منذ بزوغ الإنسانية، تواجه العقائد تحديات من الذين ثاروا عليها وتنوعت مآربهم بين الإصلاح والتجديد والنقد وأهداف أخرى غير معلنة. لقد استكشف الأفراد وكذلك الفرق مختلف جوانب العقائد، وبحثوا في فروعها، صولاً إلى جذورها العميقة أحيانًا. على سبيل المثال، عانت المسيحية منذ القرن الرابع حتى اليوم من موجات من المصلحين والمدعين والثائرين، حيث يعتقد كل فرد أو جماعة أن دعوتهم هي الأصح، وأن لها الأحقية على غيرها من الدعوات، ويجب اتباعها.

ومنذ ظهور الدعوات إلى العقائد، بدأت أولى علامات نقدها ونقد القائمين عليها ونقد تابعيها، بالكلمة الساكنة حيناً، وبالفعل المادي أحياناً، وحتى بوساطة الحروب الشاملة في كثير من الأحيان. اندلعت الخلافات في المسيحية بعد مرور ثلاثة قرون على عهد المسيح، وما زالت مستمرة حتى الآن، كما اندلع الخلاف في الإسلام بعد ثلاث ساعات من رحيل النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، وما زالت مستمرة ومتصاعدة. يعود السبب في ذلك إلى تحويل الرسالة الإلهية إلى وسيلة سياسية، مما أفرز الصراعات الشخصية على الزعامة، وهو صراع حتمي مادام المطلوب زعيماً وليس مصلحاً. وقتل ثلاثة من الخلفاء الأوائل، بينما يشاع أن الخليفة الرابع مات مسموما.
ويدفع سكان الكوكب كله اليوم - وأولهم المسلمين أنفسهم - ثمناً فادحاً في صراع لم يكن للعقيدة نفسها كرسالة سماوية أي دور فيه، لا بل تم استغلالها لشحن الكراهية المقدسة بين الفرقاء.

والعقائد التي لم يكن هناك مجال متاح لنقدها بغرض تجديدها انقرضت أو انحسرت، فالنسخة الأولى من العقل البشري الذي أيقن بأمور هي غيبيات، هذا العقل طرأ عليه تراكم معرفي وتطور اجتماعي واقتصادي وسياسي وثقافي، وهو ما حتم النظر إلى النصوص الدينية والنصوص العلمية أيضا من منظور المفاهيم التي استجدت بفعل الزمن.
على سبيل المثال، ليس منطقيا أن يظل الاستنجاء بالحجارة وتجارة العبيد وارضاع الكبير مفاهيم مستساغة في القرن الواحد والعشرين، وهو ما لا يمس أصول العقائد ولا ثوابتها فلم يتجرأ مصلح أو مجدد واحد في الاسلام على الخوض في الأركان.

في المقابل، لم تعد نظريات آينشتاين وداروين وغيرهما عصية على النقد والمراجعة، ونعتقد أن التجديد والتطور هو ضرورة إنسانية لاستمرار كل الانشطة البشرية في أداء رسالتها، فلم يكن متخيلا أن تستمر الصورة التي تبلورت في مجتمعات مختلفة ثقافة ولغة وخلفية عقائدية، أو أن تظل نسختها الأولى تسود إلى الأبد، فتطور المجتمعات البشرية الحتمي يكتسح كل ما من شأنه أن يوقف السنة الإلهية والمقصد السامي الذي خلق الكون على أساسه وهو التطور والارتقاء والاعمار المستدام للكون.

والمسيحية هادئة لأن التجديد والاختلاف أتاح لكل مجتمع اختيار مذهب يتوافق مع طبيعته وثقافته وخلفيته، وانحسرت موجات الصراع الديني (وان لم تختف) بعد تقنين وتوصيف وضع ووظيفة الكنيسة، ولم يعد ثمة تداخل بين الأرضي المحدود وهو شؤون الحياة، وبين السمائي المطلق وهو شؤون الدين، وتمت ترجمة الإنجيل بلا حساسيات ومن ثم تم توطين العقيدة، ولم تعد هناك النسخة الأولى (الأورجينال) لكن الجميع يتشاركون في مسيح واحد وانجيل واحد وقانون إيمان واحد.

على سبيل المثال أصبحت الأرثوذكسية هي النسخة المصرية للمسيحية الشرقية التى تشيعت لمرقص، بينما باتت الكاثوليكية هي نسخة روما التي تشيعت لبطرس، وأصبحت الكنائس تكنى بأعراقها الكنيسة الأرمنية والآشورية والكلدانية والسوريانيه. ولكن الفقهاء المسلمين وعلى الأخص غير العرب منهم بدلا من أن يختاروا توطين العقيدة فى المجتمعات فعلوا العكس، فاختاروا توطين المجتمعات في العقيدة وأعلوا مبدأ الدين والدولة طمعا في استمرار موجات الغزوات والفتوحات لتوسيع تخوم الدولة الدينية.
وبعد انهيار النسخة الاولى فى الصراع بين الامويين والعباسيين انهارت النسخة الثانية وطرد المسلمين من أوروبا وانهارت النسخة الثالثة نسخة آل عثمان وها نحن أمام انهيار آخر صورة مشوهة للعقيدة أضرت بها وبأتباعها أيما ضرر.

إن الصراع القائم منذ أربعة عشر قرنا بين الحلم المراوغ بدولة دينية تسيطر على الكوكب - هذا الحلـم الذي يؤجج الكراهية بين المسلمين - وبين كل مخالفيهم، هؤلاء الذين يعتقدون أنهم العقبة التي تقف فى وجه الحلم الكبير الذي يداعب الجفون ويظهر كسراب يتراءى للجميع ثم يضمحل وهم يلهثون خلفه ولا يدركونه، وفي هذا اللهاث المضني تقطعت الانفاس وتقطعت معها أواصر الصلة بالإنسانية.

هذا هو المنتج النهائي لثقافة الكراهية التي هي المتلازمة الابدية لثقافة فتح العالم واخضـاعه بالسيف، وكل من حاول الاقتراب من هذه الثقافة أو مجرد لمسها كان مصـيره القتل والتنكيل والتكفير.
كل من حاول مقاومة العنصرية والتمايز ودعا إلـى السماحة والعيش المشترك نال نفس المصير، من ابن خلدون إلى ابن عربي إلى محمد عبده إلى ابن أركون إلى نصر أبوزيد إلى فرج فودة إلى اسلام بحيري وغيرهم كثر.

إن التجديد والنقد والفحص هو ضرورة إنسانية لكل منتج بشري، ضرورة تفرضها المحافظة على استمراريته ومواءمته لحركة الحياة، أما غلق الباب أمام أي فكر جديد واعتباره بدعة سيعجل بالصدام الحتمي وأظن ما على الساحة الآن هو غنى عن الايضاح.