نادراً ما يُتيَّسر لبلاد عريقة في تاريخها ونظامها السياسي من يغير طبيعة الحكم فيها، في فترة أقل من عمر إنسان! ولعل جزءاً كبيراً من المغاربة، وغير المغاربة، يرى أن ربع قرن من الحكم، وهي مدة تمثل أقل من نصف عمره، مكَّنت محمد السادس من تغيير ملامح المُلك والملكية في المغرب.

فبعدما ترسخ لدى الباحثين والعديد من مراكز القرار أن المغرب، كما رسمه الملك الراحل الحسن الثاني، مثال للجمود السياسي، محكوم بسلطوية محافظة في قلبها إمارة المؤمنين (نظام حكم تقليدي ديني)، تغيرت طريقة حكم التراب الوطني فيه وحكم المواطنين، فصار يتعايش فيه سِجلاَّن: سجل الدولة الإمبراطورية (السلطان)، وسجل الدولة ـ الأمة الحديثة العهد (الملك).

عناصر كثيرة ساهمت في صناعة المخيال السياسي المغربي وغير المغربي، الحديث منه والتليد، سرعان ما تغيرت.

الملك محمد السادس في السنوات الاولى من توليه مقاليد الحكم في المغرب

ولا شيء في ذلك الجمعة 23 تموز (يوليو) 1999 الموافق 9 ربيع الثاني عام 1420هـ، البعيد القريب من تاريخ المغرب الحديث، كان ينبئ بالتحولات التي ستأتي من بعد، عندما نودي بولي العهد الأمير سيدي محمد ملكاً على المغرب طبقاً لأحكام الدستور وعقد البيعة، (لا شيء) سوى كون البيعة كانت مكتوبة، وتقدم بها الرسميون من الأمراء والوزراء وكبار ضباط الجيش وزعماء الأحزاب السياسية وغيرهم، وأنها لم تكن مفتوحة في وجه العوام، وتمت تلاوة نصها من طرف وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية آنذاك عبد الكبير العلوي المدغري. لكن التغيير الأكبر سيحدث من بوابة «إمارة المؤمنين» نفسها، حيث سيتم إدراجها ضمن مواد الدستور الجديد سنة 2011، من زاوية مغايرة للزاوية التي كانت حاضرة في ما سبقه. كما كانت الإمارة، بما هي تعاقد للدفاع عن حوزة التراب والدين، منطلقاً أيضاً لإحداث تغييرات كبيرة ورافعة حضارية في حل معضلات العصر، لا سيما في القضايا الإشكالية كما هو حال الاجتهاد بخصوص مكانة وحقوق المرأة في المدونة المتعلقة بالأسرة أو حال الإفتاء الذي صار جماعيًا يمنع على أي عالم وفقيه أن يجعل من فتواه قانوناً يسري على الناس. ولعل من علامات التحول في الوظيفة والمعنى هو أن ينبري قادة من اليسار للدفاع عنها لتولي تحصين المجتمع من نزعاته المحافظة (انظر مواقف الراحل إبراهام السرفاتي وعبد العالي بنعمور، وما عداه من القادة اليساريين). ولعل في ذلك دعوة إلى تفعيل إمارة المؤمنين، في تمكين الحداثة من تأسيس القداسة.

ولعل النقطة المركزية الثانية الكبرى، والتي غيَّرت نظرة المغاربة إلى أنفسهم وفتحت الطريق نحو التغيير العميق، هي «تبييء» فكرة الإصلاح واستنباتها في التربة الوطنية.

وفي هذا الصدد، يُعتبر العهد الجديد بعد الحكم القوي والمهيمن للملك الراحل الحسن الثاني بحد ذاته تغييراً مشهوداً ولحظة فارقة. لما سألت محمد الطوزي (صاحب كتاب الملكية والاسم السياسي، وعضو لجنة الدستور ولجنة النموذج التنموي) عما هو أهم حدث في ربع القرن الذي انقضى، أجابني: محمد السادس! وهو تحول سيحمل في صيرورته تحولات عميقة من خلال طي صفحة الماضي بعد تقييم حصيلته، من خلال لحظتين قويتين على الأقل:

لحظة هيئة «الإنصاف والمصالحة»، التي وضعت الملك أمام استكمال طي الصفحات الصعبة من حكم والده ونخبته، أو ما سمي «سنوات الرصاص»، وما استتبع ذلك من مصالحات، مع المكان والبشر في الوقت نفسه، جبر الضرر وجلسات الاستماع العمومية لضحايا الزمن القاسي، وتوحيد ذاكرة الأمة من خلال سردية موحدة عوض ذاكرة الجزر المتناثرة (ذاكرة اليسار وذاكرة المعارضة الوطنية وذاكرة الريفيين وأخرى للأطلسيين إلخ)، عبر المصالحة مع المناطق التي تعرضت للتعسف، منها الريف والأطلس والصحراء. ثم المصالحات الكبرى من خلال القضايا اللغوية وترسيم الأمازيغية وإصلاح المدونة.

