولك أنت جاي اتهددني، وآني لازمك وممخليك اتشغل السينما، تشغل ما تشغل طبك ألف مرض، ولك أتهددني، أنت أشجابك عليّ ابهل مغربية الشوبquot;. فاحتد البواب لهذا quot;السيبندي السرسريquot; الذي شتمه في عَقـْر داره، وأمسك بتلابيبه، فبادر ولد الحلال إلى quot;مفاككتهم، وتفزعوا للبوابquot;: quot;ولك موعيب، متحطه يشتغل على باب الله!quot;، ويقول آخرون للبواب، quot;متخليه أيولي، غير هذا مخبل، فك عنه ياخة وخليه أيروح المهجومهquot;، ويسحبون المعتدي بعيدا وهم يقولون: quot;صلي عل النبي، وروح يالله، لا تسويها طلابه!quot; ويمضي البواب في سبابه وهو يقول quot;والله لو ما ألخاطركم، جان هسه ذبحته، أكطه وأذبه، مثل الدجاجة!quot;.
كانت بوابة السينما مكتظة ببائعي السميط والعلوجة واللبلبي والفستق والحب والحمص والجكاير quot;أم الزبانةquot; وسيكارة غازي (التي نظم في مدحها الشاعر الكبير معروف الرصافي في شيخوخته عندما اضطر إلى إعالة نفسه وإعالة خادمه عبد بن صالح مع زوجته وبناته العديدات، اللواتي كن يأكلن الطعام والفواكه التي كانت ترسل إلى الرصافي، بفتحه دكان في الأعظمية لبيع السجاير وأوصى الأديب أنور شاؤل به خيرا عند آل طبارة أصحاب معمل السجاير، أتذكر هذينالبيتين منها والذهن خوان، فكل ما اكتبه هنا هو من الذاكرة:
quot;دخن سكارَةَ غازي / في وقفة واجتياز //وجازني بالشكر / إن كنت ممن يجازيquot;)،
وكل واحد منهم يناغي على بضاعته، من لذة ولذيذة، لذة العلوجةquot; والى quot;سيفون بارد أيخلي العجوز أطاردquot;. دخلنا القاعة الواسعة والضوضاء فيها يشق عنان السماء ودخان السجاير كثيف يدمع العيون ويكاد يعمي الأبصار، والبائعون يناغون على بضاعتهم، والصفير يتعالى لكي يبدأ تشغيل الفيلم، فإذا بشاب يعتمر سيدارة أفندي يقترب من الصفوف الأمامية quot;أم القرانquot; (التي ثمن تذكرتها 20 فلسا)، ويقوم كالخطيب الخطير أيام مجد بغداد في مقامات البلغاء، أمام السلاطين والخلفاء، وأخذ يشير بيديه بحماس بنصيحة غالية فهمت منها انه quot;يحث الرجال على ألا يتعودوا على الكسل، لأن هناك شيئا عند النساء أحلى من العسلquot;. فضجت القاعة بالضحك والتصفيق والصفير، وضحكت النساء بغنج ودلال ولمعت أسنانهن الذهبية من وراء البوشي أو فتحة العباية، واختلجن وهن يلكزن بكوعهن الرجال بمحاذاتهن. واليوم صرت أدرك فعل هذه النصيحة السحرية في كثافة السكان في العراق، فقد كان عدد سكانها في 1947 حوالي 5 ملايين نسمة، أما اليوم فهناك ما يقارب من الثلاثين مليون نسمة. ويتباهى العرب بالنسبة العالية لتكاثر السكان في الشرق أمام تقلص سكان أوروبا الباردين العنينين. وتفاخَرَ أبو عمار بأن قنبلته الذرية هي رحم النساء الشرقيات، فلماذا إذن ينهب أحمدي نجاد خيرات الشعب الإيراني لإنفاقها على سلاحه الذري لإبادة الآخرين والاستيلاء على ثرواتهم؟ ولماذا لا ينفقها على فقراء المسلمين والأرامل والأيتام والمساكين لوجه الله. أليس أرامل المسلمين وأيتامهم أحق بهذه الثروات التي احترقت في الحروب العراقية - الإيرانية والسطو على الكويت الشقيقة المسالمة، وإشعال النيران في آبار النفط التي لو أنفقت على المسلمين لما عانى أي مسلم في العالم من الأمراض والفاقة والجهل، وحقق مقولة العارفين بأسرار الثواب والعقاب بأن الله مَنّ على العرب بخيرات الذهب الأسود وجعل الأعاجم خدما quot;لخير أمة أخرجت للناسquot;. فلماذا إذن بناء المفاعلات الذرية التي سوف لا يسمح الغرب بإنجازها وتهديد دول الجوار العربية والسيطرة على آبارها؟ فها نحن نرى كيف تسقط الدول الأوروبية الواحدة وراء الأخرى بيد المؤمنين كالثمرة الحبلى الناضجة بدون حشد الجيوش وعناء الحروب والمعارك، quot;وكفى الله المؤمنين القتالquot;.
