خسر "حزب الله" اللبناني في المواجهات الحالية معركة الدعاية والحرب النفسية بالضربة القاضية، وبات الجميع واثقاً من أن الحزب وزعيمه يكذبون فيما يتعلق بالعمليات التي ينفذها ضد دولة إسرائيل، التي استبقت الهجوم الذي كان الحزب يعتزم تنفيذه يوم الخامس والعشرين من أغسطس الماضي، وشنت دولة إسرائيل ضربة استباقية كبيرة أجهضت هجوم الحزب قبل تنفيذه بنحو نصف ساعة بحسب تقارير موثوقة!

عمليات الاختراق الإسرائيلية لاستخبارات واتصالات الأطراف الأخرى ليست جديدة، فقد فعلتها دولة إسرائيل مرات عدة في مراحل صراعها الاقليمي المختلفة، كما فعلتها مع إيران، التي أصبحت تقريباً مثل الكتاب المفتوح بالنسبة للجيش وأجهزة الاستخبارات الاسرائيلية، ويبدو أن هذا الكتاب سيبقى مفتوحاً لمدة طويلة في ظل حالة الانكار الساذجة التي تتبناها السلطات الإيرانية.

السبب المباشر في الهجوم الاسرائيلي الاستباقي لا يتمثل فقط في وجود كنز معلوماتي يمكن الاعتماد عليه في الهجوم، بل لأن حكومة نتنياهو قد تجاوزت فكرة قواعد الاشتباك ولم تعد تعمل سوى ما ترى أنه يحقق أهدافها الاستراتيجية وحماية وأمن دولة إسرائيل.

أما مسألة اختراق نظام معلومات/ اتصالات "حزب الله" فليست جديدة، فجميع العمليات الاسرائيلية التي نفذت منذ السابع من أكتوبر الماضي اعتمدت على معلومات استخباراتية دقيقة مكنت دولة إسرائيل من اصطياد قادة ومسؤولي حزب الله بشكل متواصل، وكان "فؤاد شكر" آخر قتلى هذا الاختراق المثير للإعجاب والإنتباه، والذي لم يعترف به حزب الله كعادته والمؤكد أنه لن يعترف، بل سيبقي متماهياً مع حالة الانكار التي يستمدها من رعاته الإيرانيين.

بعض الخبراء يرون أن هناك خيانات مؤكدة وواضحة بين كبار قادة الحزب، وهذا وارد إلى حد كبير، ولكن لا يمكن استبعاد مسألة اختراق أنظمة اتصالات حزب الله، للحصول على المعلومات، لاسيما أن هذه الأنظمة التقنية تم اختراقها في بلدها الأصلي إيران، وهذا مايفسر صعوبة وصول دولة إسرائيل إلى "المعتوه" الإرهابي "يحي السنوار" قائد مليشيا "حماس الإرهابية" في قطاع غزة، والذي لا يعتمد غالباً على أي تجهيزات تقنية في التواصل مع بقية عناصر الإرهابية.

حزب الله ادعى بعد العملية الاستباقية الإسرائيلية أنه تمكن من استكمال المرحلة الأولى من الرد على اغتيال "فؤاد شكر"، وهذا امر لافت لأن هذه المرحلة لم تصب أهدافها ولم تحقق أي نتائج عملياتية تذكر، ما يدعو للتساؤل حول جدوى هذه العمليات التلفزيونية البلهاء التي تجلب المزيد من الهجمات ضد لبنان وشعبه.

بلاشك أن حزب الله لم يعترف بتعرض قواعد ومنصات صواريخه لعملية اجهاضية إسرائيلية، ولكن لجوء حزب الله إلى استخدام نحو 340 صاروخ كاتيوشا القديم ومائتي مسيرة يؤكد بالفعل حقيقة تحييد أغلب منصات إطلاق الصواريخ، بحيث لم يعد أمام حزب الله لحفظ ماء الوجه سوى اللجوء لإستخدام صواريخ متقادمة يعرف مقدماً أنها لن تحقق الهدف المطلوب من الهجوم.

شخصياً لست مقتنعاً بالمبررات التي يروج لها أنصار حزب الله عبر تحليلات تفتقر للمنطق والمعلومات الصحيحة، أو من خلال السوشال ميديا وتقوم على أن اللجوء للكاتيوشا كان لتضليل أنظمة الرادار والرصد وشبكة الدفاعات والمضادات الأرضية الإسرائيلية وتمكين المسيرات التي أطلقها الحزب من الوصول إلى أهدافها في عمق دولة إسرائيل، باعتبار ذلك استنساخاً لتكتيكات عسكرية معروفة باسم الإغراق الصاروخي وتم استخدامها في حروب حديثة عدة، ولكن الشواهد تؤكد أن المسيرات لم تصب أي من الأهداف الاستراتيجية التي ادعى الحزب مراراً امتلاكه احداثيات دقيقة لها.

الواضح أن حزب الله يستفيد بشكل كبير من ميل دولة إسرائيل لتفادي الدعاية والتركيز على العمل الميداني والاكتفاء بتحقيق أهدافها في ظل حالة من الصمت، ما يوفر المجال أمام حزب الله لملء فراغ ساحات الاعلام بما يراه من دعاية، وهذا الأمر لا يشغل بال الإسرائيليين كما يبدو لأن المهم بالنسبة لهم هو كبح أي تهديد إقليمي وتحييده ، وإفشال أي خطط لاستهداف أمن الداخل وضرب العمق الإسرائيلي بما يقوض صورة دولةإسرائيل وسمعتها.

المؤكد فيما يحدث أن حزب الله لا يريد خوض حرب واسعة ضد دولة إسرائيل، لأنه يعرف تماماً، كما إيران، أن الامر هذه المرة ليس كما سبق، وأن تكلفة هذا الهجوم قد تكون انهاء وجود الحزب، لاسيما وأنه يرى نتائح سيناريو مليشيا "حماس الإرهابية" في قطاع غزة أمام عينيه، ولهذا فإنه لا "نصر الله" يريد أن يكون وحيداً محاصراً تحت الأرض، ولا إيران نفسها تريد للحزب مصيراً مماثلاً لحماس الإرهابية، لاسيما أن حزب الله هو درة التاج بالنسبة لمشروع إيران التوسعي في منطقة الشرق الأوسط، وانهياره يعني انهاء أسطورة التمدد الاستراتيجي الإيراني وإلزام إيران بحدودها الجغرافية ونسف استراتيجية الحرب بالوكالة، وإجبارها على تغيير عقيدتها العسكرية لتصبح كأي دولة عادية/ طبيعية ملتزمة بحدودها الجغرافية، وهذا معناه خسارة كل الموارد المالية والبشرية الهائلة التي أنفقها النظام الإيراني منذ سنوات طويلة في بناء شبكة الميلشيات الاقليمية التي تلعب دور رأس حربة مشروعه التوسعي.

ماسبق يثير تساؤل مهم يتعلق بما هو آت ومتوقع، فالنظام الإيراني لا يبدي ارتياحاً للتعايش مع الإهانات المتكررة من قبل دولة إسرائيل التي لطخت سمعته وحطمت صورته وجعلته عاريا، وقد كان النظام الإيراني يراهن بشدة على التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار في غزة والادعاء بأنه تراجع عن الإنتقام من دولة إسرائيل دعماً للشعب الفلسطيني، ولكن هذه الفرصة لا تزال بعيدة، ويبدو أن هناك نوع من تعارض المصالح بين "السنوار" الذي لم يعد يمتلك خيارات سوى مواصلة القتال، وبين إيران التي ترى في وقف حرب غزة طوق انقاذ لسمعتها الملطخة بالوحل والإهانة، والأرجح أن عدم وجود تواصل مباشر بين نظام الملالي و "السنوار" هو ما ينتج هذه الحالة من الضبابية وسوء التقدير وغياب التنسيق بين الطرفين، وهو أمر لم يكن حاصلاً أثناء قيادة "إسماعيل هنية" للمليشيا الإرهابية، حيث كان ينتقل بين الدوحة وطهران. أما حزب الله فالأرجح أنه سيكتفي بالمناوشات والعمليات ذات الصبغة الدعائية والتي يدفع الثمن غاليا فيها من دماء قياداته وذلك من أجل الادعاء بأنه نفذ تهديداته ضد دولة إسرائيل، التي لم تعد تشعر بقلق كبير إزاء تهديدات حزب الله واتجهت بدلاً من ذلك إلى تنفيذ خطة أخرى لتحييد التهديدات الإرهابية الآتية من الضفة الغربية بعد أن تيقنت من ضعف التهديد القادم من الشمال.