بقصور سياسي وتخبّط منقطع النظير، قدّمت كلٌ من ألمانيا وفرنسا المزيد مما يمكن وصفه بـ"الشرعية" للمواطنين الروس من أجل إعادة انتخاب رئيسهم فلاديمير بوتين لولاية رئاسية إضافية، وذلك حينما كشفت موسكو عن مخطّط ألمانيّ لتفجير جسر القرم قبل موعد الانتخابات بنحو شهر، وكذلك من خلال إصرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا، من أجل مقاتلة الجيش الروسي.
هذا السلوك يؤكد حجم التخبّط الذي يرزح تحته أكبر وأهم دولتين في الاتحاد الأوروبي. كما يؤشر، في الوقت ذاته، إلى أنّ الحرب في أوكرانيا ربّما أمست في خواتيمها بعدما رجحت كفتها لصالح روسيا، وفشلت كل محاولات الدول الغربية في منع حدوث ذلك.
فضيحة ألمانية
حتى اللحظة، ترفض وزارة الدفاع الألمانية التعليق على التسجيل الصوتي المسرّب لضباط ألمان ناقشوا في اتصال هاتف مدته 38 دقيقة، هجوماً مفترضاً بصواريخ "توروس" على جسر القرم في روسيا.
وكانت رئيسة تحرير شبكة "روسيا اليوم" مارغاريتا سيمونيان، قد كشفت الأسبوع الفائت، عن تسجيل صوتي يتضمن تلك المحادثة التي حصلت في 19 شباط (فبراير) الماضي، بين الضباط الألمان لبحث كيفية ضرب جسر القرم في روسيا عبر مضيق كيرتش في البحر الأسود.
كما كشفت موسكو النقاب عن الشخصيات المشاركة في المحادثة، وهم: رئيس قسم العمليات في قيادة القوات الجوية الألمانية فرانك غريفي، ومفتش القوات الجوية إنغو غيرهارتس، وموظفا مركز العمليات الجوية فينسكي وفروستيدت.
وجاء في المحادثة، أنّ غريفي قال في إطار عملية التخطيط لاستهداف الجسر بصواريخ "توروس" الألمانية: "نحن بحاجة إلى تقسيمها (العملية) إلى مراحل. أولاً نبدأ بالخطوات البسيطة ثم ننتقل إلى الأكثر تعقيداً"، وأضاف في معرض النقاش مع زملائه: "يمكننا أن نتوجّه إلى البريطانيين بشأن إمكانية تقديم الدعم لنا في المرحلة الأولية، وأن يتعاملوا مع قضايا التخطيط؟".
شولتز يوارب.. ولا يتبنى
لكنّ المستشار الألماني أولاف شولتز لم يستطع التزام الصمت طويلاً إزاء هذه الفضيحة المدوية، إذ ردّ بأسلوب موارب في إحدى المناسبات الألمانية قبل أيام، فقال إنّ "برلين لن تسلّح كييف بصواريخ 'توروس' بعيدة المدى إذا استدعت الحرب في أوكرانيا مشاركة جنود ألمان لمساعدة الأوكرانيين في تشغيلها". كما أكدَّ أنَّ البريطانيين موجودون بالفعل في أوكرانيا، وهم من يدير العمليات.
وزادت تصريحات شولتس الأمور تعقيداً، إذ أكَّد مشاركة بريطانيا في مهاجمة الجيش والأراضي الروسية، لكن لم يُفهم من حديثه ماذا كان يقصد من تلك المقاربة، خصوصاً لناحية ذكره مشاركة الجيش الألماني في الحرب، خصوصاً أنّ فضيحة التسجيل الصوتي أتت في وقت تحاول فيه برلين تبني موقف أكثر اعتدالاً من الحرب الأوكرانية.
