حُفظت في أرشيف دن ثلاثةُ ملفات تحت عنوان «الجمعيات» (Societies)، تضمنت هذه الملفات أعدادًا ووثائق ومنشورات صادرة عن جمعيات أهلية مختلفة في مصر خلال الفترة ما بين عامي ١٩٣٣م و١٩٤٤م. ومن بين ما اطلعت عليه من هذه المنشورات:

١- مذكرة طلب التحاق بجمعية الشبان المسلمين [غير معبأة]

٢- مذكرة لجماعة الأخوة الإسلامية

٣- الاخوان المسلمون: تقرير إجمالي خاص عن خطوات الاخوان المسلمين في العام الماضي وعن خطواتهم المقترحة في العام القادم إن شاء الله – حسن البنا، ١٩٣٩م

٤- مجلة الشبان المسلمين: مجلة إسلامية علمية تهذيبية تصدرها جمعية الشبان المسلمين مرة في الشهر ويحررها نخبة من أعضائها – مارس ١٩٣٣م

٥- برنامج حزب مصر الفتاة – الطبعة الثانية، مايو ١٩٣٨م

٦- رابطة الإصلاح الاجتماعي: أوقات الفراغ وكيف نستثمرها

٧- مجلة الإرشاد: تصدرها جماعة الأئمة والخطباء، دينية إسلامية خلقية تاريخية اجتماعية

٨- قانون رابطة الزجالين

٩- جمعية عين شمس الخيرية – مايو ١٩٣٣م

١٠- جماعة نشر الثقافة بالاسكندرية: تقرير مجلس الإدارة

١١- مقالة في البهائية، ترجمت وطبعت بمعرفة الجمعية العلمية البهائية بمصر

١٢- جمعية الجهاد الإسلامي – الطبعة الثانية ١٣٥٨هــ

١٣- رسائل الإخوان المسلمين: نحو النور – مكتب الارشاد العام بالقاهرة، محرم ١٣٥٦هــ

١٤- لسان حال الجمعية المصرية للبحث والتوجيه – مايو ١٩٤٤م

والواضح أنَّ لدن اهتمامًا عامًا بالجمعيات الأهلية المصرية، كجزء من اهتمامه بالموضوع المصري: تاريخه وثقافته وتراثه وأدبه وحاضره.

دن، كما ذكر تشابمان وغيره، تم استدعاؤه إلى مصر خلال الحرب العالمية الثانية وعمل مع الجنرال إيلتيد نيكُل كلايتون. والجنرال كلايتون هو أحد شخصيتين أهدى لهما كتابه «الاتجاهات»، أما الثاني فهو والتر مونكتُن. خدم كلايتون في المدفعية الملكية من ١٩١٤م إلى ١٩١٩م، وشارك في العمليات العسكرية في العراق عام ١٩٢٠م، والتحق بالجيش في العراق من ١٩٢١م إلى ١٩٢٨م، وشغل منصب عميد في الاستخبارات العسكرية في القاهرة من ١٩٤٠م إلى ١٩٤٣م، وعمل مستشارًا للشؤون العربية لوزير الدولة من ١٩٤٣م إلى ١٩٤٥م، وشغل منصب مستشار لرئيس المكتب البريطاني للشرق الأوسط حتى ١٩٤٨م (التحق بالسفارة البريطانية في القاهرة كوزير خلال الفترة ١٩٤٧م-١٩٤٨م). وأما مونكتُن، فكان في عام ١٩٤٢م مدير عام الدعاية والخدمات الإعلامية البريطانية في مصر تحت إشراف أوليفر ليتلتون، وزير الدولة المقيم في القاهرة. وفي مايو ١٩٤٥م، وافق على تولي منصب المحامي العام في حكومة تشرشل المؤقتة، وفي يوليو سافر إلى بوتسدام كمندوب المملكة المتحدة في لجنة التعويضات.

