مرت في 14 أيار (مايس) الذكرى الواحدة والستين للنكبة لتذكرنا بواحدة من الجرائم الكبرى التي ارتكبتها الدول الغربية في الفترة الاستعمارية. وقد تفاعلت إرادات هذه الدول مع تأخر المجتمعات العربية وتخلف (وتفرق) قياداتها لإنجاح المخططات الصهيونية الجهنمية. ولا زالت نتائج النكبة المباشرة وغير المباشرة تسمم حياة العرب والمسلمين بشكل عام وحياة الشعب الفلسطيني بشكل خاص. وقد لعبت فكرة quot;الشعب اليهوديquot; الذي حُرم من أرض يقيم عليها دولته دوراً أساسياً في هذه المخططات. وبعد فترة تردد، تم اختيار فلسطين لتقام عليها هذه الدولة. على هذه الفكرة قام أيضاً وعد اللورد بلفور، وزير الخارجية البريطاني، في 2/11/1917، أي قبل جرائم النازية بحق يهود أوربا بأكثر من عشرين عاماً. وعليها استند كذلك إعلان قيامها (إيرتز إسرائيل، حيث ولد الشعب اليهودي) وذلك بعد فشل الدول العربية المخزي أمام المنظمات الصهيونية المسلحة التي استمرت في حربها، هذه المرة، كدولة ضدهم. وتعبر صحيفة اللوموند الفرنسية، كإحدى كبريات الصحف الغربية، عن الفكر السائد بين الطبقات السياسية والثقافية في أوربا حول شرعية الشعب اليهودي وطموحاته حيث علقت افتتاحيتها على هذا الإعلان بقولها quot;بعد ألفي سنة من الخروج، يحقق الشعب اليهودي ثانية استقلاله في بلد أجداده... إن ولادة دولة إسرائيل الجديدة هي حصيلة العرق والدم والدموع [اليهودية طبعاً] وإنجازات مقاتلي الهاغانا ومتحمسي الأرغونquot;. (افتتاحية 16-17/5/1948، انظر عدد 15/5/2009، الملحق بمناسبة صدور العدد 20.000).
وفي أيامنا هذه وفي إطار اعتماد الخطاب السياسي الإسرائيلي لفكرة quot;الشعب اليهوديquot; وحق إسرائيل في الوجود، يأتي إصرار رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتانياهو على اعتبار إسرائيل دولة يهودية، كشرط للدخول في المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية، تأكيداً لهذه الفكرة وتعبيراً عن تخوف بعض قيادات الطبقة السياسية من تعاظم نسبة العرب التي تبلغ حالياً خمس السكان الى الأغلبية في العقود القليلة المقبلة. وكما يعمل المتطرفون الإسرائيليون على منع تحقيق السلام للحفاظ على يهودية الدولة ومنع تزايد الفلسطينيين في مواقع السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، رغم تواضعها طبعاً، كذلك يساهم بعض المتطرفين العرب، عن قصد أو بدونه، في إبعاد هذه اللحظة وإبقائنا في حالة الحرب المتقطعة وغير المعلنة وهي مضرة بالفلسطينيين وغير مرغوب فيها عربياً على كل حال.

الوهم المؤسس لدولة إسرائيل
وبالنسبة لوهم quot;الشعب اليهوديquot;، قام شلومو ساند، وهو أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب منذ أكثر من عشرين عاماً، بدراسة وتمحيص الكتب التاريخية الصهيونية ومقارنتها بمصادر التاريخ العام حول موضوعات اليهود في التاريخ وأثبت في أبحاثه أن فكرة quot;الشعب اليهوديquot; قائمة على أوهام أكثر منها حقائق تاريخية. وقد ثبّت هذه النتائج في كتاب صدر له في فرنسا بعنوان quot;كيف تم اختراع الشعب اليهوديquot; (دار فايارد 2008) ويعبر هذا العنوان، بجرأة واضحة، عن النتائج التي توصل إليها. وقد نشرت صحيفة اللوموند (عدد 5-6/4/2009) مقالاً له يؤكد فيه أنه لم يأت بجديد، إنما قام بتمحيص المصادر للتحقق من الوقائع التاريخية وتنظيمها وفضح الأوهام التي ارتبطت ضمن عملية سياسية تهدف إلى تزييف الوعي وتحريك الناس في اتجاهات معينة. وذكر كمثل على ذلك أن كل كتب التاريخ في إسرائيل تبين أن quot;الشعب اليهوديquot; هاجر من وطنه بعد هدم المعبد، في القرن الأول الميلادي، quot;بينما لا يوجد مصدر علمي واحد يبحث في هذه الهجرةquot;، نعم لقد قام الرومان بأسر المتمردين عليهم وأبعادهم quot;ولكن لم يهجروا واحداً من شعوب الشرق الأوسط وهذا ما يعرفه المؤرخون المتخصصون ويجهله عامة الناسquot;. وبيّن الكاتب، من جهة أخرى، أن النصوص المقدسة quot;لا تخلق شعوباً بل أديان وأن الكتاب المقدس لم يكوّن شعباً يهودياً كما أن تعميد كلوفيس [نهاية القرن الخامس] لم يخلق شعباً فرنسياًquot; لأن الشعب يعني مجموعة من الناس يتكلمون نفس اللغة وثقافة مدنية مشتركة. وأشار الى أن المفكر الفرنسي ريمون آرون أكد في مذكراته (ص 502 الطبعة الفرنسية) أنه quot;إذا كان من الممكن الكلام عن شعب يهودي فيجب أن يقتصر هذا المفهوم [أي الشعب] عليه وحسبquot;.
