للموت معى قصص تراجيدية وأخرى كوميدية، ولنبدأ بالتراجيدى منها، فقد تعرفت إلى الموت لأول مرة وكان عمرى وقتها ثمان سنوات عندما فقدت شقيقتى الصغرى وصديقتى الوحيدة (وفاء) إثر حادث بشع ومازلت أفتقدها حتى اليوم، وأصبح بينى وبين الموت عداء مستحكم، وكان لى مواجهة أخرى مع الموت فى مطلع شبابى أثناء حرب أكتوبر عام 1973 عندما واجهت الموت ثلاث مرات (نجوت منها بحمد الله) ولم أكن أخشى الموت بتاتا أثناء تلك الحرب ولكن بكل صراحة خشيت أن أخرج من الحرب بعاهة مستديمة، والحمد لله لم يحدث هذا أيضا (إلا إذا إعتبرنا أن إيمانى بالسلام والحرية بعد تلك الحرب يعتبر فى حكم العاهة المستديمة!!).
أما الجانب الكوميدى من الموت فقد كان يتمثل فى أن أوائل النكات التى سمعتها فى طفولتى كانت نكات عن الموت، وبالرغم من سذاجة بعض تلك النكات إلا أنها كانت تساعدنى فى محاولتى الطفولية للسخرية من الموت والتغلب عليه، وسوف أحكى لكم ثلاث من تلك النكات وأرجو ألا يتهمنى أحد القراء بأنها قديمة (لأنها قديمة بالفعل)، وهى فى قدمها مثل أفلام إسماعيل ياسين والتى كنا نشاهدها بشغف وترقب حتى الآن (بالرغم من أنها تبدو ساذجة لأبناء الجيل الحالى):
تقول النكتة الأولى: أنه اثناء أحد الحروب وقف رجل لا يحمل اى سلاح ولا تبدو عليه علامات الجندية ينادى بكل حماس لقوات الجيش من الخطوط الخلفية: quot;موتوا فى سبيل الوطن موتوا فى سبيل اللهquot; ، فلاحظه أحد الجنود وأعجب بحماسه، وسأله:
- هو الأخ مش معانا فى الجيش ؟
- لأ ..
- إمال حضرتك بتشتغل إيه؟
- حانوتى!!

...

وتقول النكتة الثانية:
أنه كان هناك مجموعة من الناس تسير فى جنازة ويتحرك أمامها نعشا يحمل الميت، وفجأة بدأت الأمطار فى الهطول، وبدا المشيعين ينسحبون من الجنازة واحدا تلو الآخر، ولم يبق سوى أربعة أفراد يحملون النعش، ومع زيادة شدة الأمطار قرر هؤلاء الأربعة وضع النعش فى عرض الطريق وهربوا من الأمطار، وهنا فتح الميت النعش وعلق قائلا:
- أنا الحق علىّ إللى بأمشى مع عيال!!

...

وتقول النكتة الثالثة:
أنه كانت هناك جنازة تعبر شريط القطار عندما إقترب القطار فجأة من الجنازة فما كان من المشيعيين إلا أنهم تركوا النعش على شريط القطار وفروا هاربين ناجين بحياتهم، ونجح سائق القطار فى إيقاف القطار بمتر واحد قبل النعش، وتصادف مرور إثنان من الحشاشين وشاهدوا هذا المشهد،فقال أحدهم للثانى:
- أهو الميت ده إنكتب له عمر جديد!!

...

