قبل الدخول في صلب الموضوع، علينا توضيح نقطة مهمة ينبغي الانتباه إليها قبل تفسير التوجهات الأميركية من أي قضية سياسية، خارجية كانت أم داخلية... فمنذ تأسيس الولايات المتحدة ولغاية يومنا هذا، نشهد بين الحين والآخر تبايناً واضحاً بين توجهات الإدارات الأميركية وتوجهات المؤسسات فيها. فالإدارات الأميركية تتخذ قراراتها عادة بما ينسجم مع توجهات الشرائح المؤثرة في الانتخابات، وإن كانت على حساب مصالح الأمن القومي الأميركي، فترتكب أحياناً ما يمكن تسميتها بشطحات سياسية تقف خلفها مصالح شخصية وحزبية... وقد أدرك المشرع الأميركي (الآباء المؤسسون) تلك الحالة، فوضعوا لهذه الإدارات مصدات مؤسساتية تصوب تلك الشطحات حال حدوثها وفق ما تمليه مصالح الأمن القومي الأميركي... وشهدنا ذلك في مواقف كثيرة اختلفت فيها توجهات الإدارات الأميركية مع توجهات مؤسساتها، وبالطبع كان القرار الأخير دائماً للمؤسسات وليس للإدارات... إذا، يجب علينا التميز بين توجهات الإدارات الأميركية وبين توجهات مراكز القرار فيها.

***

لا يمكن إنكار أن النظام الإيراني الحالي قد أبدع في التعامل مع أميركا والغرب خلال ما يقارب النصف قرن من حكمه. فلدى إيران مجساتها التي تستقريء من خلالها، وبشكل دقيق، تباين المصالح الأميركية مع المصالح الأوروبية في المنطقة، وكذلك تباينهما مع المصالح الإسرائيلية، وتستغلها بما يصب في مصالحها الإقليمية والدولية. وقد نجحت في اللعب على التناقضات الدولية والإقليمية، من خلال ممارسة سياسة العصا أحياناً والجزرة أحياناً أخرى، بالرغم من التحديات التي تواجهها، فتمكنت من بناء ترسانة عسكرية ضخمة توشك أن تضيف إليها السلاح النووي، وتشكيل ميليشيات ترتبط بها ارتباطاً عقائدياً لحماية مصالحها، وإن تناقضت مع المصالح الوطنية للدول التي تنتمي إليها تلك المليشيات... فحزب الله والحوثيون والفصائل العراقية تتحرك حسب المصالح الإيرانية، حتى وإن تناقضت مع المصالح الوطنية للدول التي تنتمي إليها.

وبالرغم من ثيوقراطية هذا النظام، إلا أنه تحرك بشكل برغماتي أفضل من أنظمة أخرى كثيرة في الشرق الأوسط... ويمكن استخلاص ذلك بمقارنة التجربة الإيرانية مع التجربة العراقية في ثمانينيات القرن الماضي. فبالرغم من أن العراق كان حينها منفتحاً على كل دول العالم ويتمتع بعلاقات طبيعية مع المجتمع الدولي والغرب، إلا أنه فشل في طموحه للتحول إلى قوة إقليمية، وسقط في أول مطب سياسي بحربه مع إيران، تلاه مطبات سياسية متتالية ذهب ضحيتها في نهاية المطاف عام 2003، بينما نجحت إيران في عبور حقول ألغام كثيرة حاول الغرب وأميركا وضعها في طريق مشروعها في التحول إلى قوة إقليمية، وما تزال ماضية فيه.

هذا الأداء الإيراني قابله أداء يمكن وصفه بالباهت والمشتت من قبل الإدارات المتعاقبة في أوروبا وأميركا، فبالرغم من أن الغرب قد استعمر الشرق الأوسط لعقود من الزمن، ويدرك مزاج شعوبها وتوجهات ساستها، ويمتلك دراسات وبحوث كثيرة حول المتغيرات فيها، وبالرغم من أنه يعتبر عراب تشكيل الكثير من دولها، ويتمتع بعلاقات متميزة مع حكوماتها... إلا أن تعامله مع ملفاتها يتسم منذ ما يقارب الربع قرن بالكثير من عدم الدراية يصل أحياناً لحد السذاجة. ويحاول الكثير من المراقبين، خصوصاً أصحاب نظرية المؤامرة والمؤمنين بفوقية الغرب، تفسير كل أخطاء سياسة الغرب في منطقتنا بأنها مقصودة وتكتيكية، يتبناها لتصب في النهاية لصالحه، إلا أنَّ ما يؤكده مسار الأحداث أن الغرب بما فيه أميركا يرتكب أخطاء سياسية قاتلة في التعامل مع الملفات السياسية في المنطقة، تفضي بالنتيجة إلى تبعات سلبية ليس على شعوب المنطقة وحدها بل وعلى مصالح الغرب نفسه، وقد يكون مرد ذلك لنوعية الساسة الذين يقودون المشهد السياسي في الآونة الأخيرة في أوروبا وأميركا، وطغيان المصالح الحزبية والشخصية على المصالح الاستراتيجية لدولهم، ليس فيما يتعلق بملفات منطقتنا فحسب، بل حتى في ملفات بلدانهم الداخلية.

