يُعرّف الظلم البنيوي بأنّه شكل من أشكال الظلم يتجلّى في أنظمة وقواعد مجتمعية راسخة تسبب عدمَ المساواة والاضطهاد لمجموعات معيّنة من الناس، ويمكن أن يشمل هذا الظلم التمييزَ العنصريّ والتمييزَ الجنسيّ والظلمَ الطبقيّ وغيره. وبالتالي، فإنّ هذا النوع من الظلم لا يعدّ مجرّد فعلٍ فرديّ، بل نظامٌ شامل يستند إلى الأعراف والقوانين والمؤسسات التي تُحابي مجموعةً على حساب أخرى.
يُعدّ الفيلسوف الألماني توماس بوغه (Thomas Pogge) من أبرز من تناول هذا المفهوم في كتابه "الفقر العالمي وحقوق الإنسان"، حيث يشرح كيف تُفرَّغ المبادئ الإنسانية من مضمونها الحقيقي، وتُعادُ تعريفات الحقوق – ومنها الحقّ في الحياة – كامتيازٍ سياسيٍ مشروط، لا كحقٍ طبيعي لا يمكن التنازل عنه. ويؤكّد أن «النظام الدولي لا يكتفي بعدم معالجة الفقر والمعاناة فحسب، بل يساهم فعلياً في إنتاجهما وهيكلتهما من خلال مؤسساته وسلوك فاعليه الرئيسيين».
ما يدعو إلى استحضار هذه المقدّمة ما تشهده غزة منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 من حربٍ إبادة تتجاوز منطقَ القصف والدمار المعتاد، لتدخل في مستوى أكثر خبثاً ووحشيّة عبر حرب التجويع الممنهجة التي باتت استراتيجية إسرائيلية مُحكمة تُستخدم لإخضاع مجتمعٍ بأكمله.
إنّ ما يجري في غزة اليوم هو إعادة إنتاج صارخة للمعادلة الاستعمارية الكلاسيكية التي تقوم على السيطرة على الأجساد من خلال حرمانها من أبسط ضرورات البقاء، أي عملية تحويل الطعام والدواء من حقوقٍ أساسية إلى امتيازاتٍ مشروطة بالخضوع السياسي، وهو ما يجعل منه جزءاً من سياسة إبادةٍ شاملة تتعمّد إنهاك الجسد الفلسطيني واستنزافه تمهيداً لإخضاعه أو دفعه إلى التهجير القسري. فوفق بيانات صادرة عن منظمة اليونيسيف، فإنّ قرابة 470 ألف فلسطيني في غزة وصلوا إلى المرحلة الخامسة على سلّم المجاعة، وهي أعلى درجة في التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي، وتُعدّ «كارثية» من حيث الأثر الإنساني. والأسوأ من ذلك أنّ 71 ألف طفل بحاجةٍ ماسة للعلاج من سوء التغذية، رفقة قرابة 17 ألف أمٍ يواجهن مصيراً مؤلماً.
هذه الأرقام ليست مجرّد إحصاءات، بل مرآة لسياسةٍ مقصودة تسعى لتفريغ الجغرافيا من سكانها عبر «هندسة التجويع»، وهي نظام إسرائيلي دقيق يتحكّم في مستويات الغذاء المسموح بدخوله إلى قطاع غزة، وهو ما أكّدته وكالة الأونروا بقولها إنّ ما تسمح به إسرائيل من الدقيق والمواد الغذائية لا يلبي سوى 6% من حاجة السكان اليومية. هكذا تقترب إسرائيل من تحقيق رهانها في إنهاك الأجساد، كي لا تقوى على حمل الأرواح المفعمة بالصمود والمقاومة، وتحويل الكرامة إلى ترف لا يستطيع الجائعون الدفاع عنه.
وبالتالي، إنّ ما يتعرّض له الفلسطينيون في غزة اليوم يعيد إلى الأذهان ما عُرف تاريخياً بـ«حروب التجويع»، وهي سياسةٌ استخدمتها قوىٌ استعمارية غربية ضد شعوب الجنوب، تقوم على تحويل الجوع إلى سلاح مركزي في إخضاع المجتمعات من خلال فرض الحصار، ومنع دخول الغذاء وتدمير المحاصيل أو حتى استهداف قوافل الإغاثة. لكن إسرائيل اليوم تضيف إلى هذا السجلّ الوحشي لمستعمرات الجوع بصمتها الإجراميّة الخاصة، عبر جمع الجائعين في أماكن توزيع الغذاء ثمّ قصفهم بالطائرات أو المسيرات.
وفي هذا السياق، قال البروفيسور أومير بارتوف، أحد أبرز المتخصصين الدوليين في دراسات الهولوكوست والإبادة الجماعية، وأستاذ التاريخ في جامعة براون في أميركا، إنّ الحملة العسكرية الإسرائيلية المستمرّة في قطاع غزة ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني.
انطلاقاً ممّا سبق، فإنّ الوضع في غزة يتطلّب تحرّكاً دولياً عاجلاً لا يكتفي بإلقاء اللّوم أو تقديم الإدانة، بل يستدعي إجراءاتٍ حازمة لكسر الحصار ووقف سياسة التجويع المنظمة ومحاسبة الاحتلال على جريمة استخدام الجوع كسلاح إبادة جماعية. فكلّ يوم يمرّ هو فصل إضافي في مجزرةٍ بطيئة تُرتكب بدم بارد على مرأى ومسمع من عالم قرّر أن يكتفي بالمشاهدة.
لقد بات واضحاً أنّ سياسة التجويع ليست عارضاً طارئاً، بل خيارٌ إسرائيلي محسوب ضمن استراتيجية الإبادة، وإن لم يتحرّك العالم — لا بالكلمات بل بالأفعال — فسيُكتب هذا الفصل الدموي من التاريخ على أجساد الأطفال بأقلام الجوع وبصمتٍ رسمي عربيٍ ودولي مريب.























التعليقات