مقال اليوم في الشرق الأوسط
بكر عويضة: الجار... إذا جار

أحدث مقالات بكر عويضه

أنّى لي، أو لأي بشر غيري، أن يعلم ما يخبتئ بجوف الليل لفجر اليوم الآتي. مستحيل. صحيح أن تقدير احتمال حدث متوقع أمر مقبول، وربما يشطح بعضهم، كذلك، في تكهُّن وقوع أحداث جِسام، ومن المحتمل أن يُصدقهم ذوو نيّات طيبة، سواء من العجائز كانوا، أو هم وهن في ربيع العمر. كل ذلك جائز، إنما الأصح أن يستند التقدير إلى تحليل علمي، يقوم على نهج موضوعي، غير خاضع لمزاج الشخص. هذا يعني ترك أمر التكهن لذوي الاختصاص، وأولئك إما كُهان- وهكذا شأن هو في نطاق اهتمامهم- أو أنهم مشتغلون في بيع أوهام معرفة حُسن وسوء الطالع، وما يوصف بقراءة تضاريس الأكف. وهؤلاء «بصّارة» شطّار في خداع الناس الذين هم بالفعل سُذج جداً، والذين ربما يشبهون الموشك على الغرق بين عاتي الأمواج، حين يتعلق بقشة تطفو فجأة أمام العينين فوق سطح البحر.

قصدتُ مما سبق التمهيد لتناول موضوع اغتيال إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، صباح اليوم (الأربعاء)، خلال زيارته طهران، فما أن طرق النبأ سمعي، حتى وجدتني أرجع إلى خاتمة مقالتي لهذا الأسبوع، المنشورة في عدد «الشرق الأوسط»، الصادر اليوم، وإذ ذاك هو الوضع، فقد أخذ ذهني يتوقع كم سأقذف بحجارة، خصوصاً فلسطينية، من كل الأنواع والأحجام، لمجرد أنني وجهت أصبع اللوم إلى القادة الفلسطينيين في الجور على بعضهم بعضاً، وجورهم معاً على الفلسطينيين عموماً.

بدءاً، الموت هو الموت، وليس لأي بشر ذي ذرة من إحساس متحضر أن يشمت في انطفاء حياة أي إنسان. ذلك هو الناموس الإنساني. ثم إن إزهاق النفس قتلاً، بغير وجه حق، رُفض أيضاً وفق الفطرة البشرية منذ بدء تكوّن المجتمعات الرعوية في مختلف أنحاء الأرض، وأتت الأديان فأكدت عليه، وسنّت شرائع التعامل مع مرتكبيه، ولم تفرضه فرضاً من عندها. هذه القيّم، في مجملها العام، هي أيضاً موضع اتفاق، إنما بقي الاختلاف، وسوف يظل، قائماً في تحديد مفهوم «القتل بلا وجه حق»، ليس بين نسل آدم وحواء فحسب، بل كذلك بشأن افتراس بعضهم للحيوان والطير، سواء لإشباع غرائز الجوع، أو إرضاء شهوات الصيد. ما دام أن هذا هو الحال؛ هل من العجيب أن النسبة الأعظم من شعوب العالم الإسلامي، ومنهم الفلسطينيون، تقول إن إصرار معظم، وليس كل، يهود إسرائيل على الاستمرار في احتلال أكثر من ثلثي أرض فلسطين، وما يترافق معه من قتل نساء وأطفال وكبار سن، إضافة إلى المُقاومين أنفسهم، يعني، بالمنطق والضرورة، حق مقاومة المحتل الإسرائيلي، بما في ذلك القتل الذي قد يشمل بعض المدنيين؟ الجواب؛ كلا، يجب ألا يستغرب أحد من فهم إسلامي، عربي، فلسطيني، كهذا.

في المقابل، يجب على القاصي- بمعنى المستوطنين أقاصي الأرض، والأطراف منها، مسلمين وعرباً وفلسطينيين- قبل الداني، أقصد المتمترسين في بلادهم، توقع تطبيق فهم مضاد لمفهوم «حق القتل» عندهم. هذا التوقع أمر واقع بالفعل، أي أن الجميع في الجانب الفلسطيني، من الصراع، وامتداده العربي والإسلامي، يعلم جيداً أن الانتقام الإسرائيلي آتٍ، ولو استغرق من الوقت ما قد يوهم، أحياناً، بصرف النظر عنه. ضمن هذا السياق، ليس غريباً ان تصل ذراع «الموساد» إلى إسماعيل هنية في طهران، كما فعلت من قبل مع غيره، سواء من قيادات «حماس»، مثل أحمد ياسين ومصطفى الرنتيسي وإسماعيل أبو شنب، وغيرهم، أو قادة حركة «فتح»، كما خليل الوزير وصلاح خلف وهايل وعبد الحميد في تونس، ومن قبلهم محمد يوسف النجار وكمال عدوان وكمال ناصر في بيروت، وغيرهم في مناطق عدة. الغريب حقاً، ولو من وجهة نظري، ككاتب ومتابع فلسطيني، أن يستمر الغباء الإسرائيلي المُتَوقِع أن اغتيال الشخص سوف يقتل الأفكار. كلا هُراء. ذلك مجرد تفكير رغبوي غير واقعي على الإطلاق. ألمْ يأن لهؤلاء القوم إدراك أنهم برصاص الاغتيال يضخون جديد الدماء في حياة أفكار كل قائد مُغتال؟