يشكل النقد الحقيقي (أي دون مجاملات ولا تهجم) وتفكيك العقلية السائدة أهم الشروط الضرورية لنهضة الأمم وخصوصاً تلك المثقلة بقيود الماضي وهزائم الحاضر. وحده، النقد الحقيقي هذا يحرك العقول والطاقات نحو التجديد في كافة المجالات، ولا يمكن لمقال أن يحيط بمثل هذا الموضوع الخطير وإنما المهم إثارة النقاش حول نقاطه الأساسية. فمن المؤسف أن يستند البعض إلى الإسلام والتقاليد العربية لمحاصرة النقد وإعاقة التجديد الفكري والاجتماعي. وإذا كان أمر التقاليد واضحاً نسبياًً، فإن القرآن قائم تماماً على تأكيد حرية الانسان وحرمته وعلى رفض الظلم وعلى التعاون والتشاور في الحكم فكيف يتمكن الحكام من استخدامه كوسيلة تخدير للعقول والنفوس؟ لاسيما وان الدين الاسلامي يتمحور حول كتاب الله وسنة نبيه ولا يمكن لأحد أن يغير القرآن أو يغير ما فيه حيث تم نسخه وتصحيفه أيام الخلفاء الراشدين (رض)؟ الذي حصل بعد هذه الفترة أنه تم تدريجياً تكريس السيف (الغلبة) كطريق للإمساك بالسلطة (وتوارثها)، واستند المستبدون إلى العصبيات القبلية وتقاليدها وفي نفس الوقت، حاولوا أن يجدوا ثغرة لهم في الحديث المنسوب الى الرسول (ص) وفي توجيه تفسير بعض الآيات القرآنية نحو المفاهيم (التخديرية) التي من شأنها توطيد حكمهم. وقد اندلعت عبر التاريخ الاسلامي حركات من مذاهب مختلفة يمكن وصفها بالمعارضة، سلمية ومسلحة، استندت بقوة أكبر الى كتاب الله وسنة رسوله ولكنها نجحت فقط في إضعاف الحكومات (وتغيرها بعد حين) ولم تنجح إلا نادراً وبشكل محدود في التخلص من أساليب الاستبداد التي تحكمت تدريجياً في عقلية المجتمع. وهكذا وبينما شهد الغرب صعوده في المجالات المختلفة، فعل الاستبداد فعلته في تخدير وتقييد شعوب العالم العربي الإسلامي وعاد الاسلام كما كان غريباً بين أهله ومعتنقيه!! وقد وصفت هذا الوضع كلمات خالدة نسبت إلى جمال الدين الأفغاني بعد عودته من باريس (عدت من بلد فيه إسلام وليس فيه مسلمون إلى بلد فيه مسلمون وليس فيه إسلام).
