مَن يُتابع أداء قوى اليَسار، في الوطن العَربي والعالم عُموماً، خلال العُقود الماضية، سَيُلاحِظ أنَّها في أغلبها قد انحَرَفت عَمّا كانت تَتبنّاه مِن قِيَم تقدّمية حَداثَوية، وارتَمَت في أحضان الإسلام السياسي، وباتَت ذيولاً تتماهى مَعَه قولاً وفِعلاً، سَواء عِبر تأييدها لانقلابه على مَفهوم الدولة المَدنية، أو عِبر الإشادة برُموزه ومَشاريعه الظلامية والذوبان فيها، بَدَلاً مِن السَعي للنُهوض بوَعي الناس، وقيادة نِضالها ضِد رَجعيته. بل باتت تُنَظِّر لِما يَتبَنّاه مِن عُنف ويُشيعَه مِن تطَرّف، حَتى أخذ يَنطَبق عَليها "لِصاحِبه الجَمهورية الإسلامية أو الإخوان". بَعضَها، كما في العراق ولبنان واليَمَن، تعامَلت مَع الأمر بازدِواجية وطائفية، حينَ تحالفَت مع الإسلام السياسي الشيعي، وأدانَت السُنّي. بل وذهَب بَعضَها إلى اعتبارها كقوى تقدّمية بمواجهة إمبريالية الغرب الذي يَعيشون في دوله، ونَظّّروا لثورات دينية، كثورة الخميني، بوَصفِها فِعلاً تقدّمياً هَدفه الانتصار للمُستضعفين.

اليَسار العراقي:
مَمَثلاً بالحِزب الشيوعي العراقي، كان اليَسار العراقي سَبّاقاً في الغَرَق بوَحل الإسلام السياسي الشيعي، إذ تحالف مَعه أيام مُعارضة صَدام، رَغم تأريخ الأحزاب الشيعية ومَراجِعها الأسود مَعه وفتواها بتكفيره، ورَغم أنها كانت ترفُض الجُلوس مَعه في قاعة واحِدة بمؤتمرات المُعارضة! بَعد الإطاحة بصدام، وبَدَل التحالف مَع قوى مَدَنية، وتشكيل جَبهة تضُمّها، بَلع هذا اليسار الإهانات، وتحالف مَع الإسلاميين، وكانت قياداته ترتدي أكفانهم، ودَخَل مَعهم الانتخابات في قائَمة واحدة وفشِل كالعادة! بعد 2003، حَرصَ الحزب على أن يكون له دور في الطبخ وإقامة العَزاء وتنظيم مَواكب عاشوراء. وآخر المَتَمّة تصريح سكرتيره بأن بَيع الخُمور في بغداد أكثر من أوروبا! وهو كلام مُخجِل، لأنه كذِب وتمَلّق بَخس للإسلاميين.

كذلك كان بَعض مُثقفي اليَسار العراقي سَبّاقين في الإشادة برُموز الإسلاميين والذوبان في مَشاريعهم الظلامية، حتى عِبر الحدود، كمَشروع الخميني الذي قال فيه أحَد شُعراء الحزب الشيوعي، الذي نَظم أعذَب قصائد الشِعر الغنائي العراقي، ما لم يَقُله مالك في الخمر: "مُبايعٌ طيني وحُبٌ كُله.. مُبايعٌ أنَّك بين الدُّول الكُبرى الإمام". وهو نفسه خاطب قبله بعام المَعتوه جهيمان العتيبي الذي قام بإحتلال الحَرَم المَكّي: "يا جهيمان حَدّق.. فما يملكون فرائِصَهُم"، بل وتَهَجّم على اليسار لأنه لم يَدعَمه بقوله: "لم يُناصِرك هذا اليَسار الغبي"! ومثله فعل رفيق له مع أبي بكر البغدادي، حيث شَبّهَه بهوشي منه في كلام مُرسَل يُسَمّيه البَعض قصيدة! وتمنى سقوط بغداد بيَد دَواعِشه ليُخرجوا المُحتل البريطاني، الذي استضافه ومَنَحه جنسيته وأكرَمه في سنواته الأخيرة! في حين أن كليهما، الخميني والبغدادي، يمثلان فكراً رَجعياً مُعادياً للتمَدّن الذي يَدّعيه الشاعِران وحِزبهما، وكانا سَيَكونان مِن أوائل ضَحاياهم لو تَحَقّقت أمنياتهما الغبيّة بأن يَحكموا!

