لم يعد مشروع إيران التوسعي، بنسخته الإسلامية الشيعية الخمينية، القائمة على ولاية الفقيه، خافيًا على أحد. وقد أشرت إلى نسخة بعينها، لأن هذا المشروع كرر نفسه تاريخيًا بنُسخ متعددة. فبغض النظر عن شكل الدولة وطبيعة النظام، يميل العقل السياسي الفارسي للتوسع، لأنه مسكون بعقدة التفوق على الآخرين عمومًا، والمحيط الجغرافي تحديدًا، التي أشار إليها المفكر الإيراني علي شريعتي في كتابه "التشيع العلوي والتشيع الصفوي". وقد قدم شريعتي أمثلة من التاريخ حول ما أسماه نظرية "النطفة"، منها ادعاؤهم في الكتب التاريخية بأنَّ الإسكندر عندما احتل بلاد فارس، أرسل ليجلب فرسًا إيرانية ليتزوجها حصانه بوسيفالوس لتحسين نسله، رغم أنه كان حصانًا أصيلاً أهداه له أبوه. وقد صاغوا هذه القصة بصيغة إقرار من العدو نفسه، الذي يسعى للتزاوج معهم لتحسين نسله سواء أكان حيوانيًا أو إنسانيًا، ليقنعوا أنفسهم بأنهم حتى عند الهزيمة أفضل ممن هزمهم. تكرر الأمر مع كذبة زواج الإمام الحسين من ابنة كسرى، التي يفترض أنها أنجبت له زين العابدين الذي جاء منه أئمة أهل البيت. وهنا مربط الفرس الذي صيغ دراميًا، حيث ذكر أن الإمام علي قال لعمر بن الخطاب عندما جيء ببنت كسرى سبية: "بنات الملوك لا يُبعن"، ولكن يزدجرد لم يكن له ابنة باسم شهربانو لتؤخذ أسيرة ويتزوجها الحسين الذي كان عمره 10 سنوات عند فتح فارس، فكيف تزوج من بنت كسرى؟

طبعًا لهذا المشروع هدف أساسي، هو إحياء الإمبراطورية الفارسية كقوة إقليمية تناطح القوى الكبرى، وهو ما يحدث اليوم بالفعل. في العادة تسعى الدول لتحقيق ذلك عبر احتلال محيطها بجيوش جرّارة، لكن إيران ابتكرت استراتيجية ذكية، يُفترض أن تُدرَّس في المعاهد العسكرية، بأن تحتل محيطها برجاله وسلاحه دون أن ترسل جنديًا من رجالها، أو تطلق رصاصة من ذخيرتها. فجارها يحتل نفسه بنفسه، ويدمر ذاته بذاته، ويقتل بعضه بعضاً، لأجلها. لذلك، رغم إرسال أميركا جيشًا جرارًا لاحتلال العراق، وإنفاقها مليارات الدولارات ليصبح نموذجًا ليبراليًا ديمقراطيًا، كألمانيا أو اليابان، كما توهمت أو أوهمها بعض العراقيين، إلا أن إيران تمكنت من إفشاله بالعراقيين أنفسهم، الذين كانت تُعدّهم على مدى عقود لهذا اليوم، وقدموا أنفسهم للعراقيين السذّج كحماة للدين والمذهب. هم عملاء، لكنهم لا يرون أنفسهم كذلك، ولا تراهم شعوبهم كذلك، بل تراهم أبطالًا. هم في العراق تيجان رأس وحماة أعراض، لأن تركيبة العراقيين تنفر من الديمقراطية والليبرالية، وتطرب للدين وغيبياته، فباتت إيران الحاكمة الآمرة الناهية في العراق بمليشيات مرتزقة عراقية، تمّت شرعنتها قانونيًا، وممولة رواتب وتجهيزًا من خزينة الدولة العراقية!

وإذا كانت إيران قد نفّذت سابقًا بعض خطوات مشروعها في السر، كما فعلت مع التيارات الشيعية في المعارضة العراقية السابقة، وبعضها الآخر في العلن، كما فعلت مع حزب الله في لبنان، والحوثي في اليمن، فإنها اليوم تتعمد إعلانها على رؤوس الأشهاد، لأنها أينعت وحان قطافها. ففي السابق كانت تتحرك بدهاء وبرود العقل السياسي الفارسي المعروف من باب "داري على شمعتك تقيد". أما اليوم، فتريد من كل العالم أن يعرف.. أن إيران الفارسية، وبثوب جمهورية إسلامية يحكمها معمم، هي اليوم مرجعية وزعيمة كل المسلمين، وليس الشيعة فقط. هي تقرر لهم ما يفعلون، وهم على هديها يسيرون، بدليل حماس واستهتارها، وتأييد الشارع الإسلامي لها.. وبأن كل العصابات المسلحة والتنظيمات الإرهابية في المنطقة هي تبعها وملك يمينها، باسم نصرة الدين والدفاع عن المستضعفين!

