في ستينات القرن الماضي تساءل الاديب الفرنسي الكبير اندريه مالرو quot; هل سيضحى القرن الحادي والعشرين قرنا دينيا ام لا quot; والثابت ان مالرو الذي رحل في 23 نوفمبر 1976 لم يقدر له ان يجيب على تساؤله بنفسه سيما منذ انفجار الثورة الاسلامية الايرانية وصولا الى حالة الهوس الديني التي يعيشها العالم في حاضرات ايامنا والتي يصعب معها تحديد ما اذا كان الامر مجرد حالة من حالات التدين المفرط ام الهروب الى مرفا الدين وقولة جورج برنارد شو حاضرة على الدوام quot; عند العاصف يهرب الانسان الى اقرب مرفا quot; وليس اقرب من الدين وغيبياته الى الانسان من مرفا سيما في زمن العولمة الذي اسقط الحدود والغي السدود ولهذا ذهب الامين العام الاسبق للامم المتحدة الدكتور بطرس غالي للقول ان المواطن quot; المتعولم quot; يجد خلاصة مما يضايقه في اللامبالاة او بالتقوقع على نفسه او اللجوء الى الدين فهذا هو ديالكتيك القمر الصناعي وبرج جرس الكنيسة في الغرب وفي العالم العربي هو جدل القمر ذاته والمئذنة.
وباختصار القول اضحى القرن الحادي والعشرين ليس قرنا دينيا فقط بل قرن مغرق بالدين طولا وعرضا وعلى غير المصدق ان ينظر الى عدة مشاهد معاصرة انية واخرى تبعد عنا سنوات قليلة كانت وستظل سببا واعدا ومن اسف لمثالب لا قبل للانسانية بها.
وليس ادل على الانفجار الديني اليميني مما جرى في الولايات المتحدة الامريكية في السنوات الثماني الماضية ومن جراء المد الانجيلي الاصولي باذرعه المختلفة فعلى سبيل المثال فان اكثر من ثلثي ال 70 مليون انجيلي امريكي قد اقترعوا لصالح جورج بوش عام 2004 وسرى تاثير ذلك التدين حتى على علماء وكالة الفضاء الامريكية ناسا من خلال التحالف المسمى quot; المبادرة المناخية الانجيلية quot; اعلى المحافل المنهمكة بانقاذ الخلق.
ومن اسف فان 77% من هؤلاء الانجيليين وتحت ضلالات التفسير والتاويل الخاطئة دعموا حرب العراق واعلنوها حربا عادلة مثل جماعة quot; التوافق المعمداني الجنوبي quot;.
ويبقى الدعم الامريكي لاسرائيلي في بداية الامر واخره ديني الهوى والتوجه فهو اساسي بنظر اولئك الانجيليين الذين يعتبرون ان عودة اليهود الى فلسطين هو الشرط الاول لعودة المسيح وهو دعم مشترك بين الجمهوريين والديمقراطيين مما يجعل امكانية تبادل اصوات هؤلاء الانجيليين ممكنة.
والشاهد ان اكلاف الاغراق والهوس الديني في فترة بوش ربما كانت كفيلة باصابة تلك التجربة سيما في امريكا في مقتل لكن الذين تابعوا انتخابات الرئاسة الامريكية الاخيرة وبالتحديد الخطاب الذي القاه سيناتور الينوي الشاب باراك اوباما في quot; كنيسة المسيح quot; بتاريخ 25ـ 6 المنصرم يدرك ان بالونة التدين اخذه في التمدد على عكس المتوقع وهذا ما اشارت اليه صحيفة الهيرالدتربيون في ذات اليوم حيث دعا اوباما للاعتماد على الدين في حل كافة مشاكل الحياة خاصة السياسية منها منتقدا في الوقت ذاته من قالوا انهم يجعلون الدين وسيلة لتفريق الشعب الامريكي بدلا من تجميعه quot;.