لكن يبدو أنّ هذا الموقف لا يعدو كونه شكليّاً ولا يقتصر إلاّ على الكلام الدبلوماسي المنمّق، إذ يذكّر مراقبون للموقف الألماني، كيف تراجع شولتز عن موقفه الرافض لتسليح أوكرانيا، وكذلك يوم رفض تسليم كييف دبابات "ليوبارد" ثم تراجع... واليوم يتحدث عن رفض تزويد الأوكرانيين بالصواريخ ذات المدى البعيد، ويرجحون أن يتراجع كذلك عن هذا الموقع على غرار المرات السابقة.
ماكرون ممتعض من ألمانيا الخجولة
وتتقاطع تصريحات شولتز "المراوغة"، مع ما دأب ماكرون على ترداده منذ مدة، وهو عدم استبعاد إرسال قوات غربية إلى أوكرانيا. يومها، قال ماكرون أمام الصحافيين بُعيد اجتماع أوروبي عُقد في باريس من أجل دعم أوكرانيا: "لم يتم التوصل إلى اتفاق لإرسال قوات... لكن لا يمكننا استبعاد أي شيء".
ماكرون أكد أنّ ممثلي الدول الأعضاء الـ27 في الاتحاد الأوروبي، سيفعلون ما بوسعهم من أجل منع روسيا من الفوز بهذه الحرب، مذكراً بأنّ الأشخاص الذين قالوا "لا" لإرسال المقاتلات، ثم "لا" لإرسال الصواريخ بعيدة المدى لأوكرانيا قبل سنتين، هم أنفسهم الأشخاص الذين يقولون الآن "نحن بحاجة إلى بذل المزيد من الجهد للحصول على الصواريخ والدبابات"، محذراً في الوقت ذاته من أنّ خطوات دعم أوكرانيا بتلك الأسلحة كانت تتأخر دوماً بين 6 و8 أشهر، وذلك في إشارة إلى ألمانيا ومستشارها شولتز!
وبالرغم من هذا التصعيد الأوروبي في المواقف والخطاب ذي اللهجة العالية، يبدو أنّ الأوروبيين يدركون حقيقة ما ستؤول إليه الأمور في أوكرانيا في غضون الأشهر المقبلة: هم يعرفون أنّ دعم أوكرانيا بالعتاد والأسلحة لم يعد هو المعضلة على وجه التحديد، إذ تعاني كييف من نزفٍ مخيفٍ بعدد المقاتلين، بينما التسليح، في الكم والنوع، لم يعد يجديها نفعاً، ولعلّ هذا الواقع ما دفع ماكرون إلى طرح فكرة إرسال المقاتلين الأوروبيين إلى أوكرانيا.
الواقعية تفرض نفسها
لكن بالرغم من ذلك كلّه، يبدو أنّ الأوروبيين في نهاية المطاف سوف يرضخون للواقع، وسوف يضغطون على السلطة السياسية في أوكرانيا ويدفعونها إلى التنازل من أجل القبول بالمفاوضات السياسية، وغالباَ ضمن الشروط الروسية.
هذا الموقف تؤكده الصحف الغربية، وكان آخرها صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، التي كشفت نهاية شهر شباط (فبراير) الفائت، أنّ المستشار الألماني شولتز والرئيس الفرنسي ماكرون، نصحا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أثناء لقائهما به في العاصمة الفرنسية باريس، بالانخراط في محادثات سلام مع روسيا، ممّا يعني أنّ ما يقوله الزعماء الأوروبيون في العلن يختلف عما يتداولونه في السرّ!
لكنّ الأكيد، أنّ الخطاب ذا النبرة المرتفعة والتهديد بزجّ الجيوش الأوروبية بالحرب الأوكرانية أو بنسف الجسور في روسيا، يدعم اليوم وجهة نظر الرئيس الروسي أمام المواطنين الروس، ويمنحه شرعيتين: الأولى للحرب والثانية لإعادة انتخابه... وهذا يلخّص بشكل موجز حجم التخبّط الأوروبي.
التعليقات