وسأجيب عن سؤال «لماذا أهدى دن كتابه «الاتجاهات» إلى كلايتون ومونكتن دون غيرهم من المسؤولين والدبلوماسيين البريطانيين الذين عمل معهم وتحت إشرافهم في مصر؟» في المقالة القادمة. أما الآن، فأعود لسؤالين آخرين مهمين: ما هي المهمة التي ذهب لأجلها دن إلى مصر بين ١٩٣٩م-١٩٤٣م؟ وماهي طبيعة دوره في هذه الفترة؟

بقيت متحيرًا أمام هذا السؤال، حتى اطلعت على تفاصيل مجموعة من وثائق مكتبة الخارجية البريطانية، اثنان منها تحدثت عنها ستيفاني ويتشارت أستاذة التاريخ في جامعة نياغرا، وثلاثة أعمال أخرى سأتحدث عنها لاحقا في هذه الدراسة. العمل الأول هو فصل كتبته ستيفاني بعنوان: «ما الذي قدمته بريطانيا للإسلام: الدعاية البريطانية للعالم الإسلامي خلال الحرب العالمية الثانية ١٩٣٩م-١٩٤٢م» وهو فصل من كتاب: «بريطانيا في العالم الإسلامي: الروابط الإمبريالية وما بعد الإمبريالية»، تحرير: جاستن كوين أولمستيد، ٢٠١٩م. والعمل الثاني هو أحدث كتبها «بريطانيا، مصر، والعراق خلال الحرب العالمية الثانية»، نشر عام ٢٠٢٣م.

هذا الطرح الذي سأذكره استخلصته ستيفاني من ثلاث تقارير اطلعت عليها من مكتب الخارجية البريطانية: الأول رقمه المرجعي FO371/24623, TNA كان عنوانه: «تقرير عن التوجهات السياسية في مصر بناءً على ملاحظات جُمعت خلال الفترة من ٢٧ ديسمبر ١٩٣٩م إلى ٣ فبراير ١٩٤٠م» أعده الدكتور هيوارث-دن، كبير محاضري اللغة العربية في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية، جامعة لندن. والتقرير الثاني ورقمه المرجعي FO 898/113, TNA كان عنوانه: «أعمال الدعاية والاستخبارات التي نفذها الدكتور ج. هيوارث-دَن لمنطقة العرب والمسلمين ضمن قيادة الشرق الأوسط خلال الفترة من مارس إلى مايو ١٩٤١م». والتقرير الثالث رقمه FO371/24623, TNA وكان عنوانه:« لامبسون إلى هاليفاكس، ٥ فبراير ١٩٤٠م». تقول ستيفاني:

«في القاهرة، لجأت السلطات العسكرية في القيادة العامة [البريطانية] إلى الدكتور جيمس هيوارث-دن، وهو مُدرّس للغة العربية في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية (وكان ذلك بعد أن جذب تقرير هيوارث-دن الصادر في فبراير ١٩٤٠م حول جماعة الإخوان المسلمين اهتمام المسؤولين في لندن) للاستفادة من خبرته الفريدة للقيام بأعمال الدعاية والاستخبارات تحت إشراف العميد كلايتون، مع التركيز على الدول الإسلامية الناطقة بالعربية التي كانت تحت إشراف القيادة العامة [البريطانية] للشرق الأوسط، وخاصة مصر. وكذلك لتطوير الدعاية السوداء لصالح الإدارة التنفيذية للعمليات الخاصة.

كان هيوارث-دن زائرًا متكررًا للقاهرة حيث امتلك منزلًا، وأعد تقارير لوزارة الإعلام البريطانية عن مصر قبل اندلاع الحرب. إلى جانب خبرته الأكاديمية، كان معتنقًا للإسلام ومتزوجًا من مصرية، وهي روابط شخصية جعلت تواصله مع المصريين مختلفًا عن تعامل المسؤولين البريطانيين، كما أشار السفير البريطاني سير مايلز لامبسون بقوله: «اتصاله بالمصريين يتم على أساس مختلف عن المسؤول الإنجليزي الرسمي، ولذلك فهو ذو أهمية خاصة».