اليَسار المصري:
أما اليَسار المَصري، فقد تَوّج خَسارته لقواعده الجَماهيرية وحَواضِنُه المَدنية لصالح تيّار الإسلام السياسي، بالتحالف مَع الأخوان في إنتخابات 2012، وترجيح كَفّة الرئيس محمد مُرسي على كفة أحمد شفيق فيها، فساهَم بإيصالهم للحُكم. في أيام الرئيس الأسبق حسني مبارك، وبَدلاً مِن التحالف مَع الدَولة التي تلتقي مَعه بما يَدّعيه مِن عَلمانية ومَدَنية، تحالف مَع الإسلاميين تحت شِعار "مَع الإسلاميين أحياناً، وضِد الدَولة دائماً"، في صِراعَها مَع الأخوان، مُتجاهِلاً التَضاد الفكري الذي بَينَهُما. ولم يَقِف تقارب اليَسار مَع الإسلاميين عند كِذبة الدِفاع عَن الديمقراطية والحُريات، بل إنحَدَرت بَعض قواه الشَبابية للتنظير بإنتهازية للعَمَل مَع الإسلام السياسي كتكتيك مَرحَلي، تعويضاً عن الوَهَن الجماهيري الذي يُعاني منه اليَسار مُنذ عُقود، لرَغبَتها في الانتِشار، وهو ما أضعَف الحَركة اليَسارية ونَخَرها بَدلاً من أن يُقوّيها، لأنه رَفَدَها بدِماء فاسِدة، بَدَل الدِماء الشابة التي كانت يَبتغيها.

ما دَفع جيل اليَسار الناشيء لإتخاذ هذه الخطوة الغبية هو قِلّة خِبرَته، واعتماده طروحات جيل سَبَقه مَأزوم بعُقدة السُلطة، الى حَد تغيير جلده للوصول إليها. مثل حسن حنفي الذي باتَ يُقدم نفسَه كمُنَظِّراً للإسلام اليَساري! وعادل حسين الذي قفز مِن قارب الماركسية الى قارب الإسلاموية! ومحمد عمارة الذي انتقل مِن الماركسية مارّاً بالاعتزال فالسَلفية، والذي مِن المَهازل التي جَرَت أثناء فترة تحَوّله، أنه حين سُجن في الستينيات، كان يَجمَع رفاقه الماركسيين في مكان للصَلاة، سُمّي بـ(مَسجد الشيوعيين)! ومحمد كشك، الذي كان يَفخَر أنه إنتقل مِن طليعة العَمل الشيوعي الى صَدارة الفكر الإسلامي! كل هؤلاء، إضافة لِعَبد الوهاب المَسيري الذي بدأ شيوعياً وخَتَم إسلامياً، كانوا يَساريين، لكن بَعد هُبوط أسهُم اليَسار بالشارع المَصري قفزوا في وَحل الإسلام السياسي، ويَبدو هذا جَلِياً في رؤاهم الهَجينة التي كانوا يَطرَحوها بكتاباتهم. فتارة يَدعون للديمقراطية، وتارة يُرَوّجون للخِلافة! تارة يُنادون بالنَهضة، وتارة يُنَظِّرون للسَلفية ويؤيدون الإرهاب! إما لرَغبة بَعضهم في الحِفاظ على تواجُدِه على الساحة كمُفكر ذائِع الصيت مَع صُعود أسهُم التيار الديني، وتحقيق أحلامَه التي فَشِل بتحقيقها كماركسي! أو سَعياً لمَكاسب سياسية، عِبر تمَلّق الجَماهير الدينية، بنَزع ثوبه الإشتراكي وإرتِدائه لثوب المُسلم المُتدَيّن.

