يحتفل الشعب المغربي بالذكرى الخامسة والعشرين لتربع جلالة الملك محمد السادس عرش أسلافه المنعمين. وهي مناسبة للوقوف على أهم المنجزات التي تحققت في ظل حكم الملك محمد السادس، وتهم مختلف المجالات: الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والدبلوماسية.

وسأقتصر في هذه المساهمة المتواضعة لتخليد ذكرى من أعز وأغلى الذكريات بالنظر إلى رمزيتها الوطنية وعمقها التاريخي، على تناول " المسألة الإجتماعية" أو البعد الاجتماعي في المشروع التنموي الكبير الذي يرعاه ملك البلاد، ويسير به قدما للرقي ببلادنا إلى مصاف البلدان الصاعدة التي سيكون لها شأن في الصعيد الدولي والقاري.

إن كل من يهتم بدراسة المسألة الاجتماعية، يدرك أنها تشكل لدى الملك محمد السادس موضوع اهتمام خاص اقتناعا منه أن الإنسان هو الوسيلة والهدف لأية تنمية اقتصادية وأي مشروع مجتمعي.

لقد برزت هذه القناعة لدى الملك وهو مازال وليا للعهد، حيث كان يهتم بالفئات المستضعفة، وكان مقر إقامته قبلة لكل المحتاجين، وهو ما دفعه كولي للعهد إلى تحويل هذا الاهتمام إلى عمل مؤسساتي ، وجعله يترأس لجنة الأخلاقيات التي تعنى بتنشيط العمل الاجتماعي، وتولدت عن هذه التجربة مؤسسة محمد الخامس للتضامن في خدمة الكرامة الإنسانية، وكان ذلك سنة 1998، ومن أهداف هذه المؤسسة التي لم يتوقف نشاطها، محاربة الفقر والهشاشة.

مباشرة بعد توليه مقاليد الحكم، عمل الملك محمد السادس على تطوير العمل الإنساني وإطلاق برامج ومشاريع متعددة ترمي إلى إدماج المواطن ووضعه في قلب العملية التنموية كما يبرز ذلك في بعض المشاريع التي سأتناولها بشكل مركز في هذه المقالة.

ففي بداية حكمه، جرت المصادقة على مشروع اجتماعي كبير هو مدونة التغطية الصحية، وكان ذلك سنة 2002. وتطور هذا المشروع تدريجيا ليتحول في بداية العشرية الحالية إلى "تعميم الحماية الاجتماعية" بأركانها الأربعة: تعميم التأمين الأساسي عن المرض، وهو ما تم خلال سنتي 2021 و 2022 ، وتعميم التعويضات العائلية (2023). تم الشروع في توسيع التعويض عن فقدان الشغل لفائدة كل إنسان يتوفر على شغل قار، وتوسيع الاستفادة من التقاعد لنحو 5 مليون مستفيد ( 2024 و 2025).

فهذا المشروع الملكي الكبير يشكل دون ريب ثورة اجتماعية حقيقية بالنظر لآثاره على حياة المواطن و كرامته.

أما المشروع الكبير الذي أصبح عبارة عن "مدرسة" في مجال محاربة الفقر والهشاشة، هو "المبادرة الوطنية للتنمية البشرية"التي أعطى انطلاقتها الملك محمد السادس سنة 2005، والتي قطعت أشواطا مهمة وحققت العديد من الإنجازات.

تشكل هذه المبادرة فلسفة ملهمة في مجال الإدماج الاجتماعي وإنجاز أهداف الألفية كما حددتها الأمم المتحدة. إلى جانب كونها مبادرة فريدة على جميع المستويات، على مستوى الأموال المعبأة، وعلى مستوى الحكامة وعلى مستوى مجالات الأشغال. فكل المشاريع المبرمجة تخضع إلى تقييم دقيق و تتبع دائم ، فخلال المرحلتين الأوليتين (2005-2010و 2011-2018) جرى التركيز على البنية التحتية والولوج إلى الخدمات الأساسية، وبلغ عدد المشاريع المنجزة 43 ألف مشروع بميزانية قدرها 43 مليار درهم( 4,3 مليار دولار).

أما المرحلة الثالثة والتي تغطي الفترة الخماسية 2019-2023 فاهتمت بالإضافة إلى المجالات القائمة، بتطوير التعليم الأولي، حيث تمت برمجة انجاز 8 الاف وحدة في التعليم الأولي. وأدى هذا المجهود إلى الرفع من معدل التمدرس في الوسط القروي بالنسبة للأطفال المتراوحة أعمارهم بين 4 و 5 سنوات، حيث تجاوز هذا المعدل 76 في المائة خلال الموسم الدراسي 2022- 2023.

وتروم هذه المبادرة أيضا إلى تطوير النشاطات المدرة للدخل خاصة لفائدة الشباب والنساء لتمكينهم من المساهمة في خلق الثروة، ويضمن لهم الاستقلالية المادية.

ومن نتائج هذه المبادرة انخفاض ملحوظ لمعدل الفقر و الهشاشة حيث تراجع معدل الفقر المطلق من 15,3 في المائة سنة 2001 إلى 1,2 في المائة سنة 2013، وتراجع معدل الهشاشة (أو ما يسمى بالفقر النسبي) على التوالي من 22,8 في المائة إلى 7,3 في المائة.

هذه النسب ارتفعت منذ سنة 2019 نتيجة أزمة كوفيد، وسنوات الجفاف وتأثير الأزمة العالمية الناتجة أساسا عن الحرب بين روسيا و أوكرانيا، كما يتضح ذلك من خلال آخر دراسة أنجزتها المندوبية السامية للتخطيط (هيئة التخطيط والإحصاء الرسمية).

وكانت أزمة كوفيد فرصة لمراجعة بعض السياسات والاهتمام أكثر بالمسألة الاجتماعية والإقصاء الاجتماعي، وهو ما أدى إلى الإعلان عن "المساعدة الاجتماعية المباشرة" لفائدة الفئات الاجتماعية التي لا تتوفر على دخل قار.

إن هذه السياسة الجديدة التي انطلقت في ديسمبر 2023، تدخل ضمن " الاستهداف"، اذ تقدر تكلفته ب 25 مليار درهم (2,5 مليار دولار ) سنة 2024، و 29 مليار درهم ( 2,9 مليار دولار) سنة 2029. ينضاف إلى هذا الدعم ، تحمل الدولة تكاليف التأمين الإجباري عن المرض للأشخاص المحتاجين الذين كانوا مسجلين في نظام المساعدة الطبية "راميد". والأمر يهم أزيد من 10 ملايين مستفيد.

تلكم بعض العناوين البارزة للسياسة الاجتماعية التي يقودها الملك محمد السادس، والملاحظ أن هذه السياسة تتجدد من حيث المشاريع المبرمجة والمجالات المستهدفة، ولكنها تخضع لنفس المقاربة ولنفس التصور "وضع الإنسان في قلب العملية التنموية"،وهي المنهجية نفسها التي اتبعت في إعداد "النموذج التنموي الجديد" طبقا للتعليمات الملكية.

إن المغرب، بقيادة ملكه المتبصر و الإنسان، يمضي قدما نحو المستقبل. وهو قادر على رفع التحديات وكسب الرهانات أيا كانت صعوبتها شريطة أن يشعر الجميع بالمسؤولية الملقاة على عنقه، ومواصلة البناء الديمقراطي.

*عبد السلام الصديقي، باحث اقتصادي ووزير التشغيل السابق