ليست هذه المرة الأولى التي يتحدى فيها أشرف غريب الأفكار الراسخة الشائعة بين الناس، بمن فيهم الفنانون والإعلاميون، عن نجوم الفن في مصر.

هذه المرة تحلى غريب، رئيس تحرير مجلة الكواكب السابق والأمين العالم الحالي لمركز الهلال للتراث الصحفي التابع لدار الهلال المصرية، بقدر أكبر من الجرأة على تحدى ما قال إنه "كثير من الأساطير التي تحيط بالممثلين اليهود في مصر". وفي كتابه الجديد " الممثلون اليهود في مصر" يسعى الناقد السينمائي الشهير "لتحطيم هذه الخرافات بالمعلومات ."

يقول غريب لبي بي سي إنه على عكس الصعوبات التي واجهها في كتابيه الأخيرين "الوثائق الخاصة لليلى مراد" و، فإن تدقيق تاريخ الممثلين اليهود في مصر كان "مهمة شبه مستحيلة"، والسبب هو "ندرة المعلومات وانتشار الكثير المغلوط منها بين الناس وحتى في الوسط الفني بعد انتشار المواقع الالكترونية غير المهنية التي تروج لأخطاء كارثية بلا تدقيق".

وتعود أهمية الكتاب الجديد إلى أنه أول توثيق مُدقق لدور الممثلين اليهود في تاريخ الفن السينمائي المصري. واستند فيه الكاتب، الذي بات مرجعا رئيسيا للتاريخ الفني المصري، إلى ما وصفه بنهج صارم في التحقق من المعلومات.

وبخلاف الشائع، فإن عدد الممثلين اليهود حتى عقد الأربعينيات، الذي أمكن لغريب حصره، يوازي إن لم يتجاوز عدد الممثلين الأقباط عل مدى تاريخ الفن في مصر، والأكثر من هذا إن عددهم في بعض الفرق المسرحية، كما عند جورج أبيض وسلامة حجازي "كان يفوق مثيله من المسلمين ربما بسبب عدم حماس المصريات، مسلمات وقبطيات، للظهور على خشبة المسرح"، حسبما يؤكد غريب.

"الدين لله والفن للجميع"

امتهن هؤلاء الفن في مصر وهم، ومختلف أهل الفن حينها، على قناعة بمبدأ الدين لله والفن للجميع، كما يقول الكاتب، الذي بات مرجعا في تاريخ الفن في مصر.

وكل فصول الكتاب، تقريبا، تتضمن إشارات إلى صعوبة تقصى الحقائق عن هؤلاء الممثلين. ورغم هذا، فإن الكاتب أصر، كما يقول، على السعي للكشف عن التاريخ الحقيقي للممثلين اليهود في مصر "باعتبارهم جزءا من الحركة الفنية في بلادنا يجب أن يوضع في حجمه الطبيعي دون إفراط في تقدير حجم هذا الدور ، كما يفعل مناصرو إسرائيل أو تفريط فيه كما اعتاد الباقون".

ولم يعرف فن التمثيل في مصر أي اسم جديد سوى الأخوين جمال وميمو رمسيس اللذين ظهرا ظهورا عابرا مع نهايات الخمسينيات، أما كل الأسماء اليهودية الأخرى، على كثرتها، فهي ابنة النصف الأول من القرن العشرين، كما يؤكد الكتاب.

وكانت حرب 1948 بين العرب واليهود في فلسطين وقيام دولة إسرائيل نقطتين فاصلتين في تاريخ الممثلين اليهود في مصر.

يقول غريب إنه "منذ أن غيبت السياسة والأطماع العنصرية الممثل اليهودي عن المشهد الفني في مصر، ومع مرور السنين، أصبح الغموض مسيطرا على أي حديث عن هؤلاء، وباتت المغالطات والأخطاء هي السائدة لدى معظم من تصدوا للكتابة في تاريخ الفنانين اليهود في مصر".

