لأن الإعلام صار واقعاً مؤثراً في الحياة، وجاذباً للأنظار والمال والسمعة والجاه والسلطة؛ فإن ذلك قد ساق الدول والحكومات والمؤسسات والشركات للإعلان عن اختراع صداقة معه، وتوسَّمت به أن يفعل لها ما لم تستطِعه قوى أخرى في أن ترفع من مكانتها وتُحسِّن سمعتها.
من هنا ظهرت نظريات بناء الصورة الذهنية، والتسويق الفعال، وإدارة السمعة في المنظمات، وإدارة الأزمات بالإعلام، وكل ما فعلته وتفعله من أجل النجاح، هو تفعيل ماكينة الإعلام بطريقة صحيحة، ثم اذهب أنت إلى بيتك كي تستريح، واطمئن بأن هناك عقلًا جديدًا يجلب لك السمعة والنقود من صراف جهاز الإعلام.
لم يكن الاعلام رقمًا عابرًا في خوارزميات الحياة، ولا صوتًا في قرية إنسانية تحكمها قيم الماضي، وشيخ قبيلة يكره التجديد؛ إنما هو صوتٌ لا يُعلَى عليه بصناعة البهرجة، وقوته الناعمة، وتأثيره الفاعل، وجمهوره الكبير، المعلَن والمخفي، من الشباب.
هو ظاهرة مترامية الأطراف لا تحده حدود ولا تقف في مواجهته أسلاك الحدود، أو مكاتب الجوازات والتفتيش. هو الوحيد الذي يحمل جوازًا عالميًّا من جمهورية العالم الرقمي ويحق له التجوُّل في مدن الغرب والشرق بدون تفتيش ورقابة وبهدلة!
ومادام الإعلام بهذه القوة العجيبة، والسحر الأخَّاذ؛ لامتلاكه الأسلحة القادرة على جلب المال والسلطة، وجذب العقول، وإنقاذ البشر من قمع الحكومات، وسلاطين السياسة والمال، فقد كان عونًا أيضًا للمؤسسات والشركات في تفعيل إدامة العلاقة مع الجمهور، وجلب الاستثمارات، وتحقيق الأرباح، والمساعدة على تحسين سُمعتها بإبهار صناعة الحروف والصور من خلال دوائرها الإعلامية.
فالمكاتب الإعلامية، بمنطق العلم، لم تتأسس فقط لتكون ناطقًا رسميًّا للمؤسسات، أو لتعكس صورتها الإيجابية عن طريق أدوات الأعلام المختلفة؛ بل هي مؤسسة عقول في المحتوى، ورقي في السلوك التنظيمي، والعلاقات العامة والتنظيم. فلا يكفي الاكتفاء بكتابة خبر، أو تكون فاعلة في الدعاية الباهتة، أو حليفًا هامًّا للمؤسسة لاطلاع الجمهور على مهامها، والدفاع بالباطل عنها بمنطق (اكذِب ثم اكذِب حتى يصدقَك الناس).
ما يجري في دوائر إعلام المؤسسات في أوطاننا، أشبه ببارود فاسد في حروب المصير، غير قادر على إدامة زَخَم التواصل الفاعل، وتحقيق انتصارات في جبهات الإقناع والشفافية، وترسيخ الصورة الذهنية الإيجابية للمؤسسة. إنه إعلام، مع الأسف، لا يصلح لمعارك التنمية والتسويق والإقناع وإثبات الوجود الرمزي والدلالي؛ فهو انعكاسٌ لأوطانٍ تعيش فوضى الإدارة، ومرض المحسوبية؛ أوطان تعادي العلم والثقافة بامتياز!
لا يكفي أن يكون خريج الإعلام هو قائد هذا الكيان المتحرك، إلا إذا كان بارعًا في مهارات الكتابة والاتصال الشفوي، ومُمتلئًا بمعارف الإعلام والثقافة، وذا ذكاء اجتماعي متقد، تتحرك في عقله نوازع سلطة الابتكار والتميُّز، وشطارة الإبداع، والتذوق الجمالي.
