ابتلي العراق بالنزوع القبلي والعشائري في بلادي حتى وصل الامر الى صعوبة او حتى استحالة فرض القانون المدني فيه على الاقل في الوقت الحاضر؛ فقبل اكثر من قرن وبالذات في العام/1910 كتب احد نواب بغداد في البرلمان العثماني ما يلي:

"اسلمُ للمرء الف مرة ان يحتمي بالعشيرة من ان يحتمي بالدولة لان العشيرة تقف الى جانب ابنها في الوقت الذي تتخلى الدولة عن مواطنها فيميل ميزان عقله لعشيرته التي تنصره سواء كان ظالما او مظلوما".

بهذا المعيار نفقد دولة المواطنة شيئا فشيئا خاصةً اذا ضعفت الدولة وعجزت عن سنّ قوانين تهدف الى مساواة ابناء الوطن الواحد دون النظر الى معتقداتهم وأصولهم العِرقية والتي تسبب ظهور حالة من الطبقية والتمايز بين فرد وآخر، وقد يظهر ما هو أسوأ من ذلك حين تتغنى الدولة بالعشائرية وتُولي اهتماما اكبر برجالها وصفوتها ومحاولة إرضائهم واحتضانهم بالهدايا والرشى والحظوة وحتى بالسلاح، ومدّ اليد اليهم على حساب المواطن المعزول من التكتلات والذي يتطلع الى دولة مدنية ومساواة وعدالة مما يسبب نكوصا وانكسارا حينما تكون الغلبة لرئيس القبيلة وتكون كلمته هي الفصل بينما القانون وسلطته القضائية تُضرب عرض الحائط.. وتبرز نظرية "التشظي" كما يسميها علماء الاجتماع ظاهرةً للعيان بأبشع صورها وينشغل المجتمع والدولة بالهويات الفرعية ويتكتل الجمع الاصغر (العشائرية والمناطقية والتمذهب) ويضيع الجمع الاكبر (الوطن والمواطنة) وهذه هي الكارثة الكبرى، ولنضرب مثلا على تفشي النزعة العشائرية في العراق في العهد الملَكي والذي ينكر البعض وجودها؛ حيث كان المجلس التأسيسي العراقي الذي شُكّل العام /1942 بأعضائه التسعة والتسعين يحوي اربعة وثلاثين عضوا من شيوخ العشائر والأغوات في صفوفه، كما بلغت نسبة اعضاء مجلس النوّاب العراقي من مشايخ وزعماء القبائل 38 بالمئة بعد الانتداب البريطاني مما يتضح ان العشائرية ليست جديدة على مجتمعنا وانما هي مترسخة منذ تأسيس الدولة العراقية وقبل تنصيب فيصل الاول ملكا على العراق منذ اوائل العشرينات من القرن الماضي.

ويبدو ان هناك تعمّدٌ في الابقاء على سلطة القبيلة واضعاف سلطة المواطنة وتهميش المجتمع المدني وترسيخ الهيكل العشائري منذ تأسيس وطن سُمِّي العراق بمملكة مستوردة من اراضي نجد والحجاز وملك منتسب الى العائلة الهاشمية الحجازية المولد والمنبت. ولأن تلك الجذور متأصلة وموغلة في العمق؛ انظروا مليّاً ما فعل الاحتلال الاميركي لبلادنا سنة / 2003 حيث أبقى مبدأ المحاصصة السيئ الصيت ووزع المناصب وفق الاطر المذهبية والقومية بحجة ان هذا المجتمع قائمٌ على تلك القواعد ويصعب جدا هدمها بغمضة عين.

وفي ظني انه لم يرتكب خطأً فادحا، انما فداحة الخطر انه عمل على عزل دعاة المجتمع المدني وتهميش الليبراليين واليسار من قيادة هيكل الدولة او على الاقل اضعاف دورهم لاقصى حدّ، فالاحتلال يروقه ترسيخ الطائفية والعِرقية ومشاريع الاقلمة لكي يضمنوا ان يكون وطننا مقطّع الاوصال وبدأوا يلوكون بألسنتهم مفردات مثل الفيدرالية والكونفيدرالية لترويجها في نفوس دعاة التجزئة؛ وبدلا من ان يعمل الاميركيون على ايقاف عجلة الحشد الاصغر ويقوموا بتثبيت دعائم الديمقراطية الصحيحة القائمة على المواطنة والمجتمع المدني الذي يساوي بين المواطنين دون النظر الى المعتقد او القومية او الجنس لكنهم جلبوا لنا ديمقراطية عرجاء مشوّهة الملامح وقُسّم الشعب تقسيمات أثنية ومذهبية على غرار ماقام به سيّدهم الاقدم (ابو ناجي) كما يحبّ العراقيون ان يسخروا ويُكَّنوا المستعمر البريطاني. كمن أنبت في ارضنا شجرة خالية من الثمار وعديمة من الظلال وصرنا "ديمقراطيين بلا ديمقراطية". وكيف يعقل ان تستمر دعائم الديمقراطية الحقة اذا كثرت وتعددت احزاب ثيوقراطية وتكتلات عشائرية ودينية وأعلنت العداوة مع الخصوم الليبراليين وذوي الميول اليسارية واتباع المجتمع المدني لأن السياسي الذي يتخذ من الدين او المذهب عكّازا له لا يمكن ان يتقبل شريكه الليبرالي المنافس له في صناديق الاقتراع وسيرى في خصمه الاخر عدواً له وقد ينعته بالكافر او المارق اذ يعتبر نفسه في حرب مقدسة بينه وبين منافسه وعليه مسؤولية اعلاء شأن المذهب او القبيلة باعتباره حامي حمى الدين والحصن المنيع لأهله وقوميته ومذهبه، وقد لا يتوانى من استخدام القوة والسلاح ضد الطرف الاخر باعتباره عدوا وكافرا وبهذا تنتفي مبادئ المساواة التي نعتبرها ابسط ما نادت به الديمقراطية، ناهيك عن غياب قانون الاحزاب الذي يبدو انه ما زال على رفوف مجلس النواب منذ امد طويل ولم يتم مناقشته وإقراره بعد ولا نظنّ انه سيخرج في القريب العاجل اذا استمر الوضع بهذا الشكل الذي لا يبشر بحلول قريبة لأن إقراره سيطيح بمعظم الاحزاب الثيوقراطية التي لا تتوافق مع النهج الديمقراطي الصحيح المعافى والمتعلّقة بفصل الدين عن الدولة وسوف تذوي بقية التكتلات والتيارات السياسية المموّلة من خارج الحدود وما أكثرها في بلادنا المبتلية بالتدخلات الخارجية.