ومن المسيحية الامريكية الى اليهودية الاسرائيلية وما جرى في حرب غزة الاخيرة عندما اكد اهم الحاخامات الشرقيين والزعيم الروحي لحركة شاس عوفاديا يوسف في عظته نهار السبت 24ـ 1 ان الام راحيل والدة النبي يوسف جاءت لمساعدة جنود اسرائيل في غزة ومضيفا quot; وصل الجنود الى منزل واردوا الدخول اليه وكان هناك ثلاثة من حماس في الداخل ينتظرون لكن ظهرت امراة جميلة شابة امامهم وحذرتهم بالا يدخلوا البيت حيث يوجد فيه من اسماهم بالارهابيين وعندما سالها الجنود من انت فردت لماذا الاهتمام بمن اكون وهمست انا راحيل ولاحقا تبين فعلا وجود مقاتلين من حماس في البيت quot;.
وقد اشارت صحيفة يديعوت احرنوت الى ان الحاخام الاكبر الشرقي لاسرائيل quot; موردخاي الياهو quot; قد صلى عدة مرات منذ وقت قريب على قبر راحيل داعيا لحماية جنوده وعندما سئل عن الشائعة قال: quot;هذا صحيح انا ارسلتهاquot;.
ورغم ان الحاخام شلومو افينار quot; قد شكك بهذه القصة وقال على مدونته quot; المغفل يمكن ان يصدق اي شئ فان الشائعة كانت قد عمت كافة ارجاء اسرائيل ولم يتوقف احد بالتساؤل اذا كانت راحيل قد حاربت الى جانب جنود اسرائيل فلماذا قتل منهم من قتل واصيب من اصيب؟
وعلى الجانب العربي والاسلامي لم يكن الحال افضل بكثير بدءا من تلاعب حكيم امريكا المعاصر زيجينو بريجنسكي على وتر الايمانيات غداة استقباله في البيت الابيض لمقاتلي طالبان في ثمانينات القرن المنصرم والذين اطلق عليهم وقتها quot; المقاتلون الاحرار quot; اذ كان الرجل يدفعهم دفعا لاتون الحرب مع السوفيت تحت ذريعة quot; ان الله معكم وسينصركم quot; وصولا الى الصراع الدوجمائي الاكبر الذي تعيشه المنطقة بين ايران التي تنتظر المهدي المنتظر الذي سيخلص العالم من الشرور والذي تستغله جيدا في دفع الامور الى حافة الهاوية حتى ولو مات اهل غزة كلهم وبين القائلين في الصدامات الاخيرة مع اسرائيل ان النصر الالهي يتحقق للعرب والمسلمين من جديد.
ولعل التساؤل هل الدين كما قال كارل ماركس هو افيون الشعوب ام ان هناك بالفعل مفاهيم وشروحات افيونية للدين؟
في مقال بديع له يكتب مؤخرا الاديب الايطالي الكبير quot; امبيرتو ايكو quot; تحت عنوان كوكايين الشعوب... يوحد ام يفرق quot; يقول ان السر الكبير والاهمية القصوى للانظمة الملكية يكمنان في ابقاء الناس مخدوعين واخفاء الخوف المستعمل لاخضاعهم تحت غطاء مضلل هو الدين وذلك ليكافحوا في سبيل ما يربطهم وكانه يشكل خلاصهم وعنده ان قوام النازية شمل عبارة quot; الرب معنا quot; وحشود الكهنة باركوا رايات الفاشيين كما اعتمد فرانكو على المبادئ الدينية وجيوش المسيح.
ولعل التساؤل الحقيق بالتوقف امامه هل الاديان مصدر للنزاع وجوهر للاصوليات حول العالم؟
عند الكاتب البرتغالي quot; خوسي ساراماغو quot; الذي بقى يشجب الدين على انه مصدر للنزاع انه لن ينجح اي دين يوما من دون استثناء في الجمع بين الناس وحثهم على المصالحة بل انه على العكس كان ولا يزال يسبب المعاناة والمجازر واعمال العنف الجسدية والروحية الوحشية التي تعجز الكلمات عن وصفها وتشكل اكثر الحقبات ظلمة في تاريخ البشرية البائس quot; وفي موقع اخر استنتج ساراماغو انه quot; لو كان الجميع ملحدين quot; لعشنا في مجتمع اكثر سلاما quot;.
بما يدلل الرجل على صدق حديثه؟
اضافة الى الامثلة المتقدمة التي اشار اليها quot;امبيرتو ايكوquot; هناك شواهد تاريخية اخرى يقول بها مثل المشاعر الدينية العميقة التي الهمت المشاركين في ثورة quot; فانده quot; في نزاعهم ضد الجمهوريين الفرنسيين الذين جعلوا المنطق وسيلة للحكم والها لهم، ومثل الكاثوليك البروتستانت الذين ارتكبوا المجازر ضد بعضهم لسنوات طويلة.
ويرى كذلك ان دوافع دينية حفزت الصليبين واعداءهم وان الرومان دافعوا عن معتقداتهم الدينية عبر رمي المسيحيين الى الاسود وان اسبابا دينية عللت احراق الكثيرين، كما ان مشاعر دينية متطرفة الهمت الاصوليين والاسلاميين والمسؤوليين عن هجمات 11 سبتمبر واسامة بن لادن وحكومة طالبان التي قصفت اصناما لبوذا وان نزاعا قائما منذ امد بعيد بين الهند وباكستان لاسباب دينية وان الرئيس بوش في نهاية المطاف اطلق عبارة فليبارك الله بلادنا ومن يدافع عنها.
هل يتفق ايكو في ماركس في كينونة الدين الافيونية ان جاز التعبير؟ المثير جدا ان المفكر الايطالي يتجاوز ذلك الى يقين انه اذا كان الدين او لا يزال في بعض المرات افيون الشعوب الا انه في مرات اكثر كان كوكايين الشعوب بل لربما كان الانسان نفسه حيوانا مخدرا.......... هل المفاضلة اذن بين الافيون او الكوكايين ووصم الاديان باي منهما؟
الجواب بالنفي المطلق فالاديان وجدت لهداية الانسان عبر ارقى المثل وارفع الاخلاقيات وانبل الغايات واقدسها، فالسبت وجد للانسان وليس الانسان للسبت لكنها التفاسير الافيونية والكوكائينية ان جاز التعبير هي التي لعبت بعقل الانسان لغايات ومصالح قصيرة النظر كانت وبالا ولا شك على الانسان والانسانية وبذلك بات الدين وبحسب عالم الاجتماع الشهير ماكس فيبر هو quot;تنهد الانسان المقهور وحرارة عالم بلا قلب quot;.
هل نحن امام الاجابة لتساؤل اندرية مالرو؟
يبدو ان ذلك كذلك لكنها اجابة ضلت سواء السبيل وسلكت في دروب الانتقاء العنصري للدين والتدين في ما يشبه هلوسات متعاطي الافيون عند ماركس وانتشاء مدمن الكوكائين عند ايكو.
على ان الدين الحقيقي يبقى فلسفة تحض على مكارم الاخلاق ونشر العدالة وسيادة قانون المحبة الاسمى غير ان هذه لا مكان لها في زمن العولمة المتوحشة التي ارادت ولا تزال تفريغ العقول عبر قراءاتها وحيلها المتجزئة للمفاهيم الدينية وتسخيرها لخدمة اغراضها الدنيوية حيث مفاهيم الهيمنة والسيطرة والربح والخسارة هي السائدة ولهذا لم يكن غريبا ان يبدا البيورتانيون الاوائل الذين استعمروا امريكا وارتكبوا ضد سكانها المجازر دفاترهم المحاسبية بعبارة quot; باسم الله والربح quot; والعهدة هنا على الراوي الكاتب الامريكي جون ستيل جوردون في كتابه quot; امبرطورية الثروة quot;.
افيونية الدين وكوكائينيته اذن باتت الشر المستطير والتوابع الناجمة من جراءهما لن تجعل انسان القرن الحادي والعشرين يهنأ بقادمات ايامه حيث العمل يجري على قدم وساق في صراع اصوليات مريرة وانتكاسه للعلمانية بعدما تجلت في سماوات القرن العشرين غربا وكاد الشرق يلحق بها لولا الردة الفكرية التي انطلقت ابان الحرب الباردة واستخدمت الاديان كاداة في صراعها ولم تكن تدري ان السحر سينقلب لاحقا على الساحر لتدفع الاديان ثمنا لتلاعب الانسان بجوهرها ومخبرها ولا يتبق للبشر سوى مظهرها الذين يراد به خداع الناس وتسخريهم في عبودية لا علاقة لها بمجد الله والذي هو الانسان الحي.
كاتب مصري
[email protected]