طبعًا الوصول إلى هذه المرحلة المتمثلة ببسط النفوذ على الدول العربية سبقته خطوات، أهمها إيجاد بدائل سياسية وأمنية وتنظيمية وعقائدية لشعوبها، على غرار ما قامت به في إيران نفسها لتطويع وتدجين الشعب الإيراني على مدى أربعة عقود. فرغم وجود رئيس لإيران، إلا أن الحاكم الفعلي لها هو المرشد الأعلى (الولي الفقيه). ورغم أن الملالي استلموا جيشًا كان يُصنَّف الخامس عالميًا بقدراته وتجهيزاته، إلا أنهم، خشية من أن بعض قياداته يمكن أن تحتفظ بولائها للشاه، همّشوه لصالح الحرس الثوري الذي جمع "الحثالات" ونتج منه فيلق القدس، الذي لم يكن اختيار اسمه اعتباطيًا، بل ليعطي انطباعًا بأنه سيحرر القدس، ليكون حاضنة لكل المليشيات العربية والإسلامية العقائدية المسلحة التي تدين بالولاء لإيران بحجة أنها تقاوم غطرسة الغرب، وتمثل جبهة الإيمان بمواجهة جبهة الكفر.

تيارات عقائدية بأذرع عسكرية تم تشكيلها من أبناء هذه الدول أنفسهم، جلّهم من الفاشلين المستعدين لفعل أي شيء من أجل المال، إلى جانب إذكاء التطرف المذهبي في نفوسهم، مستغلة ظروفًا عاشتها تلك الدول، كالحرب الأهلية اللبنانية لتشكيل حزب الله، أو ظروف العراق ما بعد 2003 وتحديدًا فيلم داعش لتشكيل الحشد الشعبي، لتسيطر من خلالها على الدول التي ستحتلها. فتبدأ بغسل أدمغتها مستغلة ظروفًا موجودة فعلاً كالحرب الأهلية اللبنانية، أو مفبركة من قبلها كداعش، لتوحي لها أن جيوشها عاجزة عن حمايتها وأوطانها، والبديل هو مليشيات تمثلهم وتمثل ضد نوعي لعدو من المذهب أو الدين أو القومية الأخرى التي تكرههم وتستهدفهم وتضطهدهم، إلى أن يطالبون هم أنفسهم بذلك، ويحدث برضاهم. والأمثلة على ذلك كثيرة.

في لبنان حلّ حزب الله بدلًا من الدولة، وبات جنوبه عاصمة لها بدل بيروت، وبات أمينه العام غلام إيران حسن نصر الله، الذي صرح قبل عقود بخطاب مسجل: "مشروعنا الدولة الإسلامية وحكم الإسلام، وأن يكون لبنان جزءًا من الجمهورية الإسلامية الكبرى، التي يحكمها صاحب الزمان ونائبه الولي الفقيه الإمام الخميني". الآمر الناهي في لبنان، يُحركه بإشارة من أصبعه، ويغتال علنًا كل من يعارضه، وبموافقته فقط يُعين رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية وينعقد البرلمان، وباتت مليشياته بديلًا للجيش اللبناني كضمانة لأمن البلاد! بعد أن تم تقزيمه أمامها.

إقرأ أيضاً: جِئنا لنُخَلّصكُم مِن صَدام، فخَلّصناه مِنكم!

أما في العراق، فبات الحشد بلملوم مليشياته التي تجاوزت الأربعين، وجمعت عصارة الحثالات، هو الدولة، وباتت قياداته التي تجاهر علنًا بولائها لخامنئي، خطوطًا حمرًا وتيجانًا لرؤوس العراقيين، كهادي العامري الذي له كلام مسجل حينما كان يقاتل مع الإيرانيين في الثمانينات: "نحن ننتظر توجيهات الإمام الخميني لتوجيه ضربات موجعة للعدو. نحن مع الإمام حتى آخر قطرة دم، لأننا نعلم أنه يمثل الإسلام، إذا قال حرب نحارب، وإذا قال سلم نُسالم". أما التيارات التي تمثل واجهة الحشد السياسية، فتشارك في الانتخابات رفعًا للحرج، فالحكم في النهاية لا بد أن يكون لها بغض النظر عن نتائج صناديق الاقتراع، وإن لم يحدث ذلك تهدد بالسلاح، كما حدث في الانتخابات التي فاز بها التيار الصدري، وحين حاول أن يُشكل حكومة مع السنة والأكراد بدونهم، لوحوا بإطلاق قطعاتهم إلى الشوارع وإشاعة الفوضى. الحشد وحده الذي يُقرر من يصبح رئيسًا للوزراء أو للجمهورية أو للبرلمان، والبرلمان يُصدر القوانين لمصلحته ومصلحة إيران، كقانون الأحوال، ومليشياته تهاجم السفارات وقواعد الحلفاء بتوجيه من إيران.

