إيلاف من بيروت: يحيّرنا ملحم بركات بين الدمعة والإبتسامة في وداعه، كما استفزنا دائما بين الغضب والإعجاب في حضوره. صعبٌ هو بتركيبته بين جينات نوتاته و"شطحاته" الهجومية. والأصعب هو فراقه وقد توقف برحيله قلب هادر صدح حباً ووطنية.. فهذا الرجل الشرقي الوقور الثائر بشجون مشاعره ومغامراته التلقائية استطاع بتفرده أن يُبدع في المسافة من العقل إلى الجنون! 

يغتال "أبو مجد" الرحيل بمجد حضوره.. فيحلّق مغرِّدا" بأسمى الجمل الموسيقية نجم لا يأفل نجمه ولن ينطفئ سراج ألمعيته لأنه أثبت بفنه كلام أغنيته "الدهب يا حبيبي بيضلو دهب.. مهما قالوا عنو بيضلو دهب"..! 

لا، لن يعاتب جهل أقلامٍ تصطاد وجع الآخرين وتحاول عبثاً التهام عظمة الكبار فلا تردعها القيم عن اتهامهم بمرضٍ نفسي! 
لا لن يسمح لهم بالنيل من كبريائه لأنه سيبقى بعليائه يغنّي "بدك مليون سنة تا تعرف أنا مين"..! أخاله يمسح الدمع عن مُقل محبّيه، فيخاطبهم قائلاً: "أعطيتكم مني زاداً لأجيالٍ لتربوا أبناءكم على ذائقة الفن الأصيل..!". 

نعم، متعصبٌ كان للأغنية اللبنانية التي أعطاها الحب الكبير.. متطرفٌ كان بحبه لوطنه واندفاعه فانبرى يغني له ويتغنّى فيه..
نعم، صادمٌ كان بالتعبير عن آرائه فالصادقون لا يجيدون في كلامهم فن التجميل! وحريّ بمن سمح لنفسه أن يتاجر بمرضه وينصّب نفسه قاضيا ًبعد رحيله أن ينظر بمرآة ذاته عله يسمع ضجيج ضعفه وزلات لسانه ويرى تطرفه الذي يحاول أن يخفيه! وإن كنا مهنيا لا نوافق على قسوة ألفاظه وغطرسته برفض النقد وهجومه المباشر على العديد من زملائه الفنانين، فعلينا أن نحترم رحيله ونفصل بين شخصيته المثيرة للجدل والموسيقار المبدع فيه. لأنه فوق كل الملاحظات باقٍ بكل نوتة عزفها، بكل لحن أطلقه، بكل أغنية أطرب فيها الملايين... إنه أحد آخر عمالقة زمن الفن الجميل الذي أثرى الأغنية اللبنانية صوتاً ولحنا"، وعرفته المسارح ممثلأ ومغنياً، وستذكره المنابر خطيباً عفوياً يعبّر عن أفكاره ومكنونات ذاته بلغةٍ بسيطة تحاكي الرجل القروي الذي انطبع فيه! 


نعم، أحب من أحب وكره من كره و"شتم من شتم " وتزوج وطلق وعاش علاقات غرامية ربما كأي "ديك شرقي"..! لكنه كان وسيبقى علامةً فارقة وسيشكل بفنِّه مدرسةً موسيقيةً لا تشبه إلا تميّزه، بجملته الموسيقية التي تحمل هوية مؤلفها بوضوحٍ في مطلع كل معزوفةٍ وأغنية من سجله الذهبي. فهو ليس موهبةًً عابرة، بل يشكِّل بحدِ ذاته سيمفونية القرن التي ترجمت العبقرية بنغماتٍ تطورت بفنها بمنظور الفن الأصيل..

ملحم بركات كيف نقول وداعاً بحضورك الطاغي فيما "يعذبنا صمتك"بغيابك الجسدي؟! فرحيلك يبدو حلماً حين نستشعر الثورة بصوتك الصارخ "يا ليل انجلي عتمك مش الي..يا شمس اغزلي اسمي على ابراجك.."!.. يؤلمنا أن "الزمان قد حكمك"، وأن القدر لم يمهلك، بل عزف عنك سيمونية الرحيل ...وآخر الكلام هو كلام أغنيتك القديمة الحاضرة "راح الليل... وصوتك بعدو هون..."!

فيما يلي رابط أغنيته "راح الليل":