وبعد الصفير وquot;يالله متشغل عادquot;، ساد الظلام القاعة، فشعرت بالصديقتين تميلان نحوي بصدريهما وتمسكان كل واحدة بيد من يديّ، وبدأ فلم الأخبار عن اندحار المحور أمام جيوش الحلفاء الظافرة بعد أن دمر ثعلب الصحراء الجنرال البريطاني مونتيجومري الفيالق النازية في شمال أفريقيا بعد معركة العلمين (1942) وصمود بريطانيا أمام قصف الجزر البريطانية بالصواريخ وطائرات المسرشمدت الألمانية(1943)، فأصبحتشرشل بطل العالم الحر وظهر في كل أفلام الدعاية البريطانية وهو يرفع إصبعيه بعلامة النصر، وشاهدناه وهو يخطب خطبه الحماسية، والشباب القومي المعادي للإنكليز من بين المشاهدين، يكيلون له أقذع الشتائم ويحرقون الأُرَّم، وخشيت أن يكتشف هؤلاء هويتنا اليهودية التي كانت تبدو من ثيابنا الأوروبية، وانتاب الصديقتين شعور بالقلق. وكانت تعليقات المشاهدين السمجة على الرواية وضوضائهم المزعجة مع كل موقف غرامي أو قبلة، تقرع الآذان، عند ذاك يتعالى الصياح quot;ولك عيب، ولك بس عادquot; والكبار يحرضون تيرون باور بقولهم، quot;إي عفيا، ولك صخهاquot;. كل هذا الجو كان لا يساعد على الاندماج في أحداث الرواية. وكل ما فهمته من هذا الفيلم الذي ألهب مشاعر العراقيين آنذاك، أن quot;الولدquot; أي البطل (ويلعب دوره تيرون باور)، أحب راقصة quot;مْلـََعْبَةquot; هي ريتا هايورت، فجاءت زوجته quot;الخايبةquot; تتضرع إليها أن تتركه لها فليس لها غيره، بينما الرجال يحومون حول الراقصة quot;مثل الزنابير على الدبسquot;، فتتظاهر الراقصة بعدم تشجيعها له وتبعده عنها وهي تشد شعره وهو راكع أمامها. هذا المنظر المثير ضاعف الهتاف والصفير، وحماس المشاهدين، وأتاح للفتاتين فرصة الضغط علي يديّ ودفع أكتافي بصدريهما لشدة انفعالهما من هذا الجو الغرامي المائع وسطموسيقى ورقصات ريتا هايورث الأفعوانية الساحرة، والمثقفون من بين المشاهدين يرددون معها بالإنكليزية: quot;أ ُو بُوي، بُتْ ذِي البْليم أونْ مِيمquot;.
وقد كنا اسعد حالا في ذلك المساء من غيرنا، ففي سينما أخرى حضر رئيس إحدى القبائل الجنوبية مع حرسه (التفاكته) وحاشيته، فلما شاهد البطلة تنزع ثيابها أمام خليلها، غضب غضبة مضرية لانتهاكها حرمة العفاف، فما كان منه إلا أن سدد مسدسه إلى البطلة على الشاشة وأطلق عليها الرصاص تأديبا لها وانتقاما لانتهاكها حرمة خدرها المصون وعدم محافظتها على قواعد العفة والأخلاق الكريمة. وقد أصابه الهلع حين استمرت في فعلتها الشنيعة ولم تسقط مضرجة بدمائها عبرة لمن يعتبر.