كشفت حرب غزة وردود أفعال ما يسمى بمحور المقاومة إزاءها أنَّ إيران أصبحت تشكل خطراً حقيقياً على مصالح أميركا والغرب في المنطقة، وتهديداً وجودياً على حليفتها الاستراتيجية إسرائيل، وأن أذرعها باتت تشكل خطراً على مصالح الدول الحليفة لها في المنطقة. وخروج حماس من حرب غزة دون خسائر، وتهدئة التصعيد بين حزب الله وإسرائيل، وإبقاء الحوثيين متحكمين باليمن والفصائل المسلحة العراقية متحكمة بالعراق، كل ذلك سيعتبر نصراً حقيقياً لإيران وأذرعها ينقلها إلى مساحة أخرى تجعلها متحكمة في مسارات السياسة في المنطقة. بالرغم من ذلك، فإننا نلاحظ أن الإدارات في أميركا والغرب تضغط باتجاه عدم توسيع الصراع في غزة وتهدئة التوتر فيها.

تهديد المصالح الأميركية في الشرق الأوسط
قد لا يكون تحول إيران إلى دولة نووية يشكل هاجساً عند أميركا مثلما يشكل عند إسرائيل وبعض الدول العربية، بدليل أنها في مفاوضات الملف النووي الإيراني قد ركزت فقط على إبطاء أو تأخير وصول إيران إلى القنبلة النووية، وليس على منعها من الحصول عليها.

وفي الحقيقة فإن نقطتين في الملف النووي الإيراني علينا ملاحظتهما:

الأولى: قد تكون البراغماتية الإيرانية المعروفة مكنتها من إعطاء أميركا تطمينات جدية من أن ملفها النووي لن يشكل خطراً على مصالحها ومصالح حليفتها إسرائيل، فالمهم عند إيران هو أن تصبح قوة إقليمية كبرى تحمي نفسها من تحديات دول المنطقة إزاء مشروعها التوسعي فيها.

الثانية: بالرغم من التصريحات الأميركية المتكررة برفضها حصول إيران على السلاح النووي، لكن يبدو أن امتلاك إيران للسلاح النووي لا يشكل هاجساً كبيراً عندها، بل يمكنها توظيف هذا المتغير ليصب في اتجاه مبدأ التوازنات الذي تعتمدها في المنطقة، فوجود قوة نووية شيعية في إيران تقابلها قوة نووية سنية في باكستان تستنزفان بعضهما دون أن يتمكن أي منهما حسم الصراع لصالحه، يصب في صالح السياسات الأميركية، ولذلك فهي لا ترى النووي الإيراني تطوراً خطيراً عليها التصدي له مثلما يراه آخرون.

والسؤال هنا... ما هي الخطوط الحمراء الأميركية في المنطقة، وهل تجاوزتها إيران؟

يمكن إيجاز الخطوط الحمراء الأميركية في نقطتين:

الأولى: الحفاظ على مصالحها في المنطقة.

الثانية: الحفاظ على حلفائها في المنطقة.

لتوضيح الواضحات من الفاضحات، فالدلائل كلها تشير إلى أن إيران أصبحت تهديداً حقيقياً لكل حلفاء أميركا في المنطقة من خلال:

*/ دعمها حماس في غزة.

*/ دعمها حزب الله المهيمن على قرار الدولة اللبنانية.

*/ دعمها الحوثيين الذين يشكلون خطراً على أمن دول الخليج، وباتوا اليوم يهددون العالم من خلال تهديدهم الملاحة الدولية.

*/ دعمها للمليشيات العراقية التي تهدد المصالح الأميركية في العراق وتهدد الدول العربية المحيطة بالعراق.

*/ وقد تمادت الأذرع الإيرانية في تحديها بعد أن أصبحت تستهدف القواعد الأميركية نفسها سواء في العراق أو سوريا وقتلت جنوداً فيها.

