في تصريح لافت قبل توليه السلطة رسمياً بنحو عشرة أيام، قال الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب رداً على سؤال حول ما إذا كانت لديه رسالة يوجهها للمرشد الإيراني علي خامنئي قبل حفل تنصيبه الذي أقيم في العشرين من يناير الماضي "أتمنى له التوفيق"، ولم يتضح للمراقبين إذا كانت هذه العبارة تعكس حسن نية ورغبة في تهدئة التوتر بين البلدين أم انها مجرد عبارة بروتوكولية لا دلالة مهمة لها.

المعروف أن إيران كانت هدفاً مباشر لهجوم الرئيس ترامب خلال حملته الانتخابية، حيث عارض بقوة مفاوضات إحياء الاتفاق النووي الذي سبق أن انسحب منه خلال فترة رئاسته الأولى، كما اكتسب موقفه تجاه إيران بعداً شخصياً بعد أن وجهت السلطات الأمريكية اتهاماً لإيران بالتورط في محاولة لاغتيال ترامب بعد أيام من إعادة انتخابه رئيساً للولايات المتحدة، حيث ذكرت تقارير إعلامية أمريكية أنه تم توجيه التهم لـ3 أشخاص في خطة إيرانية لاغتيال ترامب ومعارضين إيرانيين، وهي اتهامات قد لا تؤثر بشكل فعلي في سياسات الرئيس ترامب لكنها قد تفيده في "صناعة قضية" يمكن أن يوظفها من أجل تدجين إيران والضغط عليها أو تبرير أو سياسات قد يتخذها بشأنها.

خلال فترة رئاسته الأولى، انتهج ترامب حيال إيران سياسة "الضغط الأقصى" ولكنه لم يفكر مطلقاً في توجيه ضربة عسكرية ضدها، رغم أن إيران قد تورطت في اسقاط طائرة استطلاع أمريكية من دون طيار من طراز "تريتون إم كيو ـ4 سي" تابعة للبحرية الأمريكية، فيما وصف أمريكياً بـ"هجوم غير مبرر على مورد استطلاع أمريكي في الأجواء الدولية"، وإن كان قد عاقب إيران لاحقاً بتوقيع قرار اغتيال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، في يناير 2020، ولا يبدي الرئيس ترامب في المجمل أي رغبة في مواجهة عسكرية مع النظام الإيراني، والأرجح أن يستمر موقفه في هذا الشأن لاسيما بعد تحجيم النفوذ الإيراني بشكل كبير بعد الضربات التي وجهتها دولة إسرائيل ضد الأذرع الإيرانية في الشرق الأوسط، فضلاً عن توجيه أول هجوم عسكري إسرائيلي مباشر ضد إيران، في عملية لم تكن لها آثار عملياتية كبيرة ولكن لها رمزية عميقة فهمها النظام الإيراني جيداً باعتبار أن الضربات "الرمزية" المتبادلة مع دولة إسرائيل كانت ضمن عملية إعادة ضبط وترسيم قواعد الاشتباك بين الخصمين الاستراتيجيين.

التحدي الأهم الذي سيواجه ترامب بالنسبة لإيران يتعلق بالبرنامج النووي، حيث تنتهي فعلياً في أكتوبر من هذا العام القيود التي اشتمل عليها الاتفاق النووي، أو خطة العمل الشاملة المشتركة الموقعة عام 2015، والتي انسحبت منها الولايات المتحدة فعلياً، ولكنها لا تزال المرجع بالنسبة لبقية الأطراف الدولية الموقعة عليها وبالأخص الاتحاد الأوروبي، حيث يتطلب الوضع إعادة ترسيم السياسة الغربية حيال إيران التي تتفاوت التقارير المتخصصة في تقدير مدى اقترابها من "النادي النووي".

ورغم التكهنات العديدة التي تناقش مدى دعم إدارة ترامب خطط إسرائيلية لتوجيه ضربة استباقية للمنشآت النووية الإيرانية، واستشعار دولة إسرائيل أن الرئيس الجديد سيكون خير داعم لها في هذا السيناريو، أو هي تحاول اقناعه بذلك لاسيما أن الفرصة باتت سانحة تماماً لتتخلص إسرائيل من جميع التهديدات والتحديات التي تواجه أمنها، وتعيد صياغة شرق أوسط جديد يواكب مصالحها وأهدافها، فإن الأرجح ألا يذهب البيت الأبيض في عهد ترامب إلى حد ضرب إيران عسكرياً، وأن يبحث عن مخرج دبلوماسي ولاسيما في حال رضخت طهران وتعاملت بواقعية ـ كعادتها ـ استباقاً للضغوط الأمريكية المتوقعة وأظهرت تعايشاً مع الواقع الجيواستراتيجي الجديد في منطقة الشرق الأوسط.

ما تمتلكه إيران من أوراق ضغط في الآونة الأخيرة يتمثل في التلويح بالانسحاب من معاهد منع انتشار الأسلحة النووية NPT، ولكن الإشارات الأكثر جدية من طهران تعكس نيتها التفاوض مع إدارة ترامب ويبقى الرهان على مدى تأثير مواقف مساعدي الرئيس ترامب الذين اختارهم من بين الأكثر عداء لإيران (براين هوك المبعوث الأمريكي الخاص خلال ولاية ترامب الاولى نموذجاً لذلك) وقد يكون ذلك من باب توجيه الرسائل وليس تنفيذ السياسات.

المعضلة التي تواجه ترامب حال قرر الاعتماد على العقوبات هي أنه لا توجد عقوبات اخرى يمكن فرضها أمريكياً على إيران، كما أن هدف ضرب إيران وإشعال حرب جديدة في الشرق الأوسط يتعارض تماماً مع رغبة ترامب في دعم الوضع الاقتصادي للولايات المتحدة عالمياً، لاسيما أن نفوذ إيران وسياساتها التوسعية قد تم تحجيمها بشكل كبير بعد الضربات الإسرائيلية ضد حزب الله اللبناني وحركة حماس الإرهابية وانهيار النظام السوري، حيث لم يعد سوى جماعة الحوثي الإرهابية التي يمكن ان تحصل دولة إسرائيل على ضوء أخضر أمريكي من أجل شن عملية عسكرية واسعة ضدها، بل يمكن للولايات المتحدة نفسها قيادة مثل هذا الهجوم باعتباره أقل خطورة من ضرب إيران ويمكن أن يجلب للرئيس ترامب دعاية سياسية كإدارة فاعلة على صعيد حماية أمن دولة إسرائيل والدفاع عنها ضد التهديدات.

لا يجب أن ننسى وسط كل هذا النقاش أن ترامب نفسه قد صرح خلال حملته الانتخابيه بأن يمكن أن يبرم صفقة جديدة مع إيران، وحتى إدخالها في اتفاقيات التطبيع مع دولة إسرائيل دون تقديم تفاصيل حول كيفية قيامه بذلك. وعندما سئل عما إذا كان سيعيد التفاوض على اتفاق مع إيران إذا أعيد انتخابه، قال ترامب "بالتأكيد، سأفعل ذلك" وأضاف "علينا أن نعقد صفقة لأن العواقب مستحيلة"، وفي حديث له أمام مؤتمر المجلس الإسرائيلي الأمريكي، قال ترامب إنه "ربما يتوقع كذلك أن تنضم إيران إلى الاتفاقيات الأبراهيمية"، ولهذا علينا أن ندرك أن تشجيع ترامب للقادة الإسرائيليين على ضرب البرنامج النووي الإيراني قبل انتخابه قد لا يتكرر بعد انتخابه والأمر يختلف بإختلاف التبعات والمسؤوليات، وربما يفسر ذلك ما طرحته مجلة "فورين بوليسي" التي رسمت سيناريو تخيلي لزيارة الرئيس ترامب لطهران، وشبهت الأمر بزيارة الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون للصين، واعتبرت ذلك أمراً وارداً ، وهو كذلك بالفعل فلا مستحيل في ظل نهج الرئيس ترامب رجل الصفقات السياسية الأول بامتياز، حيث أشارت المجلة إلى محاولات ترامب خلال فترة ولايته الأولى فتح حوار مباشر مع إيران، ومن ذلك محاولتين فاشلتين في عام 2019 لترتيب لقاء ثنائي لترامب مع وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف ثم الرئيس السابق حسن روحاني، وما يعزز فرص سيناريو الصفقة أن الولاية الجديدة للرئيس ترامب يغيب عنها عنصران مؤثران للغاية من أشد أعداء إيران وهما مايك بومبيو الذي كان وزيراً للخارجية وجون بولتون مستشار الأمن القومي السابق، كما أن إيران نفسها لم تعد في موقف القوة ذاته الذي كانت عليه خلال فترة ولاية ترامب الأولى، بالاضافة إلى نضج الدبلوماسية الترامبية وميلها لتحقيق انجازات تسجل في إرثه السياسي التاريخي، ولكن يبقى المحدد الرئيسي لذلك كله كيفية قراءة إيران للمشهد الإقليمي والدولي بكل ما ينطوي عليه من فرص وتحديات، وعدم ارتكاب اخطاء استراتيجية كبرى قد تطيح بفرص التهدئة والتعجيل بضربها عسكرياً لتفادي ما يمكن وصفه بـ "سيناريو الرعب" بالنسبة للرئيس الجديد وهو امتلاك إيران سلاح نووي خلال فترة ولايته الثانية.