"أسرار جديدة عن ملاحقة المخابرات المصرية" لعبد الحليم حافظ وسعاد حسني

ويعتقد بأن السياسة لعبت دورا في اختفاء المعلومات عن الفنانين اليهود في مصر. ويرى غريب أنه "ربما يكون قد تم إخفاء المراجع الدقيقة عن علاقة اليهود بالفن في مصر والعالم العربي لأسباب تتعلق بالحساسية السياسية التي صاحبت الصراع العربي الإسرائيلي حتى أن نجمة كبيرة في حجم راقية إبراهيم لا أحد يعرف عنها شيئا حقيقيا متفقا عليه منذ مغادرتها مصر عام 1954".

"تخابر لمصلحة إسرائيل"

ومن بين المعتقدات الشائعة التي يفندها الكتاب ما شاع في مصر والعالم العربي عن يهودية النجم الشهيرعمر الشريف. ويكشف خطأ هذا الاعتقاد ويؤكد أنه كان كاثوليكيا مارونيا، وتحول إلى الإسلام في بدايات الخمسينيات عند اقترانه بالممثلة المعروفة فاتن حمامة، ما أغضب والده وأصابه بمرض السكري.

كما راج في مصر أن الممثلة والراقصة المعروفة كيتي، التي اتُهمت بالتخابر لمصلحة إسرائيل، كانت يهودية . غير أنها كانت "مسيحية كاثوليكية هاجرت من مصر هجرة طبيعية بعد منتصف الستينيات عائدة إلى بلادها، اليونان، وبقيت بها حتى عام 2000 " ، وفق ما يؤكد الكتاب نقلا عن الملحق الثقافي اليونانى السابق في القاهرة وصديقتها الممثلة والراقصة الشهيرة نجوى فؤاد.

وحسب الكتاب، فإن عددا كبيرا من الممثلين اليهود حرص على تغيير اسمه. وضرب أمثلة على ذلك بالممثلة راشيل إبراهام، التي أصبحت راقية إبراهيم، وليليان فيكتور كوهين، التي أصبحت كاميليا، وهينريت كوهين التي غيرت اسمها إلى بهيجة المهدي، وتوجو مزراحي إلى أحمد المشرقي، ونظيرة موسى شحادة إلى نجوى سالم .

ماذا وراء هذا التغيير في الأسماء؟. يقول غريب إن "الأسباب لم تكن دينية أو اجتماعية أو حتى سياسية ، بل لأسباب فنية تستهدف السعى للبحث عن اسم شهرة أكثر سهولة".

ويشير إلى أن ممثلين مصريين كثيرين غير يهود فعلوا الشيء نفسه مثل أحمد رمزي وشادية ونور الشريف.

هل كانت ليلى مراد إسرائيلية فعلا؟

ويكشف الكتاب عن أنه من بين كل الممثلين اليهود الذين عرفتهم مصر، لم يهاجر إلى إسرائيل بعد إنشائها سوى ثلاث ممثلات هن سرينا إبراهيم، أخت الممثلة نجمة إبراهيم، وجراسيا قاصين، شقيقة الممثلة صالحة قاصين ، ومطربة وممثلة ثالثة هى سعاد زكى.

أشرف غريب
BBC
غريب يؤكد صعوبة مهمة تدقيق المعلومات عن الفنانين في مصر.

ويقول غريب إن "كلا من نجمة وصالحة تبرأتا من اختيهما وظلتا ترفضان الحديث عنهما بعد هجرتهما من مصر إلى فلسطين، بينما عاشت الثالثة حياة قاسية هناك بعد أن كانت واحدة من ألمع مطربات عصرها فى زمن أم كلثوم."

ويؤكد الكتاب أن ليلي مراد لم تكن إسرائيلية رغم أن شهادة إشهار إسلامها تشير إلى ذلك بوضوح. وأحد أدلته على ذلك أن الإشهار جاء قبل قيام دولة إسرائيل. ويؤكد غريب أن الفنانة المحبوبة "كانت تتمتع بالجنسية المصرية الكاملة قبل إسلامها بسنوات".

