كان بإحدى كليات جامعتنا بناء قد جُدِّد، وكان مما استجدوه فيه وأضافوه إليه قبة من حديد متشابك كثيرة التفاريج والخِلال، فكانت تتوسط البناء من أعلاه، ثم كانت تتغشى البناء من أوجهه الأربعة قضبان وعُمُد من حديد، فبعض تلك العُمُد قد تربعت فأشبهت النوافذ، وبعضها عوارض قد أبرزت من البناء ثم أميلت فثبتت إلى الأرض، وبعضها أنابيب طوال غلاظ قد دُلِّيت على وجه البناء من يمين وشمال، فكان لا يمر المارُّ بهذه الحديدات إلا خالهن عنكبوتًا قد احتضنت البناء من أوجهه جميعاً، واستحوذت عليه من أقطاره كلها!
غير أني كنت أصدف عن هذا التخييل وأضرب عن ذلك التأويل، وأذهب ألتمس (اللعلات)، فأقول لنفسي: لعل هذه سقالات العمال، ولعل شيئاً حبسهم عن إتمام البناء، ولعلهم يفرغون منه قريباً فيرفعونها، ولعلهم سيُعشِّقون تلك القبة زجاجًا ملونًّا فتضيء ما حولها لألاءً وسنًى، وما زلت في تلك (اللعلات) حتى هُجِر البناء، وصدئت حديداته، وغُلِّقت أبوابه!
ولو أني أحسنت تصفح الوجوه والأحوال من حولي لبطل تعجبي، ولَقَلَّ التماسي (اللعلات) لما ليس يحتمل لعل وعسى وأخواتهما، ولعلمت أن تلك العنكبوت ليست بناء منقوصًا احتبس عنه البنّاؤون، وأن تربيعاتها ليست بنوافذ وإن أشبهتها، وأن قبتها لن تُعشَّق زجاجًا ولا صلصالًا وإن طال الأمد، ولكنتُ أبصرت أن مهندسيها قد أرادوا الحداثة والمعاصَرة لهذا البناء، فألبسوه (الشعاثة) ثوبًا وسَمْتًا!
و(الشعاثة) فى مصطلحي هي مذهب فى الحياة غربي مُحدَث، يعمد أصحابه إلى كل ما اعتدل واستوى، ووافق فطرة، ورضيته البديهة، وسكنت إليه النفس من سَمْت، وهيئة، وعمارة، وفنون، وأخلاق، فينقضوه نقضًا، ويُمَثِّلوا به تمثيلًا، ثم يقيموا من أنقاضه وأشلائه مُسُوخًا تنبو عنها العين، وتعافها الفطرة، وتصد عنها النفس، ثم يبعثوا له الدعاة والخطباء والفلاسفة ليتأولوا له التأويلات، ويضيفوا إليه المعاني والتخييلات حتى يزينوه في نفوس العامة من الناس فيألفوه ويعملوا به.
ولقد فشا ذلك المذهب في الغرب حتى صار لهم كالدين اللازم، فأصبح تَنَكُّب السواء عندهم هو الأصل المطلوب لذاته، وأضحى السواء عندهم هو العيب المرفوض لذاته!
ثم إنه مع الكَلَف والولع بكل غربي دون النظر في جودته أو رداءته فقد انتقلت تلك (الشَّعاثة) مع ما انتقل عبر البلاد والقارات حتى فشت في كل عاصمة ومدينة وقرية، فأصبحت ترى فى مدينتك أنَّى كان موقعها فى رأس جبل أو فى جوف صحراء، أسقاطًا من نفايات هندسية عوجاء مضطربة، مائلة ملتوية، ليس يقوم لها ركن، ولا يستقيم بها جدار، ولا يعتدل منها سقف، تعافها البديهة الهندسية للرجل الأميّ، وللأستاذ الجامعي، فإذا سألت: وما تلك؟! قالوا لك: تلك أبنية حداثيَّة من العمارة التفكيكيَّة بهندسة عصريَّة! فإن كنت حداثيًّا أو (شعاثيًّا إن اتسع صدرك للكلمة) تستأنس بكل ما شذّ، وندّ، وأغرب، فمرتعك خصيب، ومسرحك غير جديب، وأما إن كنت (دَقَّة قديمة) كمثل كاتب هذا المقال، فسيضيق صدرك، وينقبض فؤادك، وتتأذى عينك، وستَفِرُّ من تلك (الشعاثات الهندسية) ملتمسًا لنفسك بقعة لم تُمطَر بعدُ برُكام (الشعاثة)، وهل أفضل من المعرض الفني لتزوره؟! فهو غير بعيد، ويزعم أهل الفن أنه يحوز نفائس اللوحات، وطرائف الرسمات، ولن يكلفك من العناء إلا أن تستقل المترو فيحملك إلى هناك.