خلص هيوارث-دن إلى أن الدعاية التي تبثها وزارة الإعلام البريطانية غير فعالة، موضحًا أنه: «لا يمكننا التعامل مع الدعاية المصرية والإسلامية إلا باستخدام أساليب مصرية وإسلامية». بالنسبة له، كان نشر الشائعات وسيلة تستند إلى التقاليد المحلية، مشيرًا إلى أن المسلمين يستخدمون هذه الطريقة في الدعاية منذ ١٣ قرنًا، وأن التراث الأدبي العربي يضم عددًا من الأعمال حول هذا الموضوع. وأرجع انتشار جماعة الإخوان المسلمين جزئيًا إلى إتقانهم لهذه المهارة القديمة.

واجه هيوارث-دن صعوبة في نشر رسائله داخل المؤسسات الدينية الرسمية مثل الأزهر والمساجد بسبب نفوذ رئيس الوزراء المصري علي ماهر، لذلك ركّز على شيوخ الطرق الصوفية، واصفًا إياهم بأنهم: «منافسون لعلماء الأزهر في المساجد، وهم سادة أذكياء في فن الدعاية، كما أنهم يتقنون طريقة ’الهمس‘ القديمة، التي أثبتت فعاليتها عبر الزمن. إنهم يعرفون كيف يقدمون أفضل وأقوى نداء لمؤيديهم».كان هؤلاء الشيوخ الصوفيون أكثر تأثيرًا لأنهم كانوا يحظون بأتباع في مختلف أنحاء مصر، وليس في القاهرة فقط، وزعم أنه جنّد أكثر من ٢٠٠ شيخ منهم للمشاركة في هذا العمل.

صنّف هيوارث-دن الشائعات إلى ثلاث فئات: «همسات محلية» تتناول السياسة، الاقتصاد، الدين، أو الشائعات حول الشخصيات العامة أو دور مصر في الحرب. «همسات الشرق الأوسط» التي تتعلق بعلاقات الدول الإسلامية الأخرى مع مصر أو القوى الأوروبية. «همسات عامة عن الحرب» التي تشمل تأثير الحرب على بريطانيا وأمريكا، أو الخطط طويلة الأمد لألمانيا.

توسُّع الجهاز الدعائي البريطاني في مصر رافقه تدفق كبير من التمويل، حيث قدّر راشبروك ويليامز في نوفمبر ١٩٤٠م أن بريطانيا كانت تنفق أكثر من ١٢٠ ألف جنيه إسترليني على الدعاية في مصر، بتمويل من عدة جهات. أصبحت شعبة النشر والأمن (Pubsec) في السفارة البريطانية بالقاهرة، والتي كانت مقرًا لتوزيع الدعاية السرية والعلنية في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشرق البحر الأبيض المتوسط، ثاني أكبر مكتب لوزارة الإعلام البريطانية في الخارج بعد مكتبها في الولايات المتحدة.

إلى جانب الشيوخ، بنى هيوارث-دن شبكة من المنجمين المشهورين المرتبطين بالطرق الصوفية في مصر، الذين كانوا يحوّلون الشائعات إلى نبوءات. لم يكن تأثيرهم يقتصر فقط على أتباعهم عبر النقل الشفهي، بل كانت توقعاتهم الفلكية تُنشر في الصحف وتتداول في العالم الإسلامي. تفاخر هيوارث-دن بأنه استطاع التأثير على أكبر ثلاثة تقاويم سنوية في مصر من خلال هذا العمل، الذي تطلب معرفة متخصصة بالعربية، وعلاقات فريدة، وقدرة على التأثير في كامل سلسلة الإنتاج الإعلامي، من الفكرة إلى التوزيع في الشارع.

كان هيوارث-دن فخورًا بشكل خاص بحملة «توقعات هتلر الفلكية»، حيث طُبع منها ٧٠٠ ألف نسخة ووزعت في جميع أنحاء العالم العربي. أسهم عمله في مبادرة جهاز العمليات الخاصة لإطلاق حملة تنجيمية في نيويورك من خلال إلهام العرافين والمنجمين في غرب إفريقيا ومصر لنشر نبوءات عن موت هتلر وسقوطه، والتي وصلت في النهاية إلى الصحافة الأمريكية عبر القنوات المفتوحة.

في يونيو ١٩٤١م نشر المنجم المصري الشهير الشيخ يوسف عفيفي نبوءة عن هتلر، والتي ظهرت بأشكال مختلفة في الصحف المصرية والنيجيرية. أكد جهاز العمليات الخاصة في القاهرة أن الصحفيين في مصر أرسلوا النبوءة إلى الولايات المتحدة عبر البرقيات. تُعد حملة توقعات هتلر الفلكية مثالًا على كيفية توظيف تقاليد الإسلام الشعبي وشبكاته في الدعاية، كما تعكس فرضية غب قبل الحرب، التي تفترض أن الدعاية في الشرق الأوسط يمكن أن تمتد إلى العالم الإسلامي الأوسع وما بعده. على الرغم من القيمة التي قدمها هيوارث-دن في مجالي الدعاية والاستخبارات، إلا أنه كان شخصية صعبة التعامل معها، وكان متحفظًا بشدة على دوره كخبير في الإسلام ومعرفته العميقة بالمجتمع المحلي.

كانت تقاريره غالبًا ما تتضمن انتقادات لقيادة جهاز العمليات الخاصة، حيث اشتكى للندن من أنه مُجبر على العمل مع «مبتدئين جدا من إنجلترا»، والذين يُطلب منهم قراءة الملفات المتعلقة بالسياسة والشؤون الإسلامية ومن ثم تقديم أفكار للخبراء بعد أيام قليلة فقط من الاطلاع عليها، قائلًا إنهم يتوقعون أن يصبحوا خبراء في سوريا، العراق، إيران، ومصر في فترة وجيزة. أقر المسؤولون البريطانيون الذين راقبوا جهود هيوارث-دن بأن حملات الدعاية السوداء لديها إمكانية للوصول إلى جماهير جديدة خارج الدوائر الرسمية، لكنها كانت أيضًا محفوفة بالمخاطر، حيث إنها أقل تنظيمًا من حملات الدعاية البيضاء، مما يجعل من الصعب السيطرة عليها أو تقييم تأثيرها بدقة.

حذّر السفير مايلز لامبسون بعد تعامله مع هيوارث-دن قائلًا: «إن حماسه أحيانًا يتجاوز حدود الحكمة، مما يجعله عبأ محتملا رغم خبرته القيّمة.» » انتهى.

هذا التقرير الذي كتبه دن عن الإخوان في بداية عام ١٩٤٠م لم يكن آخر ما كتبه عنهم.

تشير مارغو دازي في بحث نشرته (بالفرنسية) بعنوان:«الإخوان المسلمون من منظور الاستخبارات البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية»، إلى ثلاث تقارير بريطانية، اثنان من مكتب الحرب (رقمهما المرجعي هو WO 208/4320 و WO 208/1561) والثالث من مكتب الخارجية–وهو تقرير كتبه دن مؤرخ بتاريخ ١٨ نوفمبر ١٩٤٣م (رقمه المرجعي FO 371/35539/J4741) عنوانه «تقرير الدكتور ج. هيورث-دن عن المنظمات الإسلامية في مصر» إلى التالي:

خلال الحرب [العالمية]، كان هناك هاجس مستمر لدى البريطانيين بشأن احتمال نشوء تحالفات بين الإخوان المسلمين ودوائر مصرية أخرى. كانت السلطات البريطانية قلقة من الدعم الذي يبدو أن الإخوان يتلقونه من القصر وبعض الشخصيات السياسية، مما دفعها إلى الضغط على الحكومة لفرض عقوبات على الجماعة. في منتصف أكتوبر ١٩٤١م، تم اعتقال حسن البنا وشريكه أحمد السكري، وأوقفت منشورات الإخوان، ومنعت اجتماعاتهم، بينما عملت أجهزة الاستخبارات البريطانية على تأجيج الانقسامات الداخلية داخل الجماعة.

إذا كانت السنوات الأولى من الحرب قد تميزت بقلق السفارة البريطانية إزاء الدعم الملكي للإخوان، فإن وصول حزب الوفد إلى السلطة في فبراير ١٩٤٢م غير المعادلة. قرر الإخوان ترشيح ممثلين لهم في الانتخابات، بينما استغل البريطانيون الخلافات الداخلية لتقويض مكانة حسن البنا. وبالرغم من أن فوزه في الإسماعيلية كان شبه مؤكد، فإن مصطفى النحاس، رئيس الوزراء آنذاك، أجبره على سحب ترشيحه وعقد معه اتفاقًا: في مقابل إعلان ولاء البنا العلني وتخليه عن الأنشطة المعادية للبريطانيين، خفف النحاس من الضغوط الأمنية على الجماعة. وعلق التقرير بريطاني على الاتفاق قائلًا: «يُقال إن رئيس الوزراء يسعى بذلك إلى تقويض قوة الجماعة، في حين أن حسن البنا، من جانبه، يحاول كسب الوقت ويريد أن تكون يداه حرتين لمواصلة أنشطته […]. يبقى أن نرى من سيكون المخدوع في النهاية: النحاس أم حسن البنا».

لجأت السلطات البريطانية أيضًا إلى باحثين متخصصين في لغة البلاد وثقافتها. من بين هؤلاء جيمس هيوارث-دن، الذي قدّم تقريرًا إلى ديوان السفارة بعنوان «الفاعلون السياسيون الجدد في مصر». في هذا التقرير، لخص أسباب نجاح الإخوان المسلمين بين أفراد الشعب، مشيرًا إلى هيكلهم التنظيمي الهرمي المحكم، ودعمهم من قبل شخصيات مؤثرة على المستويين المحلي والوطني، وفعاليتهم في الدعاية، والكاريزما الشخصية لحسن البنا، بالإضافة إلى التدريب الأيديولوجي للدعاة الشباب. بدا الكاتب [دن] معجبًا بقدرات الإخوان التنظيمية، حيث أشار إلى أن: «هذا بلا شك أفضل تنظيم من نوعه رأيته على الإطلاق؛ فهو يتمتع ببرنامج قوي للغاية واستراتيجية سياسية متينة. يبقى أن نرى مدى تأثيره».

إلى جانب هذا الاتفاق الملتبس مع الوفد، قام حسن البنا أيضًا بمحاولة تقارب مع البريطانيين. وأفاد جيمس هيوارث-دن، وهو مقيم بريطاني يُعتقد أنه كان له دور في هذه المفاوضات [أشار لنقطة مقاربة ريتشارد ميتشل في كتابه، حيث قال: «دن كان مشاركا في جزء من تاريخ الحركة، يجب اعتباره مصدرًا أوليا/رئيسيا». وسآتي في تفصيل مشاركة دن في المفاوضات في المقالة القادمة]، بأن البنا استخدم هذه الخطوة كـ «مناورة لخداع السلطات وكسب الوقت». وأوضح أن البنا «أوحى عبر بعض الأشخاص بأنه مستعد للتعاون مع البريطانيين، وأعطى انطباعًا بأنه قد يكون مهتمًا بالحصول على نوع من التعويض المالي». إلا أن دن يضيف: «لكن لا شيء كان أبعد عن الحقيقة؛ لم يكن لديه أي نية لأخذ المال من الكفار» [وأظن هذا الاقتباس كان من كتاب «الاتجاهات»]. وأكدت أجهزة الاستخبارات العسكرية هذا التفسير، وخلصت إلى أن محاولة التقارب قد باءت بالفشل، حيث تذكر: «من الواضح أن حسن البنا كان مدفوعًا بالخوف أكثر من رغبته الحقيقية في التوصل إلى اتفاق». انتهى.

