في أوائل السبعينات من القرن الماضي،شهدت تونس سلسلة من الإضطرابات والإنتفاضات الطلابية الخطيرة.وعندما آزدات حدتها ،خصوصا بعد أن آمتدّ لهبها الى المعاهد الثانويّة في أول شتاء 1972،سارعت السلطات بغلق الجامعة،وإيقاف مئات الطلبة لتصدر أحكاما قاسية في حق من ثبت تورطهم في الإنتساب الى منظمة"العامل التونسي" ذات التوجه الماركسي-اللينيني .وقد حزّ في نفس الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة الذي كان يفاخر ب"ثورته التعليمية" ،أن تكون الأجيال الشابة معادية له ولسياسته،ومتنكرة لكفاحه المرير من أجل الخلاص من الهيمنة الإستعمارية،وللإنجزات الهامة التي حققها للبلاد عقب الإستقلال . .لذلك بادر بإلقاء سلسلة من المحاضرات في كلية الحقوق بالعاصمة كان الهدف منها التعريف بمسيرته النضالية التي لا تختلف في رأيه عن مسيرة زعماء الثورات الذين كانت الأجيال الجديدة مفتونة بهم من أمثال لينين وتروتسكي وهوشي منه وماوتسي تونغ وفيدال كاسترو وتشي غيفارا وغيرهم.
ونظرا للمكانة التي أصبح يحتلها الزعيم الراحل في قلوب التونسيين بعد آنهيار نظام زين العابدين بن علي،وفشل الأحزاب التي جاءت بها "ثورة الحرية والكرامة" في تحسين حياتهم المادية والمعنوية،صدرت المحاضرات المذكورة في طبعة جديدة باللغتين العربية (دار آفاق)،والفرنسية(دار ابولونيا).وفي بدايتها،تحدث بورقيبة بآستفاضة عن سنوات طفولته الصعبة .فقد كان أصغر إخوته واخواته البالغ عددهم ثمانية.ووالدته أنجبته في الثالث من شهر أغسطس-آب -1903 وهي على مشارف الأربعين. ومن شدة الحياء ، تجنبت الظهور أمام أقرب الناس إليها عندما آمتلأ بطنها.وكان والده الذي عمل في عسكر البايات الحسينيين ،والذي كان يتقاضى راتبا تقاعديّا زهيدا حريصا على تعليم أبنائه.لذلك بادر بإرسال آبنه الصغير، معتلّ الصحة وهو في سنّ الخامسة، الى العاصمة حيث يعمل أخوه الأكبر محمد ممرضا، لينتسب الى الفرع الإبتدائي في المدرسة الصادقية التي أسسها المصلح المرموق خير الدين باشا التونسي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.ويشير بورقيبة إلى أنه اقبل على الدراسة بحماس غير عابئ بالمتاعب الصحية والمادية التي كان يعاني منها حيث انه كان يجد نفسه مجبرا أحيانا على الذهاب الى المدرسة بحذاء مثقوب في أيام المطر والبرد.واول حادث أثر فيه هو المظاهرة التي آندلعت في عام 1911 بسبب رفض التونسين دفن الحاصلين على الجنسية الفرنسية من بينهم في مقبرة "الجلاز".وقد أيقظت تلك المظاهرة العارمة الحس الوطني لدى الطفل الصغير خصوصا بعد أن عاين أن السلطات الفرنسية ردّت على المتظاهرين بعنف وقسوة،وشنقت أحدهم ويدعى الجرجار في ساحة"باب سعدون" بينما كان البعض من الفرنسيين يصفقون ويهللون مباركين ذلك.
وفي سنّ العاشرة ،وتحديدا عام 1913،عاش الطفل الحبيب بورقيبة حدثا مروعا.فقد توفيت والدته في سنّ الأربعين وهو في العاصمة .غير أن الفرحة الكبيرة التي تحققت لها قبل رحيلها تمثلت في النجاح الباهر الذي حصل عليه آبنها الصغير في الشهادة الإبتدائية.وفي محاضراته يشير بورقيبة الى أن سبب الموت المبكر لوالدته يعود الى كثرة الولادة، والى مشاق الأعمال اليومية التي كانت مجبرة على القيام بها.وحتى بعد أن كبر واصبح زعيما سياسيا ثم رئيسا للبلاد،ظل يتذكر والدته ،بل واحيانا كان يجهش بالبكاء وهو يتحدث عنها في خطبه الرسمية.
وأما الحدث الثاني الذي ظل راسخا في ذاكرة بورقيبة فهو وفاة الزعيم الوطني البشير صفر.حدث ذلك في ربيع عام 1917.وقد سار الطفل الحبيب بورقيبة في موكب الجنازة المهيب بصحبة والده الذي كان يبكي من شدة الحزن والتأثر.وفي محاضراته،أشاد بورقيبة بخصال البشير صفر الذي كان زعيما للنخبة التونسية في زمنه.ومتخرجا من أرقى الجامعات الفرنسية،كان يتمتع بثقافة واسعة،وبآطلاع عميق على الإقتصاد السياسي.ومنذ بداية مسيرته ،حرص البشير صفر على تأسيس صحف وجمعيات ونواد ثقافية وسياسية.وكان هدفه من ذلك جمع النخبة التونسية التي كانت تعاني من التششت والضياع حول مشروع وطني واضح المعالم.وقد أفلح في ذلك إلى حدّ كبير.ومن أعظم إنجزات هذا المصلح الكبير تأسيسه للمدرسة "الخلدونية" التي أتاحت لطلبة جامع الزيتونة الإطلاع على حضارة العصر.ومعلوم أن هذه المدرسة آستقطبت العديد من المدافعين عن الإصلاح والتحديث من أمثال الشيخ عبد العزيز الثغالبي،والطاهر الحداد صاحب كتاب"آمراتنا في الشريعة والمجتمع"،والشاعر الكبير أبا القاسم الشابي الذي ألقى فيها عام 1929 محاضرته الشهيرة"الخيال الشعري عند العرب".
وخلال سنوات الدراسة الإعدادية في المدرسة الصادقية،أحب بورقيبة "معلقات"شعراء الجاهلية،وحفظ البعض من مقطوعاتها عن ظهر قلب.وكان معجبا بالخصوص بالشيخ عبد العزيز جعيط،أستاذ الشعر القديم،وبالشيخ محمد بالقاضي ،مدرس النحو العربي،وبالشيخ حميدة النيفر الذي كان رجلا سمينا،كبير الجثة .لذلك سماه التلاميذ"الباخرة العابرة للقارات".وفي هذه السنوات أيضا ،فتن الفتى الحبيب بورقيبة بالشعراء الفرنسيين الكبار من امثال فيكتور هوغو،ولامرتين،وألفريد دو موسيه ،وألفريد دو فينيي الذي ظلت قصيدة الشهيرة"موت الذئب" راسخة في ذاكرته حتى انه كان يحب ،بعدأن أصبح رئيسا ،ترديدها أمام ضيوفه الفرنسيين الكبار.
وفي عام 1919،آلتقى الفتى الحبيب بورقيبة بالزعيم الوطني الكبير الشيخ الثعالبي ،مؤسس الحزب الدستوري .وفي هذه الفترة بدأت توجهاته السياسية تتشكل ليكون ضمن المشاركين في المظاهرة الوطنية الضخمة التي آندلعت في الخامس من شهر ابريل-نيسان 1922.وبعد حصوله على شهادة الباكلوريا بملاحظة "مشرف جدا"،نصحه أخوه الأكبر بمواصلة تعليمه العالي في جامعة الجزائر ،غير أنه رفض ذلك وآنطلق الى فرنسا راغبا على التعرف عليها من الداخل لكي يتمكن في ما بعد من مواجهتها وخوض المعارك الحاسمة ضدها....
&
التعليقات