إقرأ أيضاً: يمام رمسيس
والمترو هذا (إن كنت حديث عهد به) هو أسرع وسيلة مواصلات تنقلك من (شعاثات هندسية) فوق الأرض إلى (شعاثات بشرية) فى جوف الأرض، فهو مجتمع (المشعَّثين والمشعَّثات)، وهو ناديهم وملتقاهم، وفيه يجتمع لك من صنوفهم ما لا يجتمع في غيره، فإنك ما إن تأخذ مقعدك منه وتنظر عن شمالك فهذا فتى ثائر الرأس بعيد العهد بالمشط شعره! وإن أنت أعرضت عنه إلى شمالك الأخرى فهذا صاحبه وقد مزق سراويله، وأرخى أحزمته، وكشف عن عوراته! فإن أشحت عنهما جميعًا ونظرت تلقاء وجهك فأنثى قد حلَّقت رأسها وحاجبيها، ووفَّرت شعر إبطيها، ووَشَّمَت ذراعيها! فإن كنت من (الدَّقَّة القديمة) ممن لا يدين (بالشعاثة)، وتثقل عليه مجاورة أهلها، وامتُحِنت بمثل تلك الصحبة، فلْتُدافع تلك الدقائق المعدودات حتى تسمع المذياع ينادى باسم المعرض الفني، وها أنت بين يديه، فهَلُمَّ إليه.
وإنَّ أول ما يلقاك في صدر البهو لوحة قد رُفعت إلى الجدار، وحُفَّت بالمصابيح والأنوار، وأقيمت عليها المراقبات والحراسات، وأحاطت بها النظَّارة والكاميرات، فما نشك أنها من النوادر والغرائب، فاملأ منها عينك، ثم أخبرني: أَبَعْدَ التقصي والتحقق، هل وجدت إلا أخلاطًا (شعثاء) من بقع وألوان وخطوط؟! ولولا بطاقة تعريف أنها للرسام العالمي أشعث بن أغبر، هل كنت لتظنها غير ممسحة فراشي في مرسم من المراسم؟! وهل كان عليهم شيء لو أنهم قبل عرضها قد حملوها إلى الطبيب النفسي ليتأول أضغاثها، ويحل أشعاثها، ثم أرفقوا بها تقريره لنستعين به على فحواها؟!
فيا أيها العقلاء من قومي، أهذا مضمار يتنافس فيه المتنافسون؟!
إقرأ أيضاً: متنبي مصر
إنَّ شمس الغرب تطلع من قِبَل مغربها كاسفة باردة عليلة، فتنبت في نفوس أهلها الوحشة، والشتات، والانتكاس، فيثمرون هذه المذاهب (الشعثاء)، والفلسفات الشوهاء، فما لنا وذاك؟!
إن شمسنا تشرق من مشرقها صحيحة مضيئة بلجاء، غير ذات عمايات ولا غيابات، فتبصرك القصد، وتهديك السواء، فما حاجتك إلى (شعاثة) آخرين تستجلبها استجلابًا؟!
إنك يا بن أُمَّتِى تحتاج من الغرب اثنتين: علمَ العالِم، وصنعةَ الصانِع، فهذه فأَفِدْ منها، واستجلبها، وأرسل بعوثك يتعلمونها، واستقدم بارعيهم يعلمونك، فأما ما سوى ذلك من (شعاثات) القوم فقد أبدلك الله خيرا منها، فاردد دونها بابك، وحصِّن منها ديارك.
التعليقات