ولقد قكرت كثيرا فى الموت على إعتبار انه حتمية إلهية ومافيهاش أى فصال، وكان أكثر ما يزعجنى فى الموت هو أنه يهاجم أى شخص وفى أى وقت، يعنى مثلا لايطرق الباب و لايمكن التنبوء به مثل التنبؤ بالأرصاد الجوية، وصدق الله تعالى عندما قال:quot; وأينما تكونوا يدركم الموت ولو كنتم فى بروج مشيدةquot;.
وفى نهاية فترة مراهقتى وفى بداية شبابى سبب لى كثرة التفكير فى الموت المرور بحالة من العبثية على أساس أنه ما دمنا سنوت فلماذا أذهب للجامعة ولماذا أتطلع لحياة تعيسة ونهايتها أكثر تعاسة، ولماذا لا أستسلم أمام هذا الوحش الجبار والذى يأخذ منى أحبابى الواحد تلو الآخر وفى نهاية الأمر سوف يأخذنى أنا أيضا وقد يحدث هذا أثناء كتابتى هذا المقال، فإن حدث هذا ياعزيزى القارئ، فلن يسعدك الحظ بقراءة هذا المقال، لاننى أعتقد بان الورثة لن يعنيهم إرسال مقالى هذاإلى الجريدة الإلكترونية، ولكن قد يكونوا مشغولين بحصر التركة!!.
وأعتقد أن الشباب الإنتحارى فى باكستان وأفغانستان والعراق والصومال وغيرها قد وصلوا إلى قناعة فلسفية عميقة وهو أنهم بدلا من إنتظار الموت لماذا لا يأخذون أرواحهم بايديهم وعلى رأى المثل (بيدى لا بيد عمرو)، وخاصة إذا أقنعهم بعض المشايخ بأن الدنيا فانية وأن كلنا لها وأنهم سوف يحشرون مع الشهداء للإستمتاع بالحور العين، وأن جنة الخلد هى أمل كل مؤمن، ولكن هؤلاء الفتيان قرروا مواجهة الموت بطريقة شكسبيرية عميقة لن يفهمها إلا من تعامل مع الموت، فأنا على سبي المثال احاول أن أتعامل مع الموت بطريقة كوميدية، ولكنهم يتعاملون مع الموت بطريقة ترجيدية بطريقة: quot;داونى بالتى كانت هى الداءquot;، فلقد واجهوا الموت بالموت نفسه.
وقديما قرر المصريون القدماء مواجهة الموت بفكرة الخلود، وإعتبروا ان الحياة الدنيا ما هى إلا حياة مؤقتة وأن حياة الخلود هى حياة ما بعد الموت وهى الحياة الحقيقية حتى أنهم إخترعوا التحنيط للإحتفاظ بالجثث لآلاف السنين وإخترعوا مراكب الشمس والتى سوف تنقل الناس بعد الموت إلى حياة الخلود، ثم جاءت الأديان السماوية وأكدت فكرة الحياة بعد الموت وانها حياة الخلود. وإعتبر الكثير من المتدينين الأكثر تشددا أن الإستعداد للحياة بعد الموت هو قمة العبادة، وإهملوا الحياة الدنيا والتى نعيشها وكأن الله قد خلقنا لكى نموت بدون ان نجرب متعة الحياة نستمتع تارة ونخطئ تارة أخرى ونجرب كل مشتهيات الحياة وعظمتها ومآسيها،وبمنسبة مآسى الحياة:
واحد بيقول لواحد:
- والله ياأخى الدنيا دى كلها مآسى
- ليه إنت (مآسك) كام؟!!

...

... وبالنسبة لى ومع تزايد عدد من فقدت من الأحباب فقد قررت مواجهة الموت بالضحك عليه ومنه، وبل وأحيانا أطلع له لسانى. وأذكر أنه ونحن فى السنة الأولى فى الجامعة (وكنا لا نزال فى فترة المراهقة) أن توفى شقيق لزميل لنا فى حادث سيارة، وذهبنا مجموعة من أصدقاء الجامعة لزيارة زميلنا وتعزيته لوفاة شقيقه الشاب، وكانت تلك اول مرة فى حياتى أن أذهب لأداء واجب العزاء، وكنا شلة من مشاغبين الفصل الدراسى، كنا نسخر من أى شئ ونضحك على أى شئ، حتى لوكان الموت نفسه، ففى سرداق العزاء بدأنا الغمز واللمز وكنا نتصرف كمجموعة من المراهقين (البايظين) الذين لا يحترمون العزاء وبدأ الضحك المكتوم يخرج عن كونه ضحكا مكتوما، حتى أن صديقنا (شقيق المتوفى فى الحادث) لم يستطع الجلوس معنا بعد ان نجحنا فى إضحاكه هو نفسه وهو فى قمة حزنه، ولكنه طلب منا الإنصراف إحتراما للآخرين، وبالفعل إنصرفنا، وعاد صديقنا فى اليوم التالى يشكرنا على أننا خففنا عنه حدة الموت والصدمة.
صدقنى عزيزى القارئ، إنتهز أى فرصة وإضحك ملء قلبك، حتى لو كان الضحك بدون سبب، ولا تصدق أن :quot;الضحك من غير سبب قلة أدبquot; ولا تصدق أن هناك ضحكا هادفا وضحكا غير هادف، فالضحك هو هدف فى حد ذاته.

[email protected]