بداية لا بد من التذكير بمعطى تاريخي مهم لفائدة الأجيال الجديدة، بمناسبة الذكرى الفضية لجلوس العاهل المغربي الملك محمد السادس على العرش، يتمثل في أن قصة ميلاد عيد الجلوس هذا مغربيا تُقدِّمُ الدليل على المعنى الأصيل لفكرة "ثورة الملك والشعب" بتوابلها المغربية الخالصة، تلك التي حققها المغاربة في الدولة والمجتمع زمن الإستعمار رسالةً سياسيةً على تلاحُمٍ وطنيٍّ في الماضي وفي الحاضر وفي المستقبل.

إن ميزته الكبرى أنه عيد وُلِدَ من رحم الشعب المغربي وليس بقرار من الدولة. أي أنه قد ولد بمبادرةٍ من نُخَبِ المغاربة الوطنية تُرجُمانًا على تكاملٍ بين العرش والشعب ورسالةً سياسية إلى المستعمر مفادها أن صخرةَ الوحدة الوطنية المغربية صلبة. لذلك فهو عيدٌ مغربيُّ وطنيٌّ بامتياز منذ الولادة في بداية ثلاثينيات القرن العشرين (1934).

إن المقصود هو أن قرار إحياء عيد العرش تزامن مع ميلاد نخبة سياسية مغربية جديدة ستبلور أشكال عملها عبر واجهات متعددة (تعليم، إعلام، شبيبة، انتخابات... إلخ)، كان تجسير العلاقة مع القصر واجهة محورية ومركزية منها. لأنه لا يمكن إغفال أن مخطط الإقامة العامة للمستعمر الفرنسي قد راهن على تطويق شخص السلطان محمد بن يوسف وتحديد (بل توجيه) شكل علاقته مع عموم شعبه منذ جلوسه على العرش خلفا لوالده السلطان مولاي يوسف يوم 18 نوفمءبر 1927. وهو المخطط الذي سيتم نسفه بتدرج على مدى 15 سنة من قبل تلك النخب السياسية المغربية الشابة (المدينية) الجديدة، عبر مخطط مضاد عمل على تجسير العلاقة بينها وبين الجالس على العرش على أساس مشروع وطني تحرري ديمقراطي. كانت نتيجته أن أصبح الملك الوطني محمد الخامس رأس حربة معركة التحرير من أجل الإستقلال فاكتسب ليس فقط الشرعية التاريخية والسياسية بل أيضا الشرعية الوطنية. حيث كان من بين أدوات العمل لتنفيذ ذلك المخطط الذكي قرار إحياء عيد العرش شعبيا (الذي انطلق عمليا من مدينة فاس) الذي تحول على كامل امتداد التراب الوطني المغربي إلى محطة لرص الصف حول موضوعات "الحرية / الإستقلال/ الوطنية"، من خلال حفلات عمومية لم يكن المستعمر قادرا على منعها.

من حينها ولدت نخب سياسية حزبية مغربية جديدة سيتواصل تأثيرها جيليا حتى نهاية القرن العشرين (رسخت التعددية الحزبية باكرا بالمغرب حتى وكل العالم العربي يذهب في اتجاه منطق الحزب الوحيد). إن من لم يستوعب شرعية الميلاد الوطنية هذه في العلاقة بين النخب الحزبية والعرش في المغرب، لن يفهم عمق معنى شعار "ثورة الملك والشعب" الذي لا تزال روحه راسخة ومتواصلة اليوم من خلال معركة المغاربةلاستكمال وحدة التراب الوطني (الصراع مع النظام الجزائري حول ملف الصحراء الغربية للمغرب وملف المدن والجزر التي لا تزال تحتلها إسبانيا سبتة ومليلية والجزر المتوسطية).

يعني ذلك أن ميلاد النخب الحزبية المغربية قد ولد منذ قرن تقريبا بالمغرب ضمن مشروع وطني ومشروع مجتمعي طموحه الأكبر ظل هو تحرير الأرض من كل القوى الإستعمارية التي توزعت الأراضي المغربية (المغرب البلد الإفريقي والعربي الوحيد الذي توزعته استعمارات متعددة ولا تزال أطراف منه مستعمرة إلى اليوم)، وكذا تحرير الإنسان المغربي من أسباب التخلف عبر بلورة آلية مشروع سياسي لملكية دستورية ديمقراطية تعددية (منطوق وثيقة 11 يناير 1944 للمطالبة بالإستقلال). فهو إذن مشروع تحرير مزدوج.

لهذا السبب تطور عيد العرش مغربيا ليُصبح مُناسبةً للتوقف من أجل قراءةِ حصيلة سنة من الحياة التدبيرية بالمغرب ورسمِ ملامحِ أفق السنة الموالية فيما يشبه تعاقدا متجددا بين الدولة والمجتمع، وكل الخطب الملكية من حيث مبناها تُتَرجم ذلك فعليا وتلتزمُ به.

لكن إذا كانت الميزة الخاصة لعيد العرش هذه السنة تتمثل في كونه الذكرى الفضية لجلوس الملك محمد السادس على عرش أجداده بصفته الملك الثالث والعشرون من الأسرة العلوية الشريفة التي يتواصل حكمها ببلادنا منذثلاثة قرون ونصف القرن (أي منذ 358 سنة)،فهي أيضا مناسبة للتسطير باعتزاز على أنهاواحدة من أعرق الأنظمة الملكية في العالم إلى جانب التاج البريطاني والنظام الإمبراطوري باليابان.