في هذا السياق، مرت أمتنا بعهود التأخر والاستعمار والتخلف وبرز، ربما كردة فعل، مثقفون وأحزاب وجماعات إسلامية تعمل على تأسيس حكومة إسلامية. ويستند الكثير منهم إلى مبدأ حاكمية الله لرفض الديمقراطية (حاكمية الشعب) ويعتمدون في ذلك على آيات مثل (إن الحكم إلا لله)،وهم في ذلك كمن يردد (ولا تؤتوا الصلاة) ثم يسكت عن الباقي. ويكفي مراجعة فهرس آيات القرآن الكريم لنلاحظ أن الحكم في هذه الآيات ومن سياقها الواضح لا يعني دولة تطبق حكم الله، بل أن مصير الأمور الى الله وقضاؤها بيده وهو الحاكم في نهاية المطاف (أمثلة: الانعام 57 و62، يوسف 40 و67، القصص 70 و88) وبمعنى الحكمة (آل عمران 79، مريم 12، الجاثية 16) إضافة الى آيات أخرى (لا سيما المائدة 49-50) بمعاني الاحتكام الى النبي، الرسول والمعصوم، لا إلى quot;أتباعه المخلصينquot; بعد 1400 سنة وخصوصاً عندما يكونوا مسيطرين ولهم مصالح سياسية واقتصادية طبيعية ولكن ما نرفضه هو أن يغلفوها بغلاف الدين. من جهة أخرى، يدعي الكثير من الناشطين الإسلاميين بأننا نعيش في جاهلية جديدة (جاهلية القرن العشرين مثلاً) وبأنهم يريدون إقامة حكومة أسلامية وسأناقش هذه القضية في مقال قادم، ولكن أود التنبيه هنا الى إلغاء هؤلاء للتاريخ وقوانينه التي تلعب دوراً أساسياً في الفهم القرآني لمسألة تطور المجتمعات والدعوة الى الاسلام ومدى ارتباطهما ndash;أو عدمه- بفكرة الدولة، ومنه التمييز في القرآن بين الفترة المكية والفترة المدنية في الأسلوب واللغة المستخدمة. ولتجنب خلط الأوراق وتشويش الفكر أذكرهم بأن هذه quot;الجاهلية الجديدةquot; تفرض علينا بالأحرى اتباع سنة الرسول (ص) أثناء الفترة المكية، أي في فترة مشابهة. وهناك عشرات الشواهد القرآنية على ضرورة التسليم بما يصل إليه الناس في قناعاتهم وما مهمة الرسول (ص) ومن معه الا التبليغ وبالأسلوب الإنساني والحضاري كما نسميه اليوم، وتؤكد ذلك السور المدنية أيضاً ولكن السور المكية بشكل واضح لا يمكن إغفاله.
لقد ساهم في تشويش التفكير حول الطابع الديمقراطي للاسلام بعض العلماء والكتاب المسلمين الذين كفّـروا النظام الغربي وكل ما يأتي منه، متأثرين بنتائج القهر في الفترة الاستعمارية وربما لإضفاء الشرعية على الحكام، سواء الماضين منهم أو المعاصرين. وقد اجتهد معهم كتاب السلطة وإعلاميو الفئات المتسلطة على العالم العربي والإسلامي لتضليل المسلمين وفيهم من يغازل طالبان والقاعدة كما سأبينه. ويحاولون الاستمرار في تخدير مواطنيهم بالشعارات العنترية باسم عروبة يزيفوها وإسلام يؤدلجوه. ويستخدم الكثير من هؤلاء مبدأ الحاكمية لله (وليس للشعب!!) بحرفه عن معناه القرآني كما بينت، ومتناسين أن الهدف من هذه الحاكمية في القرآن هو الشعب وسعادة الإنسان، حيث أكد في مواقع كثيرة أن هدف الرسالات السماوية الأساسي هو تحرير البشر ومنع الفراعنة والمستبدين من العبث بهم. لقد حكم الله بأن المفروض إنزال الطواغيت عن عروشهم وأن يتحرر البشر من قيودهم بقولهم لا إله إلا الله لا أن يستبدلوا حكاماً بآخرين يحكمون باسمه!