لحظة تقييم الحكم السابق من خلال مجهود جماعي أعطى تقرير الخمسينية، الذي وقف على الثغرات التي سيرثها، ثم وضع الطريق نحو «المغرب الممكن». وإذا كان الملك الحسن الثاني قد امتلك الجرأة الأدبية في النهاية بالإعلان الشهير بأن تدبيره السياسي أوصل «المغرب إلى السكتة القلبية»، مما فتح الباب للتناوب التوافقي مع شيخ المعارضين عبد الرحمن اليوسفي، فإن محمد السادس، واحد من الملوك القلائل، ليس في المغرب وحده بل في غيره من المناطق، الذي سيقوم سيادياً وبمجهود مؤسساتي وجماعي بوضع تقييم علني للحكم في الفترة التي سبقته، وترتيب ما يجب من قطائع في السياسة والحكومة والتدبير المؤسساتي.

محمد السادس لدى ترؤسه درسا دينيا في رمضان الماضي

ومن أهم ما سيحتفظ به التاريخ، ولا شك، هو الثقة التي منحها للذكاء الجماعي، والمراهنة الحصرية على العقل المغربي، في توفير القاعدة المشتركة للإصلاح والانتقالات الضرورية، وذلك من خلال إعمال التفكير الجماعي في إصلاح الدستور، ومن خلال لجن مغربية بحتة، على عكس والده في الاستعانة بفقهاء دستوريين من الخارج، لاسيما فرنسا، ومن خلال اللجن ومجموعات التفكير في البحث عن التوافقات الكبرى في قضايا تهم طبيعة الدولة (الدستور، الجهوية)، أو القضايا المجتمعية (مدونة الأسرة، المسألة اللغوية وهيئة الإنصاف والمصالحة..)، أو من خلال اللجنة المجتمعية (لجنة النموذج التنموي الجديد لمغرب 2030).

يمكن القول إن الفترة الأولى تميزت بتدبير الانتقالات العديدة (على رأسها الانتقال الديمقراطي واللغوي ..) بهدف الخروج من الظروف المعطِّلة للإقلاع إلى ترتيب الطريق السريع نحو التقدم وفي قلبها التنمية البشرية. ومن ثمة الانتقال إلى «تدبير الصعود» حتى يصبح البلد دولة صاعدة وقوة إقليمية.

دستور 2011، كان في واقعه الطريقة المثلى لتبيان أسلوب محمد السادس في قيادة التغيير، وسيكون من المنصف تاريخياً الإقرار أن الملك الجديد وضع الإصلاح ثابتاً في الحكم، من خلال تثبيته، بعد أن ظلت كلمة إصلاح مطلباً طوال أربعة عقود، غالباً ما تقود إلى سوء الفهم بين القصر والقوى السياسية المعارضة أو المطالبة بالإصلاح.

وقد جاء دستور 2011 تعبيراً عن نضج مرحلة الإصلاح المؤسساتي. وقد رتَّب لذلك بصناديق الاقتراع وظل أول وأهم شخصية تحترم الدستور احتراماً تاماً: كما شاهدنا ذلك، في سياج الربيع العربي (الذي تحول إلى خريف)، عندما أمعنت بعض الأنظمة في «حل» الشعب أو إلغائه عندما لا يُحسن التصويت، في حين تفادى الملك الجديد الوقوع في الاستحالة السياسية، في سياق إقليمي مطبوع بالباب المسدود، والتناحر والحروب الأهلية، واختار تقديم ما يجب من «تنازلات» تجعله شريكاً في الدستور، إلى جانب رئيس الحكومة المعين من الحزب الذي يتبوأ الانتخابات، ولو كان إسلامياً!

