تصفح ذاكرة الوطن في العشرين سنة الأخيرة يؤكد أنها عاشت نزيفاً لم ينقطع منذ حدوث زلزال 2003 وآثاره التي بدأت تتراكم مع تصاعد الزمن والأحداث، وإذا كانت السنة الأولى لسقوط نظام صدام هي الأفضل والسنة الثانية أقل منها والثالثة أقل، تلك السنين الأولى كان يغطيها الدولار الأميركي وسماء الإعلام تمطر وعوداً وتبشيراً بالرفاهية الرغيدة وعودة الحرية المفقودة، غالبية الشعب صوتت على الدستور وتفاعلت إيجابياً مع جميع طروحات الاحتلال بعد أن حصلت على الممنوعين (الدولار واللطم)، وهكذا تواصلت مراحل ومنعطفات الخراب الزلزالي بتصاعد يتساوق مع الرغبة الأميركية، فقد أسقطت الدعامة العراقية العصيّة وبدأ تغيير الخرائط الجيوسياسية للشرق الأوسط.

تلك التحولات فككت معها العراق اجتماعياً بعد ارتفاع منسوب الطائفية السياسية، ثم إدخال البلاد في مرحلة الحرب الطائفية والعزل المناطقي، تلك المتغيرات الكارثية التي أطاحت بالعراق الواحد أنتجت متغيراً تاريخياً لم يحدث في أشد مراحل الانحطاط السياسي في تاريخ العراق؛ لقد تم استدراج الشعب إلى القبول بظهور عراقين: الأول عراق علني والآخر عراق سري، وكل من هذين الهيكلين يتصارعان على نحو منهجي في إمحاء العراق السابق والسطو على مقدراته وإنهاء مشروع الدولة العراقية كما يؤشر لذلك واقع حال الأحداث ودلالاتها.

العراق العلني: أي هيكل الدولة الجديدة؛ نظام ديمقراطي للعراق وسلطة فيدرالية لإقليم كردستان، وحريات وبرلمان ودستور وحقوق إنسان ومنظمات مجتمع مدني وتكافؤ بالفرص وعدالة اجتماعية وأمن مجتمعي ورفاهية وتنافس انتخابي وسلطة قضاء وتطبيق صارم للقانون، ومجالس محافظات لإنهاء فكرة احتكار سلطة المركز، بمعنى ذروة ما يحلم به المواطن منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، وجميع تلك المسميات هي مختصرات لتزويقات زائفة يتعامل بها العالم مع رؤساء العراق وسلطاته المتعددة في اللقاءات الرسمية.

العراق السري: أي عراق اللادولة؛ بلاد ممزقة وانكفاء طائفي وعرقي في نظام محاصصة لنهب المال العام من قبل الأحزاب المتغانمة على السلطة وإفقار الشعب، نظام تتحكم فيه مراكز قوى خفية من داخل العراق وخارجه، احتلالات وجيوش متنوعة يشترك بها عدد من الدول وعشرات الأجندات الدولية. العراق السري أصبح محطة لتهريب الأموال وتجارة المخدرات وعصابات القتل العلني والاغتيال المجهول ومختلف الجرائم البشعة، وغسيل الأموال وشبكات المصارف والصفقات المليارية والخطف وأنواع الملوثات الأخلاقية التي تفرزها مجتمعات الشرق الأوسط.

إقرأ أيضاً: العراق وأزمة الدولة الوطنية

الأحزاب السياسية صاحبة القوة والنفوذ والسلطة والسلاح المنفلت، تضع قدميها في العراقين العلني والسري، ما يجعل الفرز بين الدولة واللادولة أمراً في غاية الصعوبة، بل يستدعي عملية جراحية كبرى لإيقاف الآثار الكارثية لذلك الزلزال المدمر لبلادنا.

انقسام العراق بين السري والعلني جعله ينوء بحمل الديون والعجز السنوي في موازنة الدولة، التي تسوّق يومياً أربعة ملايين برميل نفط؛ بلاد النهرين بزراعة شحيحة وتخلو من الصناعة بعد أن حققت اكتفاءً صناعياً يبلغ نحو 60 بالمئة قبل أربعين سنة، أما الآن فإن التنمية متوقفة والخدمات متراجعة، وهناك جيوش من العاطلين عن العمل يوقدون بين الحين والآخر شرارات الاحتجاج والتظاهر والمواجهات الشعبية ضد قوى القمع التابعة لسلطةالأحزاب وأجنداتها الخارجية التي تخلف قتلى وجرحى ومعاقين.

إقرأ أيضاً: الديمقراطية العراقية: الإله الذي فشل!

باختصار شديد، يمكن القول إنَّ مشروع "الديمقراطية" في العراق قد فشل فشلا ذريعاً، جراء تمدد (العراق السري) أي اللادولة وقدرتها على خطف البلاد في تحويل لتسلق السلطة يأتي عبر مشروع "الانتخابات"، حيث تتصارع فيه قوى المال والسلاح ورغبات دول الجوار الفاعلة في الداخل العراقي، أما العملية السياسية وجدارها الإعلاني الكبير، فقد تجمدت قدرتها على الاستمرار بعد أن أصبح السلاح الخارج عن إرادة الدولة يمتثل لإرادات خارجية وهو المتحكم والمتجاوز على خطاب الدولة أي "العراق العلني".