كيف يطبق المتخلفون حاكمية الله
واليوم يشكل بروز اتجاهات دكتاتورية فاشستية (سواء سميت بالقاعدة أو طالبان أو أسماء أخرى) ذروة الاستخدام المزيف لفكرة الحاكمية لله وأهم الأخطار التي تحيط بالمسلمين اليوم، إذ تهدف إلى التحكم المتعسف في حياة الآخرين من مسلمين وغيرهم بالقتل والخطف والتفجير. وآخر تطور مخيف حصل في الباكستان، فبعد أن كانت أراضيها منطلقاً لجماعات طالبان (ومعهم تنظيم القاعدة) للسيطرة على أفغانستان والتسلط على مقدرات شعبها بأتعس الأفكار والأساليب، اتفقت حكومة هذا البلد معهم مؤخراً على أن يقيموا حكومتهم المتخلفة في منطقة سوات، والتي تجرؤوا على تسميتها بالإسلامية، قبل أن يؤدي الضغط الأمريكي إلى أن تنقلب عليهم الدولة الباكستانية وتعطي الأوامر لجيشها بمطاردتهم. ولأن هؤلاء المارقين يغطون ممارساتهم الإجرامية باسم الاسلام فهم يشكلون تهديداً لمصير المسلمين أكثر من غيرهم بتشويه الإسلام وخلط الأوراق في قضايا بناء البلدان وإعادة التوازن في العلاقات مع الغرب وبقية العالم. وينبغي على المثقفين المؤمنين بالإسلام قبل غيرهم فضح هؤلاء والمؤيدين لهم كبعض وسائل الإعلام العربية التي تسميهم بالمجاهدين، مع أنهم أثبتوا بتصرفاتهم الإجرامية وهتكهم لحرمات الناس (رجالاً ونساء، شيوخاً وأطفالاً) وتفجيرهم المصالح والأسواق أنهم أعداء حقيقيون للمسلمين وللبشرية جمعاء، وبذلك فهم معادون للإسلام وكل الأديان السماوية والقيم الإنسانية. ولا أعرف كيف يتحرك الكثير من العلماء المسلمين لإدانة صور وأفلام ينتجها أناس غير مسلمين ولا يتحمسون لإدانة وتجريم هؤلاء الأوغاد عندما يلوكون شريعة النبي محمد (ص) السمحاء بأفواههم مرتكبين الجرائم المختلفة باسمها.
وأخيراً، ينبغي أيضاً إدانة ممارسات التسلط التي يريد بها بعض الناشطين الإسلاميين فرض أنفسهم حكاماً على الناس المحيطين بهم متدخلين في تصرفاتهم ومعايشهم باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بينما أمر الرسول (ص) بالقيام بذلك بالمعروف أي بدون استعلاء وتسلط يؤدي الى عكس المطلوب. وقد أكد القرآن الكريم على فكرة الإصلاح التي تقف وراء هذا المبدأ وعلى ملاحظة مدى مناسبته لواقع المسلمين حيث ذكر زمناً يصعب فيه ممارسته دون الإضرار بأهدافه السامية، بقوله (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم، الى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون/ المائدة 105) وعندما تساءل الصحابة كيف ونحن مُلزمون بالأمر بالمعروف، بيّن الرسول (ص) quot;... إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مُؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسكquot; (انظر مثلاً تفسير الجلالين للآية)، وهذا يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس ممارسة فجة أو جامدة وبالتأكيد ليس مبرراً للتسلط على الآخرين والتحكم بهم. أما إذا أصر البعض على التفسير الآخر أي أن الآية تعني أهل الكتاب فهذا يدل أكثر على أن الأمر متروك لهم وعلينا بأنفسنا. فالإيمان ومتطلباته تخص أساساً الإنسان المعني به والله هو الذي يعلم دخائل الانسان وحقيقة إيمانه. ولكن من هو المؤمن، يجيبنا القرآن الكريم في بداية سورة المؤمنون بقوله (قد أفلح المؤمنون...) ثم يأتي بصفاتهم وأذكرها باختصار: 1/ الخشوع في الصلاة 2/ الإعراض عن اللغو 3/ دفع الزكاة، أي التبرع للمحتاجين 4/ الاكتفاء بالعلاقات الجنسية المشروعة والابتعاد عن تلك المحرمة 5/ مراعاة الأمانة والعهد 6/ المحافظة على الصلاة. ونلاحظ أنه يبدأ بالخشوع في الصلاة وينتهي بالالتزام بها، فإذا صلى المؤمن فالخشوع أهم علامات إيمانه وهو المعين على تأدية الالتزامات إزاء الآخرين ولكن هذه تأتي قبل الالتزام بالصلاة، ثم يختمها (أولئك هم الوارثون، الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون).