لست رجل اقتصاد، ولا محلِّلًا ماليًّا، ولا بارعًا في القسمة والضرب والجذور التربيعية، ولا في الحسابات الجارية والودائع والأصول. لا أفكر في تفاصيل الموازنة وأرقامها وفلسفتها المالية كما يفكر الاقتصادي أو المالي؛ خاصة إذا كانت مطرزة بأرقام التريليونات المُرعبة التي تضمنتها الموازنة العراقية. وهذا نفس حال معظم الشعب الذي لا تشغله طنين وجعجعة معارك المال في دخولها وخروجها من الميزانية، وتبخرها في دهاليز السياسة.

أعترف مقدًّماً، بأنني لست خبيراً بالأرقام والإحصائيات والمصطلحات المالية التي تضمَّنتها الموازنة العراقية الجديدة؛ لكنني قارئ للتحليلات الاقتصادية والمالية بعقل الباحث العلمي، لذلك سانحو إلى منهج الوصف، بالتوصيف والتحليل برؤية اجتماعية ونفسية وسياسية بعيدا عن الموقف المتعصب؛ فنحن هدفنا تبسيط المعلومة الاقتصادية للقارئ، وكشف ما بين سطور الموازنة، وأهدافها الرئيسة.

وبقراءة علمية متفحصة للموازنة العراقية التي تُعَد أضخم ميزانية منذ تأسيس الدولة العراقية؛ نجد أنها مثيرة للتساؤل والجدل حول مدتها التي تبلغ ثلاث سنوات، وهي حالة نادرة في تجارب العالم؛ لأن الموازنة عادة ما تكون سنوية (سنة بسنتها)، وهي ثابتة لا تتغير، وتُقر بقانون. وهي كما قيل: مخالفة لقانون الإدارة المالية باعتراف المستشار المالي لرئيس الوزراء "مظهر محمد صالح".

ضخامة الموازنة التي تبلغ .828197 تريليون دينار (150.273) مليار دولار؛ حسب البيانات الحكومية، وهي موازنة لخمس دول نامية مجتمعة، وربما أكثر، تذهب معظمها الى التشغيلية التي تلتهم أكثر من نصف الميزانية. وفيها من "البلاوي" ما يشيب الرضعان كما يُقال!

وهي موازنة " إبهار" بالأرقام والفقرات، والكثير من الأمنيات المزدحمة لتنفيذ البرنامج الحكومي؛ لكنها تُخفي حقائق َ اليمة ستصيب الاقتصاد العراقي بالانهيار في حالة الأزمات الدولية. إنها موازنة مبنية على ثقافة القدَر والغيبيات، والحظ والنصيب، والإيمان بالقدر خيره وشره، ودفع الله ما كان أعظم!

وأول أخطاء الموازنة، هو احتساب سعر برميل النفط بسبعين دولار في ظل اقتصاد ريعي بالدرجة الأولى، ودون قراءة لمستقبل ظروف العالم الأمنية والمالية والاقتصادية المرتبكة، وتقلبات أسعار النفط نتيجة الحروب والأزمات المالية، خاصة وان اعتماد الموازنة العراقية على النفط بنسبة 96%؛ مما يجعلنا أمام كارثة اقتصادية ومالية في قادم الأيام إذا ما حدث انخفاض في أسعار النفط. ويا للكارثة إذا وقعت الواقعة!

القراءة الأولى المستخلَصة من هذه الأرقام وفقراتها، تُشير الى أنها موازنة سياسية بامتياز، وليست اقتصادية، ولها أهداف محددة في عقل السياسي للاستعجال بالحصول على مكاسب سياسية ودعائية سريعة دون النظر الى تأثيراتها المستقبلية. والبعض يراها (تدفقاً جديداً لتمويل الفساد المالي السياسي)، ووجود (حيل سياسية ثلاثية الأبعاد)!

كذلك تحمل الكثير من الحقائق الموجعة، والمعلومات الصادمة، والتأثيرات الاجتماعية والنفسية على المواطن، ففيما بين سطور الموازنة التشغيلية التي بلغت 150.273 دينار (293) دولار، نجد أن السنوات الثلاثة القادمة ستكون عطلة أجبارية للوظائف الجديدة؛ حيث تتوقف التعينات مقابل عدم وجود البدائل الواقعية على ارض الواقع، مما يعني: زيادة الفقر وتعطيل القدرات البشرية الشابة، وتعميق اليأس في النفوس.

والقلق الأكبر؛ أن تكون الفئات من غير الموظفين وغير المشمولين في شبكة الرعاية الاجتماعية خارج تغطية الاهتمام الحكومي في ظل انعدام فرص العمل، وعدم وجود القطاع الخاص الذي يُمكن استيعابهم، مما قد يؤدي الى جعلهم نماذج منطفئة ومقهورة ومتمردة

في الموازنة التشغيلية، وجود سر دفين، وموطن سري للفساد، وهو ما لا يعرفه الكثير، حيث تذهب 40% لنثريات الرئاسات والوزراء ورجال الإدارة العليا، وأجور السفر والترحال، وتأثيث المكاتب الفاخرة، وموائد الأكل والشرب، والضيافات العربية الطائية، والمتبقي؛ هي رواتب بعضها حقيقية، لكن الكثير منها مبالغ في أرقامها الفلكية للمسؤولين الكبار، والأخرى فضائية أو ملفقة بالتسميات الوهمية، والاستعارات الجهادية المختلفة.

وبينما المتقاعد المسكين ينتظر بشرى وعود زيادة الراتب لحل فاجعة عيشه المر، يصطدم بأن حكومته الوطنية ترفع رواتب المتقاعد الإيراني واليمني والسوداني والمصري واللبناني الى 750 ألف دينار. وهو أمر يثير الدهشة والامتعاض والاستغراب. ويجعل المتقاعد تزداد قناعته بأن ما يقال صحيح: بإن زيادة راتب المتقاعد القديم معلق بأوامر أحزاب السلطة الحاقدة بهوس الماضي، وأن وطنية من يحكموه هي عابرة للحدود، وعاطلة في الوطن؟!

بالمختصر، هناك ثغرات كبيرة في قراءة المستقبل، وما ستؤديه الرواتب بأنواعها وتسمياتها من تضخم اقتصادي غير مسبوق، وديون متراكمة على الدولة بسبب التباين الكبير بين التشغيلية والاستثمارية، ومبالغ الإيرادات النفطية وغير النفطية، والعجز في الميزانية، وكلها تمثل عائقاً في تطبيق البرنامج الحكومي، خاصة بوجود فقرات وثغرات في مجالي التشغيلية والاستثمارية تُشجع على الفساد، وستكون حكراً للمافيات السياسية والأحزاب الحاكمة!

لسنا ضد فلسفة الموازنة، ولا مع غلق أبواب الأمل، ولا ضد توجُّهات السوداني وطموحاته المشروعة، وما قام به من خطوات إيجابية لترميم ما هدمه قبله، وما تركه له الآخرين من تراكمات وفواجع؛ لكن الخوف أن تحدث ارتدادات لزلازل الموازنة بعد انزلاق صفيحة الأزمات الدولية، وتذبذب أسعار النفط، مما قد يسبب زيادة في النشاط البركاني للشعب، وتنشيط للانقلابات السياسية المفاجئة، وتوسيع أعداد الفقر، وأمراض نفسية مزمنة في اليأس والهلوسة والاكتئاب، وارتفاع ثقافة الشكوى والمطالبات.

عندها لا ينفع الندم على فعل اختفى فيه العقل المستقبلي، وغابت عنه حكمة العلم، لتفسح المجال لانتصار الفساد والشهوات المالية، والمصالح السياسية، والتسريع بقتل آخر أمل مرتجى لوطن ما زالت بيوته ومدراسه من الطين، وأرضه تزرع بالمزابل والمستنقعات، وشبابه يحلم "ببسطة" سكاير على قارعة الوطن.

وطن صار حلم مواطنيه؛ أن يأتي الكهرباء لساعات فقط، وأن يشرب الماء الصالح للشرب، ويحصل على مكرمة السكر والطحين والعدس، وبرميل صغير من النفط يقيه من البرد، وعلاج في مستشفى صالحة للبشر. والخروج سالماً من شوارع متهرئة تتربع في وسطها المطبات والخسفات والحفر والتكسّرات الكثيرة.

أنها أحلام وأمنيات بسيطة لمواطن عراقي يغرق بالنفط، ولديه موازنة بالمليارات والتريليونات، كأنه يذكرنا بأمنيات المواطن الموزمبيقي والصومالي والملاوي، وأحلام أنسان القرون القديمة!

[email protected]