إقرأ أيضاً: ظاهرة اليَسار الإسلاموي والرهان على العمامة!

أما في اليمن، فقد استولت جماعة الحوثي القبلية المذهبية على الدولة، وجَعلت سُلطة مؤسساتها في أدنى مستوياتها وأضعف حالاتها. هي تحكم الدولة مِن خارجها، مع المحافظة على بُنيتها الحركية كمليشيا، ويتجلى هذا الأمر في ما يُسَمّى بالمُشرِف. فقد عَيّن الحوثيون مُشرفين على الدوائر والمناطق، في إطار سلسلة هَرمية مُستمدة من الطابع الحَركي للجماعة. وهو مَنصب مُستحدَث تُعيِّن فيه أشخاص موالين لها. وشخصية المُشرف تمزج بين صَلاحيات شيخ القبيلة ومَسؤول الدولة، وتتعداها إلى أبعد من ذلك. وبهذا باتت المليشيا هي الدولة ومن يُعاديها يُعادي الدولة.

بالنتيجة بات واقع الحال في بلداننا كالآتي.. حَركات دينية بَدَل أحزاب مَدَنية، مليشيات مرتزقة بدل جيوش نظامية، ولاء للدين والعقيدة بدل الولاء للوطن. وربما قريباً جامعة الدول الإسلامية بدل جامعة الدول العربية، إذا لم يوضع حَد لما يحدث مِن عَبث، فغسيل الدماغ ضِد من الحكومات العربية وجامعتها يَجري على قدم وساق، ويتم شيطنتهم وتقزيمهم وتسفيههم أمام شعوبهم، وفق خطة مُحكَمة تنفذها جيوش ألكترونية توصل الليل بالنهار خلف كيبوردات الموبايل، وفضائيات ولائية تبث سُمومها على أقمار تمتلكها دول عربية! وشعوبها تغرق يوماً بعد آخر في مستنقع بروباغندا إيران وأتباعها الذين بات لهم الصوت العالي، ولم يعد بإمكان الحكومات العربية وإعلامها إسكاتهم.

إقرأ أيضاً: طَريق تحرير فلسطين الذي يُمُر بغَيرها ولا يؤدي إليها!

بالنهاية وكما ذكرنا في مناسبات عِدّة، هؤلاء أشبه بجيوش وخطوط دفاع تحارب بهم إيران أعدائها في عقر دارهم أو تُشاغِلهم بهم، أو تُضَحّي بهم حين ينتهي دورهم أو يُصبحوا كارتات محروقة. وهو ما حدث مؤخراً بالفعل مع حماس وقياداتها، وحزب الله وقياداته. اللذان شاغلت بهم إيران أعدائها من الدول العربية لعقود، ثم حاربتهم بهم كما حدث في سوريا والعراق، ثم ورطتهم في مغامرة، كان واضحاً بأنها انتحارية، لكن لشدة تمَكّنها مِنهم وغَسلها لعُقولهم صَدّقوها ونفذوا ما أرادته، حتى وإن كان فيه حتفهم. وإلا لا يُمكن أن يكون اغتيال هنية في سَكَن الحرس الثوري الذي يبعد 750 متراً عَن مَقر الرئاسة الإيرانية، أو اغتيال قيادات الصف الثاني والأول لحزب الله وصولاً الى أمينه العام، صدفة لا يوجد خيط يربط إيران بها، والدور قادم على الحوثي ثم الحشد الذي ستكون قطعانه آخر خط دفاع للمشروع الإيراني، قبل أن يَتهاوى أو يتم تحجيمه، لأنَّ ترسباته الموبوءة التي تركها ونَخَر بها المُجتمعات العربية، وباتت أشبه بطابور خامس إختياري يعمل لصالحه لا شعورياً، لا يمكن القضاء عليها بين يوم وليلة، وهي مُهمة تبدو شُبه مستحيلة، على الدول العربية أن تتصَدّى لها بِجِدّية، لتُعيد لبُلدانها ألقها ولمُجتعاتها إنسانيتها، التي سَلبها منها هذا المَشروع الظلامي الخبيث.