وفي رده على الناقد الفرنسي الذي اتهمه quot;بمعاداة الساميةquot;، ذكر المؤرخ الإسرائيلي أن الكتاب سجل مبيعات قياسية في إسرائيل وأثار نقاشات صاخبة ولكن لم يجرؤ أحد على اتهامه هناك بشي من هذا القبيل. مشيراً إلى أن باريس ليست تل أبيب لا للمزايدة على الفرنسيين بل للتذكير بأن عقدة معاداة السامية، كما المذبحة، إنما هي أداة سياسية يستخدمها الديماغوجيون، وتساءل في آخر رده الى متى يتم تبديد آلام اليهود الماضية، أي باستخدامها لهذا الغرض أو ذاك بدل الاستفادة من دروسها، مضيفاً quot;هنا يكمن، في نهاية التحليل، الخطر الحقيقيquot;.
وفي هذا المجال، ينبغي التذكير بكتاب مهم للفيلسوف الفرنسي المعروف روجيه غارودي (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية، باريس، 1966. 277 ص)، حيث ذكر فيه أمثلة أخرى مثل الوعد الإلهي، الشعب المختار، الخ. وقد تلقى هجمة شرسة من قبل أوساط ثقافية وسياسية عديدة في المجتمع الفرنسي، ولكن الذي يهمنا أكثر هو أنه خصص ملحقاً لاتجاه quot;المؤرخين الجددquot; في إسرائيل ومنهم الأستاذ موشيه زيمرمان، رئيس قسم الدراسات الألمانية في الجامعة العبرية في القدس (الغربية) ومتخصص باليهود الألمان والرايخ الثالث (فترة هتلر)، وقد أثار جدلا كبيرا بسبب تشبيهه الجنود الإسرائيليين المتطوعين للعمل في الضفة العربية بنظرائهم الألمان. وللعلم فان اتجاه المؤرخين الجدد تشكل في إسرائيل سنوات الثمانين بعد فتح الأرشيف، حسب قواعد الدولة الديمقراطية التي تطبق في هذا البلد مع مواطنيها اليهود وبالحدود التي نعرفها بالنسبة لعرب الداخل.

وأخيراُ، فان هذه الوقائع تفرض علينا الأسئلة التالية: 1/ تشكل هذه الدراسات في إسرائيل، دليلاً آخر على ما أود التنبيه إليه من أن البحث العلمي بمساهمته في كشف الحقائق الموضوعية يلعب دوراً في التقريب بين الأطراف المتنازعة. 2/ وفيما يخص البلاد العربية، هل سنستمر في محاصرتنا للبحث العلمي والفكر النقدي؟ أم سنسمح أخيراً لباحثينا العلميين والمختصين بممارسة دورهم في معالجة مثل هذه المواضيع وتفكيك العقلية السائدة بفحص عناصرها وعرضها في إطار عقلاني لا يُلغي النقاش إنما يسمح باغنائه على أسس عملية وعقلانية، وهل سنظل نرحب بالبحوث والحقائق فقط عندما تتعلق بالآخرين لكي نتفرج على quot;عوراتهمquot; ونظل فرحين quot;بصحةquot; قناعاتنا ومواقفنا رغم الخراب الذي نعيشه؟ 3/ هل يمكن للبلدان العربية أن تتجاوز محنتها بالحصول على أفضل حل ممكن لشعبنا في فلسطين بدل التباكي على مآسي الماضي الذي لن ينفعنا بشيء؟ وسيسمح لنا مثل هذا الحل بالتضامن في عملية البناء الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للتقدم نحو تقوية مجتمعاتنا ودولنا؟ 4/ ألم يحن الوقت للتخلي عن الجدل المضلل والتذبذب بين موقف تبسيطي يختزل الغرب في مآسي الفترات الماضية كأنه الشر المطلق أو سلوك منبهر بالمجتمعات الغربية يتناسى عناصرها السلبية وظواهرها الخطيرة ليطرحها للتطبيق، كنموذج مثالي، للتنظيم الناجح والعقلانية والإنسانية، الخ؟ بينما يفرض الموقف العقلاني تشخيص عناصر القوة والضعف في مجتمعاتنا والاستفادة من تجارب المجتمعات الغربية بحس نقدي ونظر موضوعي وعلاقة إنسانية دون التخندق في مواقع مزيّفة للحقائق كالتهجم والتجريح أو التقليد والانبهار.