لا يكفي أن نفخر بأنّ لدينا إعلامًا ناطقًا للمؤسسات، وهو عليل بمرض شهوة التباهي بحروف الجهالة، والتطبيل للمسؤول، ومتأثرٌ بإعلام اللحظة، وبحكايات القِيل والقال، وبهرجة الحضور الإعلامي المزيَّف.
نعم، هناك استثناءات هنا وهناك لنشاط بعض دوائر الإعلام، وهذا لا شك فيه، ربما تلتقطها صدفة، وتندهش بأفعالها المبتكرة، وتحزن لأنها تعيش بعيدًا عن أضواء الإعلام الكاشفة، وأجنداته السريَّة.
لقد اكتشفتُ في الافتتاح الرسمي لقسم الإعلام الرقمي بكلية النور الجامعة لأول مرة في محافظة نينوى بمدينة الموصل؛ أن هناك إدارة جامعية ذكية تعرف أن الطريق إلى الاستثمار الناجح، والتسويق الفاعل لا يمر إلا من خلال الإعلام الديناميكي المليء بالأفكار المبتكرة والمتنوعة، وبتقنيات العصر الحديثة، وبعاملين مبدعين للحروف والصور المثيرة للجمال والعقل.
ستجد أن الجامعة مهووسة بالإعلام وتقنياته الحديثة، وبعناصر الشباب المتدفقة بالحيوية والمثابرة والإبداع. وأن هناك غرفًا كثيرة وقاعاتٍ ومختبراتٍ واستديوهاتٍ إذاعية لإنتاج الحروف والأفلام والأفكار، وستستمع لمذيع (إذاعة النور) يعلن عن بدء الدورة الإذاعية الجديدة الموجهة لجمهور محافظة نينوى، وهو مشروع مُثير للدهشة والإعجاب.
وستجد أن هناك أجيالاً قديمة من الرواد، وجديدة من الشباب تتفاعل مع بعضها بعضًا؛ لتمزج حكمة التجربة العميقة، مع اندفاع الشباب وأفكارهم الجديدة المبتكرة. وعندما تبحث عن الفاعل وراء هذا المُنجَز الإعلامي؛ ستعرف أنه د. بشار محمود علي أحد مؤسسي (كلية النور) الجامعة.
والأجمل، أن تكون هذه الدائرة الإعلامية مُمتلئةً بعطر الثقافة، وبجمالها وأناقتها، لا أن تكون مجرد أفكار إعلامية مسطحة الفكر؛ فكان الاختيار ناجحًا، والصيد ثمينًا في اختيار الجامعة لشخصية ثقافية وإعلامية مبدعة، وهو الزميل السبعيني الأثير ثامر معيوف، القاص والروائي الذي أضاف فكرًا وجمالاً وأناقة ورصانة لإعلام الجامعة. وهو ما يجعلني أقول: إن الدوائر الإعلامية في بلادنا بحاجة إلى قادة إعلاميين يحملون ثقافة المعرفة، وفكر المستقبل.
هناك في (كلية النور) الجامعة ، اكتشفتُ أن هناك مؤسسة عقل في الإعلام والعلاقات العامة، فقد استضافت كبار رجال الثقافة والفن والعلم، ونقلت المجتمع المحلي في باحاتها. هي لا تدير الدعاية بمنطق الإعلام النمطي المقولب، وطرقه التقليدية؛ بل بطريقة الإيحاء الذكي، حيث الجمع بين الإعلام والثقافة، وملء الرسالة الإعلامية بمحتوى فيه رقيُّ المعنى، وضخامة الهدف، وسلامة الأفكار المبتكرة، حيث التنوُّعُ المثير للأدراك، والصور بألوان التكنولوجيا، وبراعة الحروف المكتنزة بثقافة الزمن والمكان. وقد قيل: الكلام وحده لا يكفي، لابد من نطق الحقيقة.
التعليقات