انتهى الفيلم بالسلام الملكي، ولم يقف له المشاهدون احتراما، بل كان بالنسبة إليهم، إيذانا بانتهاء العرض فحسب. وعندما خرجنا إلى ضوء النهار، أحسست بأني اطرد من الجنة، واستيقظ على واقع حالك مختلف عن قصور الخيال التي بنتها لنا صناعة السينما الهوليوودية. خرجنا إلى زحام الشارع، فاستنشقنا نسيم دجلة العليل بعد حر القاعة ودخانها الأزرق، ولم تجد نصائح اللافتات: quot;البصاق ممنوعquot; و quot;التدخين ممنوعquot; وquot;حافظ على النظافةquot; في الكف عن إتيان هذه المحظورات، فقد كانت مثل إشارات المرور في بعض المدن العربية، مجرد توصية، quot;والسائق هو ووجدانهquot;. تركنا مقاعدنا ونحن نتعثر بقناني النامليت والسيفون وقشور البرتقال وأكياس الورق الفارغة، ونفايات الحب والحمص تتكسر تحت أحذيتنا. وهب نسيم دجلة الصافي العليل على وجوهنا، وسرنا في طريقنا إلى البتاويين، فراودني شعور بالإثم من عدم حفظي دروس التاريخ جيدا، وخوفي من تحقيقات الوالد، حول أين كنت؟ ولماذا تأخرت؟ وبأي عذر وَاه ٍ كخيوط العنكبوت أتشبث به؟ ولكنها كانت أيام الصبا، كحلم وردي مر في خاطري وأحاول أن أعلل النفس بصياغته مرة أخرى، وأنا أعجب كيف تنثال عليّ الذكريات شوقا إلى مسقط رأسي، وquot;يا وطني وريحة أمي بيكquot;، وهل كنت سأكون اسعد حال من أولائك الذين لا يتذكرون شيئا من ماضيهم أو يتذكرون ولا يستطيعون التعبير عن ذكريات ماضيهم، ويعيشون في الحاضر فقط؟ وبذلك يتخلصون من نقد النقاد المتفقهين أو الحاقدين الذين يدسون أنوفهم فيما لا يفقهون، ويتخذون موقف الموجهين القوميين والمنافحين عن آرائهم السلفية التي أدت إلى كل هذه المصائب والفتن الدينية والمذهبية، والله أعلم!
وأنا اليوم أعجب كيف تحرص الأقدار في الحروب والكوارث والمذابح على أن يبقى شخص واحد على الأقل ليكون شاهد عيان، ويستطيع أن يروي حوادث الزمان، على ظلم وهمجية الإنسان نحو أخيه الإنسان، quot;عبرة لأولي الألبابquot;.
كانت بوابة السينما مكتظة ببائعي السميط والعلوجة واللبلبي والفستق والحب والحمص والجكاير quot;أم الزبانةquot; وسيكارة غازي (التي نظم في مدحها الشاعر الكبير معروف الرصافي في شيخوخته عندما اضطر إلى إعالة نفسه وإعالة خادمه عبد بن صالح مع زوجته وبناته العديدات، اللواتي كن يأكلن الطعام والفواكه التي كانت ترسل إلى الرصافي، بفتحه دكان في الأعظمية لبيع السجاير وأوصى الأديب أنور شاؤل به خيرا عند آل طبارة أصحاب معمل السجاير، أتذكر هذينالبيتين منها والذهن خوان، فكل ما اكتبه هنا هو من الذاكرة:
quot;دخن سكارَةَ غازي / في وقفة واجتياز //وجازني بالشكر / إن كنت ممن يجازيquot;)،
وكل واحد منهم يناغي على بضاعته، من لذة ولذيذة، لذة العلوجةquot; والى quot;سيفون بارد أيخلي العجوز أطاردquot;. دخلنا القاعة الواسعة والضوضاء فيها يشق عنان السماء ودخان السجاير كثيف يدمع العيون ويكاد يعمي الأبصار، والبائعون يناغون على بضاعتهم، والصفير يتعالى لكي يبدأ تشغيل الفيلم، فإذا بشاب يعتمر سيدارة أفندي يقترب من الصفوف الأمامية quot;أم القرانquot; (التي ثمن تذكرتها 20 فلسا)، ويقوم كالخطيب الخطير أيام مجد بغداد في مقامات البلغاء، أمام السلاطين والخلفاء، وأخذ يشير بيديه بحماس بنصيحة غالية فهمت منها انه quot;يحث الرجال على ألا يتعودوا على الكسل، لأن هناك شيئا عند النساء أحلى من العسلquot;. فضجت القاعة بالضحك والتصفيق والصفير، وضحكت النساء بغنج ودلال ولمعت أسنانهن الذهبية من