اليَسار اليمني:
قوى اليَسار في اليَمَن، التي يُفترض أنها امتَلكَت خِبرة حُكم لعُقود في ما كان يُسَمّى باليمن الجنوبي، بدَورها لم تكن أفضَل حالاً مِن نظيراتها في باقي الدول العَرَبية، فقد تواطأت مَع الحوثيين، وتحَوّلت إلى داعِم ومُبَرّر لجَرائِمِهم تجاه دَولة اليَمن وشَعبها، وأكّدَت عِبر الكثير مِن المَواقِف السلبية، تخليها عَن قضاياها الأساسية ومَشروعها التحديثي، وارتِمائها بأحضان مَشاريع رادِكالية، وبشَكل مُخزي. فقد إنخَرَطوا في تحالفات سياسية مَشبوهة، لمُجَرّد الرَغبة في الإنتقام مِن خُصومِهم، أو للبَحث عَن مَوطيء قَدَم في دَولة الحوثيين المُستقبلية، وبأدَواتهم. يَساريّوا اليمن، عِبر سَعيهم لإضعاف الدَولة، ساهَموا في تهيئة الظروف لقيام دولة مليشياوية مَناطقية طائفية يَقودها الحوثيون، بل وكانوا كتفاً بكتف الى جانبهم في مَعاركِهم. كما تحَوّل رُموز اليَسار إلى مُنظّرين لمَشروع الحوثي، حَتى وَجَدوا أنفسَهُم أمام ملشياته الإجرامية المُندفعة نحو مَناطق وسَط وجنوب البلاد الذي كان يُمَثّل عُمق يَسار اليمن، وعِندها إنعَقدَت ألسِنَتهُم، وعَقُمَت فلسَفتهم ونظَريّاتهم.

اليَسار اللبناني:
أما في لبنان، فقد تحالف اليَسار مَع حِزب الله، وجَعل صَحيفته (الأخبار) بوقاً له، بحُجّة أنّهما يَسعَيان لهَدف واحد، وهو نُصرة المُستضعَفين، ومُواجَهة الإستِكبار العالمي الذي يُمَثله لهُم الغرب، لأنّهُما قياداتاً وقواعد يَنظُران الى العالم مِن ثُقب عُقدِهِم المَناطقية والطائفية. فرَغم أنّ اليَسار وحِزب الله يَبدُوان على طَرَفي نقيض، إلا أنّهُم يَلتقيان فِكرياً وهيكلياً أكثر مما يتوقّع البعض. فأدبيات الحِزب معتقدات دينية بصِبغة يَسارية، وهَيكليته تبدأ بأمين عام يُشبه سكرتير الحِزب الشيوعي، ثم مَكتب سياسي يُشبه اللجنة المَركزية للحزب الشيوعي. لكل مُسَمّياته، لكن الهَيكليّة واحِدة، وهي هَيكلية الفِكر الشُمولي. لذا رَغم أن الحِزب لفظَ اليَسار، حين لم يَعُد رَقماً مُهِمّاً في المُعادلة، وذَهَب لحَليفه الجَديد عون، إلا أنه بَقيَ بالنسبة لأغلب اليَساريين كتنظيم يَساري يُدافِعون عَنه بوَجه مَن يُوَجِّه له النَقد، ويَتَرافََعون عَنه كالمُحامين في الإعلام والمَحافل الدولية. أغلب المُثقفين اليَساريين في لبنان يؤيدون الحِزب، ويَرفضون تحميلَه مَسؤولية تدمير البلاد. فهو بالنسبة لهُم يُقاتل عَدوّهم الكلاسيكي، لذا يَتغاضون عَن جَرائِمه وفساده، وفق رؤية شيزوفرينية مازوخية بإمتياز.

اليَسار الإيراني:
حِزب تودة، الذي كان يُمَثِّل اليَسار الإيراني إصطَف مَع الخميني ضِد الشاه، وعَبّد له الطَريق الى السُلطة، وكانت لأمينه العام رادمَنش صِلة بالخميني، فقد كانا يَلتقيان خلال وجودِهُما في العراق. بَعدَها بعُقود شاهَدتُ لِقائاً تلفزيونياً لإمبراطورة إيران السابقة، أجرَته مَعَها صَحَفية إيرانية، كان أبواها يَساريان في حزب تودة، ساهَما في الثورة التي قامَت ضِد الشاه وأوصَلت الخميني للسُلطة، ففَعَل بهم ومَعَهُم ما لم يَفعَل الشاه عُشرَه، ولا زِلت أذكر ما يُشبه إعتذار إحداهُما للأخرى عَمّا حَصَل لكِلتاهما، وبالتالي لإيران، والذي كان يُمكن تَجَنّبه لو كان الطرفان حينها أكثر حِكمة.

