لا يخفى على الملاحظ العادي، فأحرى المحلل المتتبع، ما تتسم به سيرورة المغرب حالياً من دينامية على جميع المستويات، تجعله قطباً في فاعلية الجاذبية الدولية وعاملاً في معادلة التنافسية العالمية؛ ومن الطبيعي أن ذلك لم يتحصل فجأة؛ إذ مع بداية ولاية جلالة الملك محمد السادس، تبدت مؤشرات تحول عبر توجهات وتنزيلات عديدة، يأتي في طليعتها "المفهوم الجديد للسلطة" لا كمجرد شعار، ولكن كتجسيد عملي وممارسة يومية، مما يجعل رجل السلطة في أي مستوى كان، يشتغل بفكر تشاركي توافقي مع محيطه، وذلك باعتبار أن "مسؤولية السلطة في مختلف مجالاتها، هي أن تقوم على حفظ الحريات وصيانة الحقوق وأداء الواجبات وإتاحة الظروف اللازمة لذلك، على النحو الذي تقتضيه دولة الحق والقانون" كما ورد في خطاب جلالة الملك مباشرة بعد توليه العرش، يوم 12/10/1999؛ ليتلو ذلك إرساء "المبادرة الوطنية للتنمية البشرية" سنة 2004، بما لهذه العملية الوطنية، من إشراك واشتراك في الفعل التنموي، المرتكز أساساً على الفاعل البشري.

الملك محمد السادس يتلقى التهاني بإحدى المناسبات من ولي عهده الامير مولاي الحسن

وعلى النهج نفسه من منظور آخر، يتنزل مفهوم الديمقراطية الثقافية، بما تستند إليه تاريخياً وحضارياً من تعدد الروافد الثقافية، كما ينص عليها ويفصلها الدستور، ليتجسد ذلك في مشاريع ونماذج، يأتي في طليعتها إقامة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية (17/10/2001) باعتبار هذه الثقافة إرثاً مشتركاً لجميع المغاربة؛ ويتكامل مع هذه التوجهات استراتيجية اجتماعية، تقوم على أولويات الصحة، التعليم والعدل.

بيد أن كل المنشود مهما كانت طبيعته ووسائله، ليس مقصوراً على فئة بعينها أو نخبة مهما يكن مستواها ودرجتها في المسؤولية؛ ذلك أن القاطرة مهما تكن صلاحيتها وقوتها، لا يكون في وسعها إنجاز السيرورة المبتغاة، بمقطورات متهالكة أو غير متوازنة في توجهاتها وأدائها؛ فما بالك إذا كان القاطر والمقطور ـــ إذا صح التعبير ـــ من طبيعة بشرية مجتمعية إنسانية، بل ومغربية آخر الأمر؛ لذا فإن التحام المجتمع، لا وحدته فحسب، يفرض نفسه باعتباره زاد السيرورة المطلوبة، ومن هنا كان من الضروري مواجهة متطلبات تشريح الجسم المجتمعي، التي من شأنها أن تظهر معالم نتوؤات وندوب لا تخلو منها سيرورة المجتمعات في أي عصر أو مرحلة من تاريخها، لكنها مهما تكن نسبيتها أو درجة خطورتها، من شأنها ألا تكون مساعداً إيجابياً ـــ إن لم تكن كابحة ـــ لمتطلبات الانطلاق؛ وهنا تنبثق عن فكر دينامي خلاق، بإرادة ملكية من محمد السادس، دعوة لتنزيل هيئة الإنصاف والمصالحة (2004)، لتنظر بل ولتعالج بكل الوسائل المادية والمعنوية والحقوقية، الفردية والجمعية والبيئية، كل ما اعترى مسيرة الأمة منذ الاستقلال إلى يوم توليه سدة الحكم (1956 ــ 1999) من أحداث مختلفة، قد تكون بطبيعتها منتجة لترسبات سلبية، من شأن تراكماتها أن تشكل عثرات في مسيرة التنمية المنشودة.

هكذا تبدو تولية الملك محمد السادس عرش أسلافه العلويين، وقد شكلت منذ البداية، فجر مرحلة جديدة على طريق التنمية وصنع التقدم، تطلبت تعبيد السبل المؤدية إلى ما تحقق ويتحقق من أهداف، كما نراها اليوم فيما عليه المغرب من مستوى طموح، ومن درجة في التنمية، مع وزن سياسي إقليمي ودولي.