خلال الحرب العالمية الثانية، وتحديدا بين عامي ١٩٤١م-١٩٤٣م حين كانت الحرب في أوجها، كانت بريطانيا تسيطر فعليًا على مصر وتخشى أي تحركات قد تؤدي إلى اضطرابات سياسية أو تحالفات مع دول المحور (ألمانيا وإيطاليا وغيرها). كانت هناك مخاوف بريطانية من تقارب الإخوان المسلمين مع جهات معادية–والذي دفع السلطات البريطانية إلى اتخاذ إجراءات مثل اعتقال حسن البنا ونائبه السكري في ١٩٤١م وإغلاق بعض منشورات الإخوان ومحاولة تفكيك الجماعة من الداخل. في هذه الفترة قام حسن البنا بمحاولة للتقارب مع البريطانيين (تشير رواية «الإخوان» إلى أن البريطانيين هم من حاولوا التواصل مع حسن البنا وليس العكس.) مدفوعًا بالخوف لكسب الوقت ولتكون يداه حرتان لمواصلة أنشطته. وقد لعب دن دورا في المفاوضات كما سأناقش في المقالة القادمة، وقدم تقارير متعددة عن الجماعة وتنظيمها وعن شيخها حسن البنا.

تقارير أخرى من مكتبي الخارجية والحرب أناقشها في المقالة القادمة ستبدد الغشاوات، وتستكمل أطروحتي ستيفاني ويتشارت ومارغو دازي القيمتين.

بعد فترة قليلة من نشر العميم دراسته ضمن ترجمة دار جداول للكتاب، كتب رضوان السيد مقالته «هيوارث دَن وسيد قطب والإخوان المسلمون جهد تأسيسي بنى عليه كل اللاحقين خاصة ريتشارد ميتشل» والتي أشرت لها في هامش أول صفحة من المقالة الأولى في هذه السلسة، وذهب إلى أن دن وصل إلى مصر لأول مرة في الثلاثينيات، وليس في العشرينيات، وهذا خطأ بين وقع فيه العميم أيضا. كما رأى رضوان أن دن بدأ متابعة الإخوان بتكليف رسمي، وأن ذلك كان في عام ١٩٣٩م، حيث يقول: «إن الذي أراه أن الرجل كان مكلفًا بمتابعة "الإخوان" منذ عام ١٩٣٩م». والثابت أن دن كتب تقريره الأول عن الإخوان أواخر ١٩٣٩م وأوائل ١٩٤٠م طواعية واجتهادا، ولم يُكلَّف بمتابعتهم رسميًا إلا بعد هذا التقرير بعدة أشهر، في النصف الأول من عام ١٩٤٠م، وذلك في إطار مهام أخرى أُسندت إليه.

رضوان السيد، في المقالة ذاتها، استنتج أن دن في الاتجاهات «اختار لها العنوان العام إيهامًا بأنها ستكون بداية سلسلة من الكتابات عن الاتجاهات المختلفة في مصر في السياسة والاجتماع والدين!» والواضح أن دن لم يُوهِم، وإنما رضوانُ توهَّم. فقد كان الاتجاهات بدايةَ سلسلةٍ كتبها دن عن دولٍ مختلفة، أفردَ لكلِّ دولةٍ موضوعًا معينًا، وخصَّ هذا الكتاب بالحديث عن بعض الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر بحكم اطلاعه عليها، وذلك بعد أن ألَّف عن الاتجاهات التعليمية والأدبية في مصر.

هذه ليست الأخطاء الثلاثة الوحيدة التي وقع فيها الدكتور رضوان السيد في مقالته عن هيوارث دن.

فثمَّة خطأٌ رابعٌ توهَّم أنه قرأه في دراسة البحاثة العميم، وخطأ خامسٌ كان نتيجةَ افتراضٍ خاطئ منه، وسأبدأ بهما وبمناقشتهما المقالة القادمة.

وللحديث بقية...