يقول المؤرخ والدبلوماسي عبد الهادي التازي رحمه الله: «تقتضي القاعدة العامة أن أي بلد لا يمكنه إقامة علاقات مع العالم الخارجي إلا إذا كانت وضعيتُه الداخلية سليمةً». ولعل في هذه القولة منطلقاً لاستطلاع ما جاء به محمد السادس في هذا الباب: أولاً تغيير البوصلة الجيوستراتيجية نحو الشراكات المتعددة، إضافة إلى الحفاظ على الشراكات التقليدية، ثانياً التعامل بندِّية، في القضايا المصيرية كما في قضية الصحراء، أو الأمن الداخلي والثوابت الوطنية، وحدث ذلك مع ألمانيا وإسبانيا وحالياً فرنسا، ويمكن أن نقول بأن القارة الأفريقية، (العائلة، والتاريخ)، كانت موضوع النقلة الكبرى للحضور الدولي المغربي، وهو حضور يعود إلى تمثل الملك شخصياً لمستقبل القارة، وأيضاً إلى «شجاعة جسدية» كما يقال، في التنقل بين العواصم والدول، في الوقت ذاته الذي تعود إلى الأذهان صورة الملوك والسلاطين المغاربة، الذين كانوا يجدون أنفسهم في العمق الإفريقي، حتى جاء علينا حين من الدهر كان سلطان المغرب يسمى «سلطان المغرب والسودان»، ولاسيما السودان الأوسط (بعضه تمثله دول الساحل)، علاوة على إقامة تجمع أفرو-أطلسي يضم ما يزيد عن عشرين دولة أفريقية.

ولا يخلو التوجه من ذكاء جيوستراتيجي يشعرنا بالتشابه مع الاختيار الصيني، الذي عاد إلى الطرق التقليدية لإمبراطورية الوسط الكبرى في استرجاع الإشعاع التجاري والاقتصادي لطريق الحرير كما تم تحيينها.

إن الرهان الأفريقي، وتعدد الشراكات والندِّية وإعلاء من المقاربة السيادية في التبادل الدولي رباعية تطبع العمل الدبلوماسي مع محمد السادس، توجه أثار الانتباه العميق خارجياً وداخلياً، كما هو الحال مع المؤرخ عبد الله العروي الذي تساءل إن كان من حق المغرب أن يعرِّفَ نفسه كقوة إقليمية، بناء على ملاحظة تفيد بأن الدبلوماسية أصبحت أكثر هجومية عكس ما تكون عليه الدبلوماسيات الملكية في العالم، والذي يجعل المغرب يسير في هكذا منحى ولا شك هو الحاجة إلى تجاوز وضعية الرهينة الدولية لحسابات القوى النافذة، في استغلال قضية الصحراء.

وبهذا الخصوص سيحتفظ التاريخ لمحمد السادس بأن أكبر اختراق عرفته هذه القضية منذ اندلاعها في منتصف السبعينات من القرن الماضي هو ما تحقق بعد وصوله إلى السلطة: فمن جهة غيَّر محمد السادس من معايير الحل، وصار الاستفتاء الذي قَبِل به والده في خبر كان، وحل محله حلُّ الموائد المستديرة، بين الأطراف المعنية، وتراجع التأويل الانفصالي لتقرير المصير ليحل محله مبدأ الحكم الذاتي كما اقترحه الملك في 2007، وارتفع عدد المؤيدين له داخل الأمم المتحدة إلى أن وصل مائة 100 دولة من أصل 193، واعترفت الدولة العظمى التي تعد «حاملة القلم» بمغربية الصحراء في تطور حاسم عزز موقع المغرب أممياً، ورفع الملك القضية إلى مرتبة وحدة قياس وجودية للكيان الوطني حين اعتبرها النظارات التي يقيم بها علاقات الشراكة والصداقة دولياً.

إن أهم تغيير، ربما يهم السوسيولوجيا التاريخية المقارنة، هو تغيُّر نظرة المغاربة إلى أنفسهم، والإعلاء من تامغربيت كشعور وطني، من دون شوفينية. وإذا كان الاعتزاز، دوماً ما يكون شعوراً مضمخاً بالتاريخ، فقد صار بالإمكان القول إنه في حالة مغرب محمد السادس صار اعتزازاً مليئاً بالمستقبل. ولهذا أيضاً ارتفع مستوى المطالب والطموح، لدى الدولة (التي تحولت إلى فاعل أخلاقي يحرض على الجودة والجدية) ولدى المجتمع، الذي صار مسكوناً بأداء مواطنيه في المونديال ولا يطالب بأقل من ذلك.

* عبد الحميد جماهري:

كاتب صحافي

عضو المكتب السياسي لحزب الاتحاد الاشتراكي (معارضة برلمانية)