رَغم كل ذلك إحتاج حزب تودة 33 سنة لِيُسَجّل خيبة أمَله مِن نِظام المُلالي في بَيانه بمُناسبة الإنتخابات الرئاسية الإيرانية عام 2013! وكأنه إكتشف هذا الأمر تَوّاً! مُتناسياً أنه ذات النِظام الذي قَبّل سِكرتيره الأول نور الدين كيانوري يَد مُؤسِّسه الخميني، فكانت قبلة موته هو وكوادر حزبه إعداماً وإغتيالاً وسِجناً على يَد ذات النظام! كما أشار الحِزب الى "فوز قوى الظلام" في الإنتخابات قاصِداً روحاني، وكأن مُنافِسه رفسنجاني بات تنويرياً! مُتناسياً أيضاً بأنه كان مِن أبرَز قادة ذلك النِظام في ذَروة بَطشِه بكوادِر حِزبه في الثمانينات. فهَل تَعَلم شيوعيو تودة أن الرِهان على العَمامة كان السَبَب في نهاية حِزبهم، التي لم يَستطِع الشاه والسافاك تحقيقها، فحَقّقتها العَمامة التي شارَكتهم زاد ومِلح سُجون الشاه ومُعتقلاته.

مِحنة اليَسار عُموماً:
قد لا نُبالغ إذا قلنا أن ما أشَرنا إليه في هذا المَقال، هو غَيض مِن فَيض إشكالية تعيشها أغلب قوى اليَسار حَول العالم. فَقِلة مِنها نَضجَت بَعد أن تعَلّمَت مِن تجاربها، وباتت تُمَيّز عَدُوّها مِن صَديقها. فهذه المَواقف المُخزية لليَسار ليسَت حَكراً على دُوَلها الأم، بل تجاوَزَتها لجالياتها في الخارج، التي يُشاركها يَسار الغَرب إنبطاحَها أمام قوى الإسلام السياسي التي بَدَأت تنخُر مُجتمَعاتها، مُستغِلة الهامِش المُبالغ فيه للحُرّيات الأساسية وإحترام حقوق الإنسان، ومُشاركتها لفعالياتها وتظاهُراتها التي تهدُف لزَعزعة وتقويض ديمقراطياتها، التي سَمَحَت لها بالعَمل السياسي، مِن باب عَفى الله عَمّا سَلَف، ولم تُحاسِبها على عُقود العَمالة والتآمر مَع المُعسكر الإشتراكي. فكثير مِن قياداتها التي كانت تأخذ التوجيه مِن الإتحاد السوفيتي لتُسقِط أنظِمتها الليبرالية، وجَعلها تابعة للإتحاد السوفيتي، باتَت زَعامات سياسية في دول الغَرب بَعد تغيير أسماء أحزابها الى أسماء تُماشي مَرحَلة ما بَعد الحَرب الباردة.

عَدوى هذا العَوَق الفِكري إمتدّت لتشمل مُفكري اليَسار الغربي. فالمُفكر اليَساري الفرنسي فرانسوا بورغا، مُؤلف كتاب "الإسلام السياسي صَوت الجَنوب" مَفتون بقوى الإسلام السياسي، ويَعتبرها مُمَثِّلة للشُعوب العَربية الإسلامية، وتُعَبّر عَن تَطَلّعاتها! أما عضو حِزب العمّال البريطاني المُفكر الماركسي كرِس هَرمان مؤلف كتاب"النبي والبروليتاريا"، فقد نفى صِفة الرَجعية عَن الإسلام السياسي، داعِياً اليَساريين للتحالف مَرحَلياً مَع الإسلاميين، وذَهَب بهَلوَساته الى حَد وَصف الإرهابيين الذين أشاعوا الإرهاب ورَفَعوا السِلاح بوَجه الدَولة، في التسعينات، في مصر،بالمُناضلين، داعِياً لِعَدَم الوقوف مَع الدَولة لِدَرء خَطَر الإسلاميين، وعَدَم إستِنزاف طاقة اليَسار "وقواه التقدمية" في مُهاجَمتِهِم وتشويهَهُم بحُجة نَشر القِيَم التنويرية! كونه يَرى بأن الحَركة الإسلامية هي نِتاج لأزمة إجتماعية، لذا يُمكن إستِقطاب الشباب الإسلامي نحو الأفكار التقدّمية لإعتِناق رُؤية إشتِراكية ثورية! لكن عَماه الآديولوجي مَنَعَه عَن رؤية أن ما يَحدُث في الواقع هو العَكس تماماً.

