صباح الإفطار (الريوك) العراقي لا يشبه أي صباح آخر، بطعمه ومذاقه الذي جعل الحياة العراقية شهية بحنين مكثف وعشق نادر، رغم قسوتها أحياناً، وسرياليتها أغلب الأحيان!
كان العراقي شخصاً مكرساً للنكهة والمعنى، مغرماً بجمع المتناقضات والمتضادات، مثل القيمر والكاهي، أو اليسار والإسلام، الإلحاد والإيمان المتطرف، الإذعان التاريخي والثورات المفاجئة، الهزائم الخارجية والانتصارات الداخلية، يخشى النساء رغم عشقه الدائم لهن، يخاف من التغيير، ويهوى تحدي المخاطر.. إلى آخره من صور الخرافة وقواعدها العراقية التي قلما تجدها في شعوب أخرى.
الصباح العراقي مغطى بصوت فيروز، بعد صدى الرحمن منذ الفجر حتى رائحة الشاي الخادر وعبق الهيل، يدور هذا الصوت كل يوم، وكل شهر منذ خمسين سنة!
بكتب اسمك يا حبيبي ع الحور العتيق … تكتب اسمي يا حبيبي ع رمل الطريق.
صباحاتنا لم تزل ترسم أناشيد الأمل والبحث عن فرح ضائع في متاهات الدروب والأزمنة المتعرجة على طريقة "حيَّة ودرج"، فتبدو كأنها لعبة وليست حياة، صباحات شاخصة في ذاكرة الخوف من نهار ملغم بالمفاجآت والجنون المباغت لزمن يمشي بالعكس، ويبقى الصباح يكتب الدعاء والابتسامة، ويغسل ما تبقى من نعاس.
لا يوجد صباح في هذا الوجود مثل صباح العراق، ناقع بندى دعاء الأمهات والحبيبات ما يجعل أشد النهارات قيضاً تحمل برودة منعشة بحنين النساء، وأي حنين، وأي عذوبة وجمال، من هنا كان الورد الجوري العراقي يأخذ شذاه من رحيق الأمهات ورقتهن والعبق الأمومي؛ البيوت التي ترحل عنها الأمهات يفقد الورد عطره، وتجف حدائقها.
وطن كانت له نكهة الكاهي والقيمر في صباحه المطعم بالعافية والغزل، ظهيرته تفوح برائحة العنبر وشهيق الأنهار، وفي مساءاته ترتحل القوافي لحدائق النار والنشوة والثلج وترانيم تبدأ بالضحك والذكريات، وتنتهي بدموع الحنين والفراق أحياناً!
إقرأ أيضاً: الذكاء الاصطناعي واختفاء الإنسان!؟
زمن يدور، ولكن إحداثيات اليوم العراقي تبقى تحمل وظائفها، رغم اختلاف أو اختفاء الطعم والمعنى، رغم تصحر الروح والنهر والورد ورحيل الأمهات، والحب والسلام، والمواعيد والمقاهي والحكايات.
كان الصباح العراقي يمتاز بالكاهي والقيمر، صباح العرسان الضاحك بالحلاوة والرقة.
لا أعرف لماذا لم يعد للكاهي والكيمر ذات النكهة والمذاق والمعنى، وطبول العرس تؤجر في إعلان يفتقر للفرح النقي؟
إقرأ أيضاً: قانون الأحوال الشخصية بين رغبة الإطار التنسيقي والانقسام المجتمعي؟
بلاد تتماهى مع موتها البطيء لتظهر بلاد أخرى بلا ملامح عراقية، وتلك الأسطورة العراقية التي كتبتها أرواح من رحلوا، ومن بقيَ على قيد البلاد والانتظار هي الأخرى اختفت مع اختفاء النهر.
والصباح لم يعد صباحاً عراقياً!؟
تلك الأسطورة الهائلة التي أخرجت للوجود بدر شاكر السياب وجواد سليم وعلي الوردي وزها حديد ومئات العمالقة، أسطورتنا تحولت إلى سيرك عالمي من "قرقوزات" الزمن التافه والموت المجاني.
التعليقات