عندما أمر بالشارع الرئيسي للمدينة التي أقطن فيها بلندن، أشعر وكأن الشارع بأكمله قد تحول إلى محال للتجميل والعناية بالأظافر، حتى أنني فكرت لوهلة أن أغير مسار عملي الذي لم يعد يطعمني خبزاً، خصوصاً بعد شيوع أزمة "استكتاب" الصحافيين على مستوى العالم، ومنحهم أجوراً زهيدة للغاية أو معدومة تماماً، وعدم الاهتمام بظروفهم المادية والاجتماعية، وكأن الصحف تطبق حرفياً على من "ابتلوا" بمهنة المتاعب، المبدأ الاقتصادي الشهير "دعه يعمل... دعه يمر"، ولكن على طريقتها الخاصة "دعه يكتب... دعه يذهب"!
إنَّها فلسفة "قاسية"، تشبه إلى حد كبير الفرق بين أن تكون أنت أحد الركاب في سيارة تقل أكثر من حمولتها، أو أن تكن أنت من يقودها وعليك أن تحدد من يبقى ومن ينزل منها لتحافظ على سلامتها، غير أن معظم الصحف تتعلّل بمحدودية ميزانيتها ومواردها المالية، في ظل توقف المبيعات والإعلانات، وهي الشعرة التي قصمت ظهور الصحافيين. وهذا أمر صحيح إلى حد كبير، عندما تتعمد الحكومات ترك الصحافة تعيش أزمتها الوجودية، وهو خطر يهدد الديمقراطية في العالم ويزيد من فساد الحكومات وتغوّلها عندما تكون الصحافة ضعيفة.
لكن مهما كان السبب، علينا أن ننظر إلى أمر تخلي الصحافييين عن مهنتهم من منظورهم، وليس من وراء كرسي إدارة الصحيفة.
على أي حال، بالنسبة لي شخصياً، أشعر أن التخلي عن الكتابة ليس بهذه البساطة، بعد سنوات من العمل الصحافي، وتذوق لذة العمل الميداني.
عندما أفكر في هذا الأمر جدّياً، أشعر أن الصحافة أكثر بكثير من مجرد مهنة أجني منها راتباً شهرياً، صحيح أن الدخل مهم جداً لأنَّ الحياة العصرية تحاصرنا بمصاريف لا نهاية لها، إلا أنَّ الصحافي الحقيقي لا يضع ثمناً للمتعة التي يحصل عليها من لذة الكتابة، إنها المنظور الذي يرى من خلاله نفسه والآخرين والعالم من حوله.
المشكلة، أننا لسنا بالضرورة عاجزين عن النجاح في مهن أخرى، بل لأن ذاكرتنا تركز أكثر على طموحاتنا الطفولية. فتصبح فكرة فقدان وظيفة عمرنا وفي سن متأخرة نوعاً ما، مثيرة للقلق أكثر من أي شيء آخر، فهي تشعرنا أن شخصياتنا لن تكون حقيقية عند القيام بوظائف أخرى، وأحلام حياتنا لن تعود كما كانت بعد الآن. وربما يجد البعض منا أنفسهم مدمنين بشكل ميؤوس منه على الاعتقاد الخاطئ، بأن مهنهم الأصلية هي من ضمن أثمن ممتلكاتهم، لكن ربما تكون المهن البديلة أو الطارئة مماثلة في قيمتها بالنسبة للبعض الآخر.
طموحات وأحلام الطفولة تكتسب أهمية استثنائية، لأنها تشير إلى ما تعنيه الحياة بالنسبة لنا، فإذا كانت مهننا الأولى، على سبيل المثال من ضمن ما سطره لنا آباؤنا منذ الصغر من طموحات، فإن ذلك يعني أننا نتعامل مع الحياة من منظورهم وليس من منظورنا، لذا يتوجب علينا أن نتعلم أيضاً كيف نعيش حسب قواعدنا نحن أيضاً، وليس فقط ضمن ضوابط وضعها لنا آباؤنا. فإذا خسرنا وظيفة ما علينا سوى المضي قدماً، ولتكن لدينا الثقة الكاملة أننا قادرين على تحويل الألم إلى طاقة هائلة، بحيث تصبح الخسارة سبباً للتقدم بشكل أكبر في المهن البديلة.
كثيراً ما نغفل عن الأثر غير المتوقع للطموحات التي يسطرها الآباء لأبناء منذ الصغر، وتأثيرها على على نجاحهم في الحياة لاحقاً، فأحياناً تتحول البيئة الأسرية إلى وبال يدمر قدرات الأطفال، بسبب أجوائها المليئة بالضغوط والمشحونة بالتوقعات، من دون ترك المجال للأطفال ليختاروا ما يجب أن يكونوا عليه مستقبلاً.
إقرأ أيضاً: تونس تحتاج سياسِيين لا عبثيين!
أستحضر هنا قصة "معجزة الرياضيات" صوفيا يوسف، التي لطالما احتفلت ماليزيا بعبقريتها، وسجّلت اسمها لتدخل جامعة أوكسفورد وعمرها 12 عاماً، لكنها تخلت عن دراستها قبل أن تكمل امتحانات التخرج، وبدأت العمل كنادلة في مطعم، ثم أصبحت لاحقاً بائعة هوى!
بالطبع، ليس الهدف من مقالي هذا توجيه الاتهام إلى الآباء، أو رواية تجارب شخصية عابرة، بقدرما هو طرح لرؤية واقعية للتغيرات المهنية السريعة التي فرضتها التكنولوجيا والاقتصاد والمجتمعات المفتوحة، حيث لم تعد الطموحات والأحلام المهنية تقليدية ونمطية ومنغلقة على الذات والأشخاص، ومن المهم جداً منح الأطفال صلاحية اتخاذ القرارات قبل فوات الأوان. وهذا يتطلب من الآباء التحلي بالواقعية والشجاعة للتخلص من الطموحات عديمة الجدوى، والقيام بكل ما هو ضروري لرعاية المهارات المختلفة لأبنائهم، وتطويرها بشكل مستمر، حتى يكونوا قادرين على التكيف مع مختلف التغيرات.
إقرأ أيضاً: ثروات "سبام" ولا في الأحلام
هناك مقولة قديمة "الحياة هي ما يحدث عندما ننشغل بوضع خطط لأمور أخرى". وتصحّ هذ المقولة بالنسبة للكثيرين منّا؛ خصوصاً لمن فقدوا وظائفهم بشكل مفاجئ وفي أوقات قلّما توقعوها. رغم ذلك، فالحل لتحويل هذه المفاجآت السلبية إلى أمور إيجابية، يكمن في شيء من المرونة والاستعداد النفسي، والتخطيط الواقعي لكيفية الانتقال من وضع إلى آخر.
علينا جميعاً أن نتذكر أن أقدارنا ليست مكتوبة بالمعنى الحرفي الذي ربما نسمعه يتردد كثيراً على ألسنة الناس، والأمر المهم هنا هو أن نشعر بالثقة في أنفسنا، وبأن الأمور ستسير على ما يرام مهما كانت الخسارة مكلفة.
التعليقات