إنَّ التهديدات الحالية للمصالح الأميركية كانت كافية فيما مضى لتشن أميركا على ضوئها حربا شرسة ضد أي جهة متورطة في ذلك... غير أن ردود أفعال إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن على كل هذه التهديدات لا تتجاوز لغاية الآن مبدأ الضربة مقابل الضربة، أو التعادل الإيجابي (1-1) كما يقال في عالم الرياضة، بل وتشدد على ضرورة إنهاء الحرب في أقصر مدة ممكنة، فبايدن يريد خوض الانتخابات القادمة في جو دولي وداخلي هاديء بعيداً عن ردود أفعال شعبية قد تؤثر على نتائجها.

إقرأ أيضاً: مغادرة القوات الأميركية في الميزان

لكنَّ أميركا، وكما قلنا آنفا، هي دولة مؤسسات تهيمن على القرار النهائي لأميركا بعيداً عن مصالح الأحزاب والأفراد، وهي من تهذب في الكثير من الأحيان شطحات الإدارات الأميركية، خصوصاً إذا ما استشعرت خطراً حقيقياً على الأمن القومي الأميركي، وشهدنا ذلك في أكثر من قرار سياسي في عهد الرئيسين السابقين باراك أوباما ودونالد ترامب... فحتى لو تعاملت الإدارة الأميركية مع تطورات المنطقة بـ"رومانسية" شديدة حسب مصالحها، فإنَّ مراكز القرار الأميركي هي من بيدها القرار الأخير.

فهل التطورات الحالية تهدد مستقبل النفوذ الأميركي في المنطقة؟

مثلما ذكرنا في مناسبات سابقة، فإنَّ المنطقة بعد حرب غزة لن تكون كما قبلها... فحتى لو انتهت الحرب بمغادرة حماس غزة، وهو أقصى ما يمكن أن تسفر عنه هذه الحرب، فإنَّ خروج إيران وأذرعها الباقية منها دون خسائر سيعتبر نصراً حقيقياً لها يحولها من قوة إقليمية "تطمح" للسيطرة على المنطقة إلى قوة اقليمية "حقيقية" تسيطر عليها... وهو ما سينتج عنه التداعيات التالية:

*/ سيعطي ذلك انطباعاً لدى الدول المهددة من قبل إيران بأنَّ أميركا ليست الحليف المناسب لحمايتها من التهديدات المحدقة بها، مما يؤدي بها إلى فك تحالفاتها معها، خصوصاً بوجود قوى عالمية جديدة كالصين وروسيا تطمح للتواجد في مناطق النفوذ الأميركي الحالية... وهو ما يمثل تطوراً خطيراً بالنسبة إلى أميركا.

*/ سيطرة إيرانية كاملة على العراق وسوريا ولبنان واليمن، تتشكل على ضوئها ما يمكن تسميتها بـ"دول المقاومة"، بعد أن كانت فصائل متفرقة تسمى "محور المقاومة".

*/ ستشكل "دول المقاومة" هذه هلالاً شيعياً يطوق دولاً مثل الأردن ودول الخليج، يتم تصدير تجربة المليشيات إليها كما تم تصديرها سابقاً إلى العراق ولبنان واليمن... ولن يقف تأثير الهلال الشيعي عند هذه الدول فقط، بل ستصل تأثيراته لدول أخرى مثل تركيا ومصر.

*/ سيطرة كاملة على الملاحة البحرية في المنطقة، وكذلك على مشاريع الطرق البرية المزمع تشكيلها لربط الشرق بأوروبا، مما سيعطي إيران ميزة السيطرة على الاقتصاد العالمي بشكل كامل.

*/ هناك نقطة جديرة بالملاحظة، وهي أن خروج محور المقاومة دون خسائر من حرب غزة سيعطيها دافعاً لاستنساخ فكرة تشكيل المليشيات في دول أخرى تريد التأثير فيها... كل حسب ظروفها السياسية. وقد تكون أميركا هدفها التالي لنقل تلك التجربة إليها، وإن كان بشكل مغاير لما فعلته في الشرق الأوسط، خصوصاً أنَّ الظروف الداخلية فيها قد تساعد على نجاح تلك التجربة، من قبيل رغبة بعض الولايات للانفكاك من الولايات المتحدة، وهي بالطبع مهمة صعبة التنفيذ على إيران لوحدها، لكن بالتنسيق مع الصين وروسيا قد تجعل منها مهمة ممكنة التحقيق، خصوصاً أنَّ روسيا تتطلع للرد بالمثل على أميركا في تفكيكها للاتحاد السوفيتي سابقاً.