الخلاصة:
ما الذي جَعَل اليَساريين أداةً للإسلاميين ومِطية لمَشاريعَهم الظلامية التي تتعارَض مَع تقدميّتهم وحَداثويّتهم التي يَدّعون؟

رُبما أولاً لأنهما مُتشابِهان، وشَبيه الشَيء مُنجَذِب إليه. لذا تغيير اليَسار لجِلده ليُماشي التيار ليسَ صَعباً. فهُما يَمتلِكان ذات المُؤهلات في السَعي لإشاعة الفوضى، ويَتبَعان ذات الأساليب في النِفاق وخِداع الناس وإستغفالهم للإتجار بمُعاناتهم، ويَحمِلان ذات العَقلية الشُمولية التي تدفَعَهُم لتنصيب أنفُسِهم كأوصياء على البَشَر أو مُحامين عَن الله.

ثانياً الخَيبات المُتتالية التي مُنيَ بها اليَسار العَربي عُموماً والعِراقي تَحديداً، على مَدى عُقود، والتي دَفعَته لقَبول أي شَيء، وإن كان مُهيناً، والتَحالف مَع أي كان، وإن كان الشيطان نفسه، للحُصول على مَوطيء قدَم في سُلطة، بَقِيَت غَصّة في حَلقه، وَصَلت إليها أحزاب ظَهَرَت بَعده، لم تكن لديها رُبع جَماهيريّته. فقد عَجِز عَن فرض نفسِه كقوة مُؤثرة في المُجتمَع العَربي، ليَجد نَفسَه مُهَمّشاً في الساحة التي حاوَل مَلأها لعُقود دون جَدوى بسَبب تبعيّته للإتحاد السوفيتي. لذا قرّر التَزَلّف للإسلام السياسي، مُتنازلاً عَن هَويته ومَبادئه.

ثالثاً مَفاهيم اليَسار الغريبة على مُجتمَعِنا، وطَرحِه شعارات قد تُبهِر وتَجذُب أفراداً يُعانون مِن عُقد طبقية، أو شَباب مُندفع يَميل للفوضى والعَبَث يَرفَعها في تظاهُراته، لكنها لا تقنِع مُجتمَعاً له خصوصِية، بالتالي لا تُعَمِّر دُوَل. لذا بَقِيَت شِعارات يَلوكَها اليَساريون ظاهرياً في نِقاشاتِهم، دون أن تُغَيّر أسُس المُجتمَع المُتكَلس على ما نَشَأ عليه مِن إرث مُتخَم بتقاليد بالية، وتشريعات دينية مَبنِيّة على تفاسير، إما أكَل عليها الدَهر وشَرِب مُنذ قرون، أو رَوِّج لها مِن قِبل طبقة رجال دين طفَيليّون يَعتاشون على ما تُشيعه مِن جَهل بَين الناس ليَستمِروا بإستِغلالهم.

رابعاً الإنتقام والتشَفّي الذي يُغذيه عَدائَهم الآديولوجي لقوى السُلطة، لأنها نجَحَت بما فشِلوا فيه، لذا يَدعَمون الإسلاميين لإسقاطها، مِن مَنظور عَدو عَدوّي صَديقي!

بالنتيجة هُم يُكرّرون جَرائِم الأمس بحَق أوطانِهِم، بغَباء آديولوجي مُنقطع النظير، ويُساهِمون في تقويض أسُسِها بفتاوى وإرهاب الأخوان وإيران، كما فَعَلوا في السابق ولكن بمِعوَل ومِنجَل الإتحاد السوفيتي، لِبَدأ عَهد ظلامي جَديد على أسُس إسلامية طائفية، سَيكونون هُم أول ضَحاياه. عَهد مُشوّه يُلغي كلّ ما سَبَقه مِن تأريخ، ليَبدأ تأريخاً جَديداً، يُرَسِّخ ثقافة عُقد النَقص التي زُرِعَت في عُقول الإسلاميين وكثير مِن اليَساريين ويُريدون تَسويقها لأجيال قادِمة، مَفادها أن قبل هذا التأريخ كان في العراق ولبنان واليَمَن مَظلومية وإستِغلال وتمييز لمُكوّناتهم المَناطقية والطائفية، وكانوا مُستَضعَفين ومَحرومين مِن أبسَط حقوقهم، وغيرها من الأكاذيب. وإذا إستَمَر اليَسار على هذا المِنوال، أي بوَضع بَيضَه كله، أو حَتى بَعضه، في شَدّة العَمامة، فإنّ القوى الدينية التي إستَعذَب التحالف مَعَها سَتبتلِعه، ليُصبح مُجَرّد هامِش تابع، سَيَذكره التأريخ بإحتِقار في أسوَء صَفحاته بإسم اليَسار الإسلاموي المُرتهِن للعمامة!