إن قراءة حصيلة خمسة وعشرين سنة من حكم ملك كافية عمليا لتلمس قيمة الأثر التاريخي لحكم متجدد في الواقع الملموس للبلد والناس، من حيث إنه رَسَّخَ بَصْمتَهُ المتمايزة ضمن صيرورةٍ تاريخيةٍ ملكية متواصلة منذ قرون بالمغرب . لقد اتضح أن عهد الملك محمد السادس يَصدُرُ عن رؤيةٍ تمتلكُ خارطة طريق مفصلية بفضل استنادها على قراءةٍ ملموسةٍ للواقع الملموس للمغرب في أبعاده الإفريقية والمتوسطية والأطلسية.وأنها وازنت دوما بين تطوير أسباب النماء الداخلي وبين نقط قوة الموقع الجيو - سياسي والجيو- ستراتيجي للمغرب بين قارتين هما إفريقيا وأوروبا وعند بوابة معبرٍ استراتيجي عالمي من قيمة مضيق جبل طارق، وضمن أفق حيوي لغرب إفريقيا عبر الصحراء.

أي أنها جعلت من التوازن بين ترسيخِ واجبات الدولة الاجتماعية وشروطِ القوة الإقليمية رهانا مركزيا واضحا.

إن بداية تصنيف المغرب من قبل مراكز دراسات عالمية رصينة كمشروع دولة صاعدة، قد جاء بفضل تكامل الرؤية ملكيا بين إعادة ترتيب شمولية للقرار التدبيري التنموي داخليا وبين تعزيز أسباب تجسير العلاقة مع الأبعاد الإفريقية والمتوسطية والأطلسية التي يهبها الموقع الجغرافي الحيوي هذا لبلادنا. لأنه لا يمكن فهم معنى تبدل نظرة العالم إلينا كبلد ورسوخ الثقة فيه والرهان على التعاون معه، من دون الإنتباه إلى أن التحول الذي تحقق في الخمسة وعشرين سنة الأخيرة كامنٌ في التغيير الذي طال منظومة التنمية المغربية عبر تنويع أسباب خلق الثروةوتنويع مصادر النمو بشكل متجاوز لما كان متحققا سابقا منذ الإستقلال الذي ظل معتمدا فقط على الفلاحة والفوسفات والسياحة، أي ما تَهَبُهُ الأرض في نهاية المطاف من ممكنات لخلق الثروة. إن التحول اليوم كامنٌ في الرهان على العنصر البشري من خلال إعادة ترتيبٍ شمولية للبنى التحتية الميسرة للإستثمار الداخلي والخارجي على كافة المستويات وعلى توسيع هوامش التصنيع المتوائم مع منظومات السوق العالمية.

بالتالي فإن العنوان الأبرز، الماثل للعيان اليوم في هذه الذكرى الفضية لجلوس جلالة الملك محمد السادس على العرش، هو "التحول الإستراتيجي للمنظومة المغربية بدفتر تحملات القرن الواحد والعشرين" على كافة المستويات مجالياواقتصاديا وثقافيا وأمنيا وسياسيا وحقوقيا، الذي نَحَتَ معنًى جديدًا لصورة المغرب ضمن منظومات القيم في العالم. لأن معركة اليوم هي معركةُ أيُّ صورةٍ تُبدِعُ عنك لدى العالم قيميا. وعلى هذا المستوى فالمغرب عنوانُ وعدٍ قادم أفريقيا ومتوسطيا وأطلسيا وهذا مكسبٌ وطني كبير يسجَّلُ بتقدير واعتزاز، يجدُ سماده الصلب في امتلاك نص دستوري جديد منذ 2011 الذي على قدر ما هو دستور عهد ملكي بكامله،على قدر ما هو دستور مغربي خالص روحا ومبنى وصياغة.

إن التحدي اليوم الذي يواجه النخب الجديدة بالمغرب المهتمة بالسؤال السياسي، أنه على قدر ما طورت الدولة من منظومة عملها استنادا على امتلاكها عناصر مشروع مجتمعي حداثي وتنموي، على قدر ما فقد الفاعل الحزبي بوصلة ابتكار آليات عمل حداثية تترجم مشاريع مجتمعية تؤطرها مرجعيات فكرية طبيعي أن تختلف شروط وجودها بما يحقق فعاليتها ضمن منطق تدافع المصالح مجتمعيا بشروط عالم القرن الواحد والعشرين، قرن العولمة واختلاف بنية الوعي المؤطرة تواصليا ومعرفيا وثقافيا للفرد المغربي (مغاربة اليوم ليسوا هم مغاربة بداية القرن الماضي منظومة قيم ومستوى تكوين ومعنى سلوكي وأسباب حياة).

إن المفارقة المغربية اليوم، هي أنه على قدر ما تطورت الدولة مؤسساتيا وتنظيميا، على قدر ما فَتُرَ (من الفتور) ذكاء النخب الحزبية كوسيط يترجم ويؤطر طموحات مختلف شرائح المجتمع.

باختصار شديد كخاتمة يكفي تأمل واقع الطبقة المتوسطة المغربية لندرك حجم الفراغ التأطيري والقيمي الذي يكبل ممكنات فعلها ضمن أفق مشروع مجتمعي حداثي مؤسساتي وديمقراطي. فالشريحة هذه كامنة كتيار في المجتمع، لكن قنوات تأطير طموحاتها وأشكال تعبيرها هي الغائبة وهذا واقع يتحدى فطنة النخب الحزبية المغربية الحقيقية ذات المشروعية المجتمعية.

بمعنى آخر كانت النخب في المغرب مبادرة منذ شرعية الميلاد الوطنية في ثلاثينات القرن العشرين، وهي اليوم الحلقة الأضعف ضمن مشروع وطني كبير لا يزال مؤطرا وسيبقى بروح "ثورة الملك والشعب".

* لحسن العسيبي كاتب وصحفي مغربي