استناداً لما سبق، نستنتج أنَّ إيران قد تخطت خطوط أميركا الحمراء في حيثيات حرب غزة. ويبدو أن مراكز القرار في أميركا تعي هذا الخطر، وقد اتخذت فكرة المواجهة مع إيران "أو" أذرعها منذ فترة، بعد أن أبدت إسرائيل ودول خليجية أكثر من مرة رفضها محاولات الإدارات الأميركية استيعاب النظام الإيراني... فتوجهت دول الخليج، لا سيما السعودية والإمارات، إلى المعسكر الشرقي وعقدت اتفاقيات شراكة معها، ودعت الرئيس الصيني لحضور مؤتمر القمة الخليجي قبل أكثر من عام، وكل ذلك شكل نقطة انقلاب في الموقف الأميركي في تغير مواقفها تجاه إيران... فقد كانت الخطوات الخليجية تلك رسائل مباشرة لأميركا بأنها ممتعضة من النهج الأميركي المرن حيال الخطر الإيراني، وبأنها تمتلك خيارات أخرى غير أميركية يمكن اللجوء إليها في حال استمرار أميركا في نهجها هذا.

إقرأ أيضاً: وأخيراً... انتصرت إيران في العراق

عقب المواقف الخليجية هذه، تمت زيارات مكوكية لمسؤولين أميركان إلى الخليج وإسرائيل، وشهدت المنطقة خطوات سياسية مركبة بعيدة المدى تمثلت بتوجه سعودي إماراتي نحو تطبيع العلاقات مع إيران والانفتاح عليها، وتهدئة الوضع السياسي في اليمن والعراق، وإن كان التوجه إلى التهدئة في البلدين على حساب الحلفاء المحليين لأميركا بشكل مؤقت. هذه التحركات الخليجية حدثت بتنسيق عالي مع مراكز القرار الأميركية، وكان الهدف منها إبعاد دول المنطقة عن أي استهداف حال حدوث مواجهة في المنطقة مع إيران "أو" أذرعها... ونشهد حالياً نتائج هذا التوجه في أنَّ دول الخليج بمنأى عن أي تهديد إيراني أو مليشياوي، بالرغم من اشتعال جبهات كثيرة في المنطقة.

يبدو أنَّ مراكز القرار الأميركي ارتأت أن تكون المواجهة مع محور المقاومة بالانفراد بأذرعه الواحد تلو الآخر... ففي الوقت الذي كانت إسرائيل تتوغل في مناطق غزة، سارعت أميركا بإرسال بوارجها إلى البحر المتوسط، واستمرت في التأكيد على عدم رغبتها بتوسيع الصراع خارج غزة، وبذلك ضيقت مساحة ردود أفعال حزب الله، وأبقتها في نطاق قواعد الاشتباك، وعندما دخل الحوثيون الحرب، تولت أميركا مهمة الرد عليهم كي تتفرغ إسرائيل لحربها ضد حماس...

الآن وبعد تحييد قوة حماس إلى حد كبير، وتولي التحالف مهمة المواجهة مع الحوثيين، فإنَّ السيناريوهات القادمة للحرب تتجه إلى الاحتماليات التالية:

* عقد هدنة مع حماس في غزة بغض النضر عن تفاصيلها.

* يليه قيام الجيش اليمني الشرعي بالدخول في حرب برية ضد الحوثيين تزامناً مع القصف الجوي الأميركي على مواقعهم وتحييد الحوثي بشكل كبير.

* اشتعال الحرب بين إسرائيل وحزب الله على الحدود اللبنانية الإسرائيلية.

إذا أخذنا هذا السيناريو بنظر الاعتبار، مع وجود البوارج الأميركية في المنطقة، فإنَّ أي قرار إيراني بالدخول في مواجهة مع أميركا سيكون أشبه بالانتحار، خصوصاً بعد تحييد حماس والحوثي، لذلك فإنها ستتخذ خيار الصمت أمام مشهد قص أذرعها، لتفقد ميزة قتال أعدائها خارج حدودها، وتنكفيء على نفسها داخلياً... مبقية قرار اتخاذ المواجهة معها إلى الطرف الآخر الأميركي الإسرائيلي الخليجي... أمَّا المليشيات العراقية، فهي من أضعف حلقات محور المقاومة في المنطقة، ويمكن تشبيهها بضيف شرف على المشهد، ينتهي دوره بمجرد أن يسمع المخرج يقول "فركش".