إن هذه التوجهات الشاملة لمختلف مناحي الفاعلية المجتمعية في ضرورة تفاعلها وتكاملها الإيجابي، تتطلب بالأساس تأهيل الرأسمال البشري، هذا العامل الذي يجعلنا نرى دولاً في غاية من ثروات طبيعية وبشرية، لكنها تقع في أدنى سلم الارتقاء المجتمعي، إن لم تكن النموذج المجسد لأدنى صور التخلف، بينما على العكس من ذلك نرى دولاً فقيرة لدرجة الحرمان من الثروات الطبيعية مع قلة الموارد البشرية، لكنها باعتمادها على العامل الإنساني كرأس مال بشري مؤهل ويتم العمل باستمرار على مزيد تأهيله، استطاعت أن تحتل مواقع الامتياز في التراتبية العالمية على عدة مستويات.

من هنا، يمكن أن نلمس الجهود الحثيثة مع الملك محمد السادس للعمل على تأهيل العامل البشري بعدة تصورات ومشاريع من زوايا متعددة، يأتي في طليعتها تنمية المشاركة الجمعية في مختلف مناحي الحياة المجتمعية، وذلك عبر منظور اللامركزية، وهو ما يعني خلق مستويات من التشاركية، أي بالتالي ما يعتبر دفعاً على طريق تقوية الذكاء الجمعي بترسيخ مفهوم وسلوك التبادلية، وذلك لا في المجالات الاقتصادية والسياسية العامة فحسب، بل فيما يخص صنع القرار فيما هو مجتمعي محلي آني ومباشر.

طبعاً لابد في كل هذا، من استحضار إيقاعات التحولات المحلية والعالمية، بدلالاتها الراهنة وتوجهاتها المستقبلية: إذا كان من ذلك على المستوى الدولي مثلاً، مخاض ميلاد قوى جديدة اقتصادية وتكنولوجية وبالتالي سياسية أيضاً، مع مراعاة التحولات التكنولوجية والمعرفية منها على وجه الخصوص، والتي يتحول معها مفهوم القوة والمكانة الدولية، من الدلالة التقليدية المتمثلة في القدرات المادية والعسكرية، إلى ما يعتبر اليوم قوة ناعمة، لكنها اختراقية عميقة وذات مردودية، ممثلة في السمة التكنومعرفية؛ هذا علاوة على ما يرتبط بكل هذه التحولات من انعكاسات بيئية مناخية، بما تفرضه من مقتضيات تكيفية مناسبة إن لم تكن استباقية على وجه التدقيق. إذا كان ذلك كذلك، فإن منه أيضاً على المستوى المحلي ما لا يقل أهمية وخطورة، من قبيل إكراهات توقعات تنامي أعداد الشباب الباحثين عن الشغل، وكذا تنامي الشيخوخة المجتمعية، بما يقتضيه كل ذلك من مستلزمات مادية ومعنوية، راهنة استباقية ومستقبلية.

هكذا تفرض المنظومة التعليمية نفسها من بين الأولويات العاملة على تأهيل العامل البشري لمختلف التحولات الحالية العامة غير المألوفة في قوتها وسرعتها، سواء منها الجارية أو التوقعية المستقبلية. لذلك فإن أهم ما تتميز به تحيينات المنظومة التربوية، ولا سيما في صيغها الأخيرة، يتمثل في التفتح اللغوي، في نطاق المنشود من توسيع مبدإ المساواة وتكافؤ الفرص، مع تنزيل طابع الجودة والعمل على تحقيق مطلب التشغيل وتعزيز إمكانات البحث العلمي.

