حلم العودة إلى أرض الوطن لم يعد واجباً أخلاقياً، بل أصبح شيئاً من الماضي الأليم الذي عانى منه أهلنا في سوريا من قهر وفقر وحرمان وتشريد وتهجير الملايين الذين لجأوا إلى دول أوروبا وغيرها من دول العالم، وباتوا يعيشون اليوم حياة كريمة في ظل حكومات تؤمن بالعدالة الاجتماعية، وتحترم الإنسان، ووفرت للمهاجرين الجدد كل ألوان الأمل والأمان، فضلاً عن كثير من صور البهجة والفرح والمستقبل المشرق بعيداً عن وطن أصبح مترهلاً ـ للأسف ـ وما زال البعض من الجهلاء الأميين أكثر ما يهمهم الانتماء إلى العشيرة والتصفيق لها والانسياق خلف وأمام أبنائها دون مبرر!

ما الفائدة من كل هذا التطبيل من قبل أمثال هؤلاء الذين ما زالت الأمية مجبولة في وجدانهم، وفي ضميرهم، وفي حكاياتهم التي تُروى؟

لنصحُ من هذه الخزعبلات، ونهتم بأنفسنا، وهذا الأهم بدلاً من التصفيق لهؤلاء المندسين الذين أكثر ما أساؤوا إلى الوطن وأبنائه، وكل ما يهمهم هو اكتناز المال وشهوة المكانة على حساب إذلال وتسليط السيف على رقاب شعبنا البسيط الذي يعيش في أسوأ حالاته! في حين صارت الرغبة في العودة إلى الوطن مجرد وهم بالنسبة لكثيرين، لا سيما أنهم تناسوه أصلاً!

هذه حقيقة، نرجو ممن يضحكون على أنفسهم، ويتغنون بمد حبال العودة إلى الوطن الذي دُمّر ونهب، وتحوّل إلى مجرد عصابات تدوس رقاب الناس هناك، وتخضعهم لرغباتها، وتهيمن على كل شيء، وتعرف صراحة من أين تؤكل الكتف، وبكل بساطة، باستخدام القتل عنوانها الأبرز، وتصفية الشباب واعتقالهم، دون أن يرف لها جفن. ما دامت أمثال هذه العصابات تسرق وتقبض على مقدرات البلد الذي نهب من زمن بعيد، ولم تكترث القيادة الحاكمة التي تتبجح بالديمقراطية، وتظهر للعالم صورتها الجميلة وهي الدفاع عن سوريا المنهوبة، التي تموت اقتصادياً، والمواطن يتحمل بكل بساطة أنواعاً من القهر والحرمان والذل، والوجع الذي لم يخلص منه أحد. فأي عنوان للعودة إلى سوريا التي لفظته، وهو بالتالي لفظها، ولم تعد تعني شيئاً بالنسبة له!

هذه حقيقة ما لمسته اليوم لدى الكثير من المهجرين في أوروبا، وهذه الصورة أرى أنها صادقة وصريحة، وفيها كثير من الحكمة، وليس هناك من داع لقلب الوقائع وتزييفها، ما دام أنَّ المواطن السوري يعيش في فرح وسعادة وأمان لم يكن يحلم به بالمطلق، ولا يمكن أن يحلم به أبداً. فهو مجرد وطن بالاسم فقط، أهله يعيشون الفاقة والذل وغياب الأمان. فأي حلم في العودة إلى وطن مفقود لا يحمي أبناءه، ولا يرعاهم ويهتم بهم، بل يسعى حكامه جاهدين إلى إذلال أهله وأبنائه والانتقام منهم، واقتناص أخطائهم بدلاً من رعايتهم وحمايتهم!

***

ماذا يعنينا من نشر صور تعود إلى سنوات، إلى ما قبل انطلاق الثورة السورية، وما أثارته وكشفته للجميع ما وراء الكواليس بعد أن كانت تعني كثيراً من السعادة لأشخاص، ولعنة بغيضة لآخرين ممن خسروا وظائفهم، وأصبحوا هائمين يبحثون عن المال، ولكن هيهات! المكان الذي يدر عليهم ذهباً. مع انطلاق الثورة والتغييرات التي أحدثتها هدمت سلطان العديد من المنتفعين المقنعين في ظل نظام متسلط فاسد ومنهار!

نحاول أن نختصر الماضي بقليل من الكلمات. إنَّه الفساد. نعم هو الفساد بعينه رغم الرخاء والبهجة التي سيطرت على عقول الناس، من خلال الاهتمام الملحوظ الذي كان يحاول المسؤولون تجميله في تحسين الواقع الخدمي في المدينة وترقيع ما يمكن، ومن بين هؤلاء وآخرهم محافظٌ كان يتعامل مع المسؤولين بشدة وقسوة غريبة؛ عقل خشبي أصم، وكأن الناس لا قيمة لها. أما عن الأعمال واللقاءات التي كان يعقدها مع الجماهير البسيطة سواء في مكتبه أو في الشارع فحدث ولا حرج. وما تمثله الصورة المنشورة، فإنها مجرد تجميل لواقع هش مترهل لا يمكن إصلاحه. واقع متردٍ وإذلال لمن كان يريد اللقاء به، أو بغيره من بطانته.

إقرأ أيضاً: الخطيب.. "فلتة" أخلاقية وكروية!

لعنة غريبة كان يمطرنا بها المسؤولون وغطرستهم.. من محافظين حكموا الرقة، وحتى من أبنائها الموظفين الذين كانوا أشد لعنة وخبثاً من الغرباء!

الماضي والحاضر والمستقبل مرسومة في وجوه هؤلاء الذين كانوا ينادون بضرورة احترام المواطن وتدليله، وأن وجودهم جاء ليلبي متطلباتهم، وهم على العكس من ذلك تماماً. حضورهم كان من أجل هدم معنوياته والسلبطة عليه، وإفراغ جيبه من مال إن وجد، والضحك عليه والاستهزاء به، وهذا ما كانوا يفعلون!

***

وفي الصورة المقابلة، استمعت إلى برنامج صباحي في الإذاعة السورية الذي يقدمه المذيع المجتهد معن الجمعات. ومن ضمن وصلاته الإذاعية اتصاله المباشر بعضو مكتب تنفيذي عن محافظة دمشق. وأثناء الاتصال به، جاء رده استجابة على شكوى إحدى الأخوات التي كانت تسأل عن مشكلة المازوت والغاز المنزلي وكيف يمكن الحصول عليه، في ظل الواقع الاقتصادي السيء والذل الذي يعيشه المواطن. فكان رد السيد عضو المكتب التنفيذي، الذي بالكاد أصغى إلى سؤال المتصلة، وأنهى الحديث بإجابة مقتضبة وغير مفهومة أصلاً، والتي لم ترقَ إلى الرد والاستماع إلى شكوى تلك المواطنة الغلبانة على أمرها، بل أدار لها ظهره، ولم يعرها أي اهتمام بالمطلق، واكتفى بإغلاق سماعة الهاتف خدمة للمواطن المعتّر!

إقرأ أيضاً: صلاح... وميركاتو صيفي ساخن!

فأيّ أخلاق، وأي احترام سيناله المواطن في ظل أمثال هذه الوجوه المتعفنة الساخطة الحاقدة على المواطن من أمثال هؤلاء المسؤولين، وتناسى السيد عضو المكتب التنفيذي أنه لا كبير فوق القانون؟ وسيظل اسمه موظفاً، وسيأتي اليوم الذي سيزال ويتحرر من هذا الموقع الذي يشغله ويحتمي فيه، وسبق أن شغله غيره لسنوات!.

هنيئاً للمواطن في سوريا أمثال هذا الموظف الذي وجد لخدمته، ويتعامل معه بفوقية، وعدم تلبية حاجاته من خلال الوظائف التي يشغلونها وتدر عليهم اليوم الملايين بجرّة قلم، وفوق ذلك يتعاملون مع هذه الأخت الشاكية وغيرها بتعالي وأستذة تجعل من الطرف الآخر أن يقف مشدوهاً إلى تصرفات لم تعد تليق بابن سوريا الذي قرف من وجود أمثال هؤلاء الأشخاص الذين لا هم لهم إلا الإساءة إلى المواطن ونهب قوته، وفوق ذلك ترهيبه وتجاهل رغباته!