ويضيف أن "فرعا من أسرة ليلى مراد والذي هاجر إلى إسرائيل منذ أكتوبر/تشرين أول عام 1949 ظل حتى وفاتها لا يعترف بإسلامها، بل بذل محاولات مضنية للتواصل معها وإقناعها بالهجرة إلى إسرائيل وممارسة الطقوس اليهودية ، لكنهم اعترفوا بأنهم لم يقابلوا سوى بالصد من جانب ليلي التي كانت تعتز بإسلامها ومصريتها".

وحسب الكتاب، فإن "اأكثر دهشة هو أن أولاد عمومة ليلى مراد المقيمين في إسرائيل لا يعترفون بإسلام ابنيها أشرف وزكي، وينتظرون أيضا عودتهما إلى أرض الميعاد حسب تعبيره، رغم أن كلا من أشرف أباظة وزكي فطين عبد الوهاب من أبوين مسلمين".

وفي السياق نفسه، يبرهن غريب على أن منير، شقيق ليلى الذى برع فى مجالي التمثيل والتلحين ، لم يتحول إلى الإسلام من أجل الزواج بالفنانة سهير البابلي،. كما أنه لم يرتد عن الإسلام قبل وفاته في باريس في أكتوبر/تشرين الأول عام 1981 حسبما أشيع. ويكشف للمرة الأولى عن أن منير مراد قد دفن بجوار رفيق نجاحه المطرب الراحل عبد الحليم حافظ فى مقبرته الخاصة موضحا الأسباب التى دفعت أسرته لاتخاذ مثل هذا القرار .

عبد الناصر والملك فاروق وكاميليا

ويحقق الكتاب الروايات الشائعة بشأن اضطهاد" حكومة الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر للممثلين اليهود. ويضرب مثالا بما تردد عن دور حكومة ثورة 23 يوليو /تموز 1952 في الترويج لشكل العلاقة بين فاروق، ملك مصر السابق، والفنانة اليهودية كاميليا التي كادت تنتهي بالزواج رغم رفض حكومة الملك.

ويثبت الكتاب أن العلاقة كانت قائمة بالفعل ولم تؤد حكومة الثورة أي دور في استغلال العلاقة لتشويه الملك وإثبات أنه كان فاسدا، ما كان يستوجب الثورة عليه. كما يبرهن الكتاب بدليل آخر وهو استمرار اثنتين من الممثلات اليهوديات فى نشاطهما الفنى حتى نهاية الستينيات ومطلع السبعينيات من القرن الماضى "من دون أية مضايقات من جانب الحكومة المصرية."

وحتى عام 2015، ظلت الصحافة الإسرائيلية تتحدث عن أن النجمة اليهودية الشهيرة نجوى سالم لم تعتنق الإسلام بل ماتت يهودية وأنها كانت تميل إلى إسرائيل. غير أن الكتاب يسرد "أدلة عدة" على أنها "ماتت مسلمة، ولم يمنعها أصلها اليهودي من أن تؤدي دورا وطنيا نالت عنه احتراما وتقديرا، شمل تكريما من الرئيس المصري الراحل أنور السادات بسبب تشجيعها بأشكال مختلفة للجيش المصري بعد حرب أكتوبرعام 1973".

يقول الكاتب إنه لم يكن معنيا بأن يلبس أحدا من الممثلين اليهود في مصر ثوب البطولة أو ينزع عن غيره وطنيته. ويؤكد أنه " لا تبييض صورتهم كان هدفا، ولا تخوين بعضهم كان غاية". ويوضح أن هدفه هو "الحقيقة فقط ولا شىء غيرها في هذا الملف الغامض". وهو يرى أن هؤلاء الممثلين الآن فى ذمة التاريخ أمام المصريين والعرب الذين ربما يسمعون عن بعض أسماء هؤلاء الممثلين اليهود للمرة الأولى .

وحسب دار الهلال، فإن الكتاب الجديد هو تطبيق لنموذج "الكتاب الصحفى " الذي يتبناها مركز الهلال للتراث، إذ يجمع بين روح البحث وشكل المطبوعة الصحفية القائم على الجاذبية والإبهار والاهتمام بالصورة والعناصر الإخراجية الأخرى .