ومن الطبيعي أن ينعكس ذلك في منظومة التعليم العالي على الخصوص، باعتبارها مؤسسة إنتاج الأطر العليا المتخصصة، وهذا ما نلاحظه عبر بعض الدلالات الإحصائية، ففي الفترة ما بين 2015 ـــ 2019 على سبيل المثال، تتميز الحال بارتفاع نسبة الانتساب الجامعي بـ28,5% بينما انتقلت نسبة الانتساب في الفئة العمرية ما بين 18 و 24 سنة بوجه خاص، من 28.8% إلى 38.4%؛ كما بلغت نسبة الطالبات 48.9%، ويقابل ذلك ارتفاع الإيواء في حق الطالبات إلى 62% مع اعتبار إحداث صيغة "دار الطالبة" في العالم القروي وشبيهه؛ ويحضر هنا وضع الطلبة الذين هم في حالة إعاقة، بما يتطلبه ذلك من تجهيز الجامعة باللوجستيك الخاص والضروري لنوعيات الإعاقة، من قبيل المكفوفين وضعاف البصر أو السمع وكذلك الصم... مع برامج الدعم التربوي لهذه الإعاقات وما يماثلها، وكذا توسيع قاعدة المنح المخصصة للطلبة المغاربة من الجنسين، إذ تمت الاستجابة في الفترة المذكورة إلى 86% من الطلبات؛ هذا علاوة على منح الطلبة الأجانب ولا سيما منهم الأفارقة.

إن هذا التحول الإيجابي والنوعي المرتبط بالتأهيل عبر المنظومة التربوية، فيما يخص الدلالة الجندرية، من جهة؛ وكذا القروية من جهة ثانية؛ ومراعاة الحالات الخاصة، من جهة ثالثة؛ ليعتبر مؤشراً على جدية السير في طريق تأهيل الرأسمال البشري، ولا سيما على المستوى الجامعي، دون إغفال المتحقق من مثل ذلك في مستويات ومؤسسات التكوين في مستويات التعليم المختلفة.

ولابد من التذكير هنا، بأن المؤسسة الجامعية وهي تمارس هذه المهام التأهيلية، لا يمكن أن تكون بدورها إلا مؤهلة لذلك، بما يعني تجددها ومسايرتها للتقدم العلمي والمعرفي التكنولوجي، وهنا نجد من أولويات أهداف المؤسسة الجامعية المغربية في الراهن والمستقبل، تتمثل في التوفر على نموذج جديد من مدارس المهندسين تابعة لمختلف الجامعات، وكذا إنشاء مدارس وطنية علي

ا للذكاء الاصطناعي، من قبيل المدرسة الوطنية العليا للذكاء الاصطناعي وعلوم المعطيات بتارودانت، وهي تابعة لجامعة ابن زهر بأكادير (وسط جنوب المغرب)، وهي التي تفتتح موسم 2023 ـــ 2024 باستقبال 60 من الطلاب؛ وكذا مثيلتها المدرسة الوطنية العليا للذكاء الاصطناعي والرقمنة، بمدينة بركان التابعة لجامعة محمد الأول بوجدة شرقي المملكة، ناهيك عن مثيل ذلك من معاهد ومدارس عليا في كبريات مدن وعواصم المملكة.

إجمالاً:تجدر الإشارة هنا إلى أن تبني كافة المرتكزات المشار إلى بعضها في جملتها، مع ما تقتضيه من تخطيط وتنفيذ ومتابعة، لا يعني الوصول إلى كافة الأهداف، بل إن تحقيق الأهداف المنشودة، حتى لو تم في كليته أو جملته، لما أصبح ذلك أكثر من مرحلة تدعو وتستلزم ما يتلوها ويفوقها، ما دام المضمار يعني خدمة المجتمع والارتقاء به عبر آفاق تقدم، هي بطبيعتها غير محدودة ولانهائية.

ومن ثم، لا مبالغة ولا ادعاء في اعتبار ما يخطه المغرب ويخطو باتجاهه، في عهده الجديد بقيادة جلالة الملك محمد السادس، من صنع التنمية وإرساء المكانة محلياً، إقليمياً ودولياً، مقابل عوائق وتحديات، وفي رهان أساسي على المقومات الذاتية وتأهيل العامل البشري؛ وهو ما ينعكس فيما أصبح المغرب يمثله ويعمل على تركيز مكتسباته، من سمات الجاذبية الدولية وقابلية المنافسة العالمية، بكل المترتب عن ذلك كله من مسؤولية، ومن وزن جيوسياسي على مختلف المستويات.

* مبارك ربيع: كاتب وروائي مغربي