وراء البوشي أو فتحة العباية، واختلجن وهن يلكزن بكوعهن الرجال بمحاذاتهن. واليوم صرت أدرك فعل هذه النصيحة السحرية في كثافة السكان في العراق، فقد كان عدد سكانها في 1947 حوالي 5 ملايين نسمة، أما اليوم فهناك ما يقارب من الثلاثين مليون نسمة. ويتباهى العرب بالنسبة العالية لتكاثر السكان في الشرق أمام تقلص سكان أوروبا الباردين العنينين. وتفاخَرَ أبو عمار بأن قنبلته الذرية هي رحم النساء الشرقيات، فلماذا إذن ينهب أحمدي نجاد خيرات الشعب الإيراني لإنفاقها على سلاحه الذري لإبادة الآخرين والاستيلاء على ثرواتهم؟ ولماذا لا ينفقها على فقراء المسلمين والأرامل والأيتام والمساكين لوجه الله. أليس أرامل المسلمين وأيتامهم أحق بهذه الثروات التي احترقت في الحروب العراقية - الإيرانية والسطو على الكويت الشقيقة المسالمة، وإشعال النيران في آبار النفط التي لو أنفقت على المسلمين لما عانى أي مسلم في العالم من الأمراض والفاقة والجهل، وحقق مقولة العارفين بأسرار الثواب والعقاب بأن الله مَنّ على العرب بخيرات الذهب الأسود وجعل الأعاجم خدما quot;لخير أمة أخرجت للناسquot;. فلماذا إذن بناء المفاعلات الذرية التي سوف لا يسمح الغرب بإنجازها وتهديد دول الجوار العربية والسيطرة على آبارها؟ فها نحن نرى كيف تسقط الدول الأوروبية الواحدة وراء الأخرى بيد المؤمنين كالثمرة الحبلى الناضجة بدون حشد الجيوش وعناء الحروب والمعارك، quot;وكفى الله المؤمنين القتالquot;.
وبعد الصفير وquot;يالله متشغل عادquot;، ساد الظلام القاعة، فشعرت بالصديقتين تميلان نحوي بصدريهما وتمسكان كل واحدة بيد من يديّ، وبدأ فلم الأخبار عن اندحار المحور أمام جيوش الحلفاء الظافرة بعد أن دمر ثعلب الصحراء الجنرال البريطاني مونتيجومري الفيالق النازية في شمال أفريقيا بعد معركة العلمين (1942) وصمود بريطانيا أمام قصف الجزر البريطانية بالصواريخ وطائرات المسرشمدت الألمانية(1943)، فأصبحتشرشل بطل العالم الحر وظهر في كل أفلام الدعاية البريطانية وهو يرفع إصبعيه بعلامة النصر، وشاهدناه وهو يخطب خطبه الحماسية، والشباب القومي المعادي للإنكليز من بين المشاهدين، يكيلون له أقذع الشتائم ويحرقون الأُرَّم، وخشيت أن يكتشف هؤلاء هويتنا اليهودية التي كانت تبدو من ثيابنا الأوروبية، وانتاب الصديقتين شعور بالقلق. وكانت تعليقات المشاهدين السمجة على الرواية وضوضائهم المزعجة مع كل موقف غرامي أو قبلة، تقرع الآذان، عند ذاك يتعالى الصياح quot;ولك عيب، ولك بس عادquot; والكبار يحرضون تيرون باور بقولهم، quot;إي عفيا، ولك صخهاquot;. كل هذا الجو كان لا يساعد على الاندماج في أحداث الرواية. وكل ما فهمته من هذا الفيلم الذي ألهب مشاعر العراقيين آنذاك، أن quot;الولدquot; أي البطل (ويلعب دوره تيرون باور)، أحب راقصة quot;مْلـََعْبَةquot; هي ريتا هايورت، فجاءت زوجته quot;الخايبةquot; تتضرع إليها أن تتركه لها فليس لها غيره، بينما الرجال يحومون حول الراقصة quot;مثل الزنابير على الدبسquot;، فتتظاهر الراقصة بعدم تشجيعها له وتبعده عنها وهي تشد شعره وهو راكع أمامها. هذا المنظر المثير ضاعف الهتاف والصفير، وحماس المشاهدين، وأتاح للفتاتين فرصة الضغط علي يديّ ودفع أكتافي بصدريهما لشدة انفعالهما من هذا الجو الغرامي المائع وسطموسيقى ورقصات ريتا هايورث الأفعوانية الساحرة، والمثقفون من بين المشاهدين يرددون معها بالإنكليزية: quot;أ ُو بُوي، بُتْ ذِي البْليم أونْ مِيمquot;.
وقد كنا اسعد حالا في ذلك المساء من غيرنا، ففي سينما أخرى حضر رئيس إحدى القبائل الجنوبية مع حرسه (التفاكته) وحاشيته، فلما شاهد البطلة تنزع ثيابها أمام خليلها، غضب غضبة مضرية لانتهاكها حرمة العفاف، فما كان منه إلا أن سدد مسدسه إلى البطلة على الشاشة وأطلق عليها الرصاص تأديبا لها وانتقاما لانتهاكها حرمة خدرها المصون وعدم محافظتها على قواعد العفة والأخلاق الكريمة. وقد أصابه الهلع حين استمرت في فعلتها الشنيعة ولم تسقط مضرجة بدمائها عبرة لمن يعتبر.
انتهى الفيلم بالسلام الملكي، ولم يقف له المشاهدون احتراما، بل كان بالنسبة إليهم، إيذانا بانتهاء العرض فحسب. وعندما خرجنا إلى ضوء النهار، أحسست بأني اطرد من الجنة، واستيقظ على واقع حالك مختلف عن قصور الخيال التي بنتها لنا صناعة السينما الهوليوودية. خرجنا إلى زحام الشارع، فاستنشقنا نسيم دجلة العليل بعد حر القاعة ودخانها الأزرق، ولم تجد نصائح اللافتات: quot;البصاق ممنوعquot; و quot;التدخين ممنوعquot; وquot;حافظ على النظافةquot; في الكف عن إتيان هذه المحظورات، فقد كانت مثل إشارات المرور في بعض المدن العربية، مجرد توصية، quot;والسائق هو ووجدانهquot;. تركنا مقاعدنا ونحن نتعثر بقناني النامليت والسيفون وقشور البرتقال وأكياس الورق الفارغة، ونفايات الحب والحمص تتكسر تحت أحذيتنا. وهب نسيم دجلة الصافي العليل على وجوهنا، وسرنا في طريقنا إلى البتاويين، فراودني شعور بالإثم من عدم حفظي دروس التاريخ جيدا، وخوفي من تحقيقات الوالد، حول أين كنت؟ ولماذا تأخرت؟ وبأي عذر وَاه ٍ كخيوط العنكبوت أتشبث به؟ ولكنها كانت أيام الصبا، كحلم وردي مر في خاطري وأحاول أن أعلل النفس بصياغته مرة أخرى، وأنا أعجب كيف تنثال عليّ الذكريات شوقا إلى مسقط رأسي، وquot;يا وطني وريحة أمي بيكquot;، وهل كنت سأكون اسعد حال من أولائك الذين لا يتذكرون شيئا من ماضيهم أو يتذكرون ولا يستطيعون التعبير عن ذكريات ماضيهم، ويعيشون في الحاضر فقط؟ وبذلك يتخلصون من نقد النقاد المتفقهين أو الحاقدين الذين يدسون أنوفهم فيما لا يفقهون، ويتخذون موقف الموجهين القوميين والمنافحين عن آرائهم السلفية التي أدت إلى كل هذه المصائب والفتن الدينية والمذهبية، والله أعلم!
وأنا اليوم أعجب كيف تحرص الأقدار في الحروب والكوارث والمذابح على أن يبقى شخص واحد على الأقل ليكون شاهد عيان، ويستطيع أن يروي حوادث الزمان، على ظلم وهمجية الإنسان نحو أخيه الإنسان، quot;عبرة لأولي الألبابquot;.
(البقية في الفصل 45)
كتبت هذه الذكريات لتنشر في مجلة إيلاف/ جميع الحقوق محفوظة للمؤلف: لا يجوز نشر هذه الذكريات بأية صورة كانت بدون اتفاقية وإذن خطي من المؤلف. (أ.د